الأمّ الكبرى

أثناء دردشة خاصة بيني وبين صديقة، وأمّ حنون الدكتورة طليعة جواد، بدأت ذكرياتها تنضح بعبق الماضي وأصالته، ثم بدأت تعاتبني على تقصيري في الكتابة لها، وكان العتاب رائعاً على قدر الشوق والمحبّة. فهي تعتبرني كابنتها الغائبة.

بدأت حبّي مع اعتذاري بأن عصباً يحكم يدي إلى عنقي يمنعني غالباً من الكتابة التي أمست ترهقني وتتعب أصابعي المرتجفة.

هنا، قالت لي: «الله يردّلك تعب كلّ إصبع بكلمات الناس تصفق من عظامها». وقالت: «يجب على الكتابة والقلم أن يتركا فيك أثراً ولو كان أليماً».

قلت لها: «لكن الألم لا يفارقني».

فقالت: «أنا كنت طبيبة أسنان في زمن لم تكن فيه تقنيات هذا العصر، وبدأت أزاول مهنتي منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي. وقد تركت كلابات قلع الأسنان أثراً في يدي، وما تزال إصبعي ملتويةً بسببها، ولكنني مسرورة جداً لأن

هذه المهنة ـ وعبر إخلاصي لها ـ أعطتني الاسم والمجد والاحترام. وجعلتني أفتخر بعطائي لوطني وصدقي لمهنتي، ولو أنّ هذه المهنة قد أخذت بعضاً من إصبعي، الأمر الذي قد تتفاداه وتتحاشاه صورة الأنثى هذه الأيام».

لقد لفت انتباهي وقلبي هذا الأسلوب من طبيبة عريقة. أسلوب ساحر في دمج الأخلاق مع الفنّ مع العمل مع الحكمة. ولعلّ هذا ليس بغريب عليها. ربما كان نتيجة تأثرها بالمبدعين الذين التقت بهم كنزار قباني وكوليت خوري أثناء زيارتهما كلّية الطبّ حينذاك. وربما اقتبست من شعلة عبد السلام العجيلي صديق

العائلة والمقرّب من زوجها. وربما كان لقاؤها المؤثّر بالأديبة غادة السمّان جعلها تؤمن أنّ العمل أكثر الألوان رسماً للشخصية.

إن هذه الطبيعة المميزة والاجتماعية والوطنية لازمتها منذ بداية تعيينها في مدينة الرقة، وذلك على رغم المشقة المترتبة من جرّاء بُعد مكان التعيين عن مكان النشأة. وهناك، كانت كلما زادت أصابعها التواءً، زادت همّتها إخلاصاً. وكلما زاد همّها زادت همّتها، شأنها شأن بنات جيلها اللواتي كنّ يتحدّين الظروف والعوائق. ومنهن أعزّ الصديقات لها كمثل «عايدة» و«منتهى»، ابنتا سلطان باشا الأطرش اللتان كانت تجمعهما معها علاقة وثيقة جعلتها تلبّي دعواتهما إلى السويداء للقاء مطوّل وكلام وتبادل الهِمم والهموم، وفي جوّ العائلة وتنوّع روّادها وزوّارها.

أيتها الطبيبة العريقة والأديبة المرهفة والأمّ الحنون. إنّ نضالك في مهنتك وإخلاصك لها جعلاني ألتفت الآن إلى كلّ مناضل في تلك الحرب التي تعصف ببلدنا، وإلى كلّ جنديّ باسل تركت الحرب في جسده أثراً لم يزده إلا إصراراً على الصمود وافتخاراً به. فمنهم من بُترت قدمه، ومنهم من فقد نظره، ومنهم من خسر إحدى يديه. لكن ذلك يذكّرهم ويذكّرنا بعظمة موقفهم وعلوّ همتهم.

إنه جيل الأمهات، جيل الدكتورة طليعة جواد وأمثالها، وجيل الأولاد والأحفاد ممّن ساروا أوفياء لأمهاتهم وللأمّ الكبرى «سورية».

ولكن كيف هي الشام؟ يجيبنا شاعر الشام اليوم:

أبكيك يا شام قلبي مثخن قلمي

قفر… ألا أحد في الشام يبكيني!

سحر أحمد علي الحارة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى