واقع دار الفتوى… عام على انتهاء الأزمة
يوسف الصايغ
عامٌ مرّ على انتخاب القاضي الشيخ عبد اللطيف دريان مفتياً للجمهورية اللبنانية خلفاً للمفتي السابق الشيخ محمد رشيد قباني، لتنتهي بذلك أزمة دار الفتوى التي دامت أكثر من عامين. وفي سياق الحديث عن إنهاء هذه الأزمة لا بدّ من الإشارة إلى الدور المصري الهامّ في إنجاح تسوية دار الفتوى، وتحديداً الدور البارز الذي لعبه قنصل مصر في لبنان المستشار شريف البحراوي الذي كانت بصماته واضحة في هذا السياق، كما تجدر الإشارة إلى أنّ ما ورد مؤخراً في صحيفتنا من معلومات تتناول المستشار البحراوي، إنما تبيّن أنها تسريبات مقصودة تأتي في سياق محاولات التعمية على إنجازاته، ومن ضمنها دوره في إنجاح المبادرة التي أنهت مشكلة دار الفتوى. فكيف يبدو المشهد بعد مرور عام على وصول القاضي دريان إلى سُدّة الإفتاء؟
مراد
في هذا الإطار، يرى رئيس حزب الاتحاد الوزير السابق عبد الرحيم مراد في تصريح لـ«البناء» أنّ المبدأ الذي تمّ العمل عليه لحلّ أزمة دار الفتوى قبل عام «تمثل بكيفية تأمين وصول شخصية تحوز إجماعاً محلياً وعربياً، ونجحنا في ذلك من خلال تزكية القاضي الشيخ عبد اللطيف دريان، وهنا أودّ أن أشير إلى الدور المصري عبر القنصل العام المستشار شريف البحراوي الذي تعاونا وإياه سوياً لإنجاح مبادرة الأزهر، وأثمر التعاون بلورة حلّ للأزمة، كما أنّ التواصل مع مصر وجامع الأزهر لا يزال قائماً، ما يعكس العلاقة الجيدة».
وعلى صعيد هيكلية العمل داخل الدار بعد وصول المفتي دريان، يلفت الوزير مراد إلى أنّ المفتي «قام بإجراءات داخلية ونحن لم نتدخل فيها كونها شأناً تنظيمياً وإدارياً داخلياً». ويضيف: «يقوم المفتي مشكوراً بتعميم خطاب ديني معتدل، إنْ من خلال تعميماته أو عبر خطب الجمعة التي تشكل منبراً للإسلام المعتدل، في ظلّ الهجمة التكفيرية التي تستهدف تشويه صورة الإسلام الحقيقي، ونحن نسجِّل لسماحته مواقفه في هذا الإطار والتي تعكس فكره المتنوّر والمعتدل في وجه موجة التطرف».
وفي ما يتعلق بالعمل على انتخاب مفتي المناطق، يدعو الوزير مراد إلى «عدم اختيارهم سلفاً»، معرباً عن رفضه «طريقة تشكيل الهيئات الناخبة». كما يدعو إلى «تنسيق الأمور وعدم تفصيلها على قياس فريق سياسي مُحدّد يسعى إلى بسط سيطرته على دار الفتوى».
من جهة ثانية، يتمنى رئيس حزب الاتحاد على المفتي دريان «أن يبقى على مسافة واحدة من جميع الفرقاء السياسيين على الساحة اللبنانية، ونحن نعلم أنه يتعرّض لجملة من الضغوطات يمارسها فريق سياسي معروف، لكنه يعمل على الحدّ منها ومراعاة الأطراف كافة من خلال انتهاج سياسة معتدلة، ونسجل له موقفه المحايد في ما يتعلق بالقضايا الداخلية».
سوسان
أما مفتي صيدا وأقضيتها الشيخ سليم سوسان، فيشير في تصريح لـ«البناء» إلى أنّ المفتي دريان «يحمل منذ انتخابه قبل عام وحتى اليوم حملاً كبيراً وأعباء متراكمة»، ويلفت إلى حجم هذه المسؤوليات الملقاة على عاتق المفتي «في ظلّ الظروف التي يعيشها الوطن والمنطقة ككلّ، وقد جاء انتخاب المفتي دريان بمثابة الإنجاز، وهو يشكل الضمانة للجميع».
كما يلفت إلى «أنّ انتخابات المجلس الشرعي الأعلى كانت أولى الخطوات التي تمّ اتخاذها في سياق إعادة هيكلة العمل داخل دار الفتوى، حيث بدأ المفتي دريان تحمُّل المسؤوليات»، مؤكداً ضرورة «العمل من خلال خطة شاملة إلى تنمية الأوضاع وضبطها، وخصوصاً في ما يتعلق بالممتلكات التابعة لدار الفتوى».
ويشير مفتي صيدا إلى «أنّ العمل في الأيام المقبلة سيكون أفضل، وخصوصاً أننا نحمل إرثاً ضخماً من السنوات السابقة يتخلله الكثير من التعقيدات التي يتمّ العمل على حلها».
ويختم الشيخ سوسان، مؤكداً «الوقوف إلى جانب مفتي الجمهورية والعمل جنباً إلى جنب من أجل تحقيق كلّ ما يخدم الأمانة التي نحملها والرسالة التي ندعو إليها».
عراجي
على ضفة تيار المستقبل، يرى عضو كتلة المستقبل النيابية النائب عاصم عراجي في حديث لـ«البناء» أنّ مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان «أثبت حضوراً مميّزاً خلال عام بعد تسلّمه سدة دار الفتوى، كما كان على مسافة واحدة من الجميع وهو من خلال عمله هذا يعيد إلى دار الفتوى دورها، كملتقى للمذاهب والأديان والطوائف، كما قام بنسج علاقات مع القوى والأطراف السياسية اللبنانية كافة، وهذا يُعتبر تجربة ناجحة للمفتي خلال عامه الأول على رأس دار الفتوى».
ويؤكد عراجي على الدور الهام والبارز الذي يلعبه المفتي دريان في المرحلة الراهنة «وهو يعتبر صمام أمان من خلال مواقفه وخطبه الجامعة في التصدّي للموجة التكفيرية التي تعصف بلبنان والمنطقة، وكان له مواقف مهمة في التأكيد على دور الإسلام الحقيقي، ونحن نشيد بالدور الذي يقوم به مفتي الجمهورية في تقديم صورة واضحة عن الإسلام المعتدل، من خلال دار الفتوى التي باتت جامعة لكافة الجهات، كمرجعية دينية جامعة تنتهج خط الاعتدال سياسة لها».
من جهة ثانية، ينفي عراجي «الاتهامات التي يوجهها البعض إلى فريقنا السياسي بأنه يسعى إلى بسط سيطرته وهيمنته على دار الفتوى والتحكم بقرارها»، ويشير إلى أنّ المفتي دريان «يمارس دوره ومسؤولياته من دون أيّ ضغوطات وله حضوره المميّز على الصعيدين المحلي والعربي، وبالتالي هو لا يخضع لأية إملاءات من أية جهة سياسية، لا سيما من قبل تيار المستقبل».
ويختم عراجي بأنه لا يرى «أيّ تصرفات كيدية أو تجاوزات تقوم بها دار الفتوى في المرحلة الراهنة»، لافتا إلى أنه «لا توجد هناك أي محاولات عزل لأشخاص محسوبين على المفتي السابق الشيخ محمد رشيد قباني، وهناك من كان في الدار أيام المفتي السابق وما زال موجوداً».
عريمط
ويشير رئيس المركز الإسلامي للدراسات والإعلام القاضي الشيخ خلدون عريمط، من جهته، في حديث لـ«البناء» إلى أنّ انتخاب المفتي القاضي الشيخ عبد اللطيف دريان «ترك ارتياحاً محلياً وعربياً وإسلامياً من خلال الإجماع الوطني والعربي حول المفتي الذي تمكن، بحكمة واقتدار، خلال عام على انتخابه أن يعيد إلى دار الفتوى دورها الإسلامي الجامع والوطني الشامل، وهو يؤكد بأفعاله أنّ دار الفتوى هي المؤتمنة على وحدة المسلمين في لبنان وعلى الوحدة الوطنية، ودار الفتوى برعاية المفتي دريان هي ركن أساسي من أركان هذا الوطن، وهي دار العرب والمسلمين في بيروت».
ويضيف عريمط: «خلال العام الأول بدأ مفتي الجمهورية ورشة إصلاح حيث أجرى انتخابات للمجالس الإدارية للأوقاف الإسلامية في المحافظات اللبنانية كافة، هذه الانتخابات التي لم تُجر منذ 25 عاماً، كما أجرى انتخابات جديدة للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، وهو يشارك الآن في ورشة الإصلاح التي بدأها بإعادة النظر بكافة مجالس الأمناء والمجاس الإدارية للمؤسسات التابعة لدار الفتوى، كما بدأ منذ انتخابه بإعداد الهيكلية الجديدة لإعادة انطلاق العمل الإسلامي في مؤسساتنا من خلال التعاون والتكامل مع المرجعية السياسية للمسلمين في لبنان، ومن خلال مشاركة العلماء والمجالس المنتخبة في اتخاذ القرار لاستنهاض العمل الإسلامي الذي هو جزء لا يتجزأ من العمل الوطني».
ويتابع: «كما استطاع المفتي خلال هذا العام أن يعيد علاقات دار الفتوى إلى طبيعتها مع الدول العربية الشقيقة كافة، وقبلها مع القيادات اللبنانية على تنوّعها، وبذلك استطاع أن يعيد دار الفتوى إلى مسارها الطبيعي بعدما اختطفت في عهد المفتي السابق إلى محور إقليمي بعيد عن دور ورسالة لبنان الذي نريده أن يكون وطناً سيداً حراً مستقلاً عربياً بعيداً من المحاور المذهبية والإقليمية التي يسعى البعض لأن يكون جزءاً منها. كما استطاع المفتي خلال العام الماضي أن يعيد التوازن والموضوعية والحكمة والاعتدال إلى دار الفتوى ومؤسساتها من خلال مواقفه وخطبه وتصريحاته وتعاونه مع كلّ القوى اللبنانية، وزياراته إلى الدول العربية والإسلامية والصديقة الحريصة على أن يبقى لبنان واحة للحرية والعدالة وكرامة الإنسان، وألا يكون جائزة ترضية أو ساحة لتوجيه الرسائل الملتهبة بين القوى الإقليمية المتصارعة في هذا الشرق العربي الجريح».
حبلي
ويصف الشيخ صهيب حبلي، من ناحيته، في حديث لـ«البناء» دار الفتوى بأنها «الحاضنة والجامعة، وعليه نتمنى أن يكون مفتي الجمهورية القاضي الشيخ عبد اللطيف دريان بمنأى عن إطلاق أي مواقف تعتبر محط سجال سياسي، وخصوصاً إذا ما كانت هذه المواقف مرتبطةً بالأوضاع التي تشهدها المنطقة العربية، كما نأمل من سماحته أن يبقى على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية لأننا نعتبره حكماً وليس طرفاً مع فريق دون آخر، وخصوصاً أنّ وصول المفتي دريان إلى سدة الإفتاء جاء نتيجة تسوية تُرجمت بتفاهم سياسي محلي لكنّ بنوده لم تُطبّق بالكامل».
ويضيف: «الكلّ يعلم أنّ تيار المستقبل انقلب على المبادرة المصرية من خلال سعيه إلى الإمساك بزمام الأمور في دار الفتوى والتحكم بقرارها نزولاً عند رغبة آل سعود، لكنّ هذه المحاولات يمكن إحباطها إذا ما تمّت مواجهتها بقرار من المفتي نفسه، من خلال تأكيده أنّ هذه الدار ليست مؤسسة لفريق سياسي معيّن، ونتمنى أن يعلن المفتي دريان هذا الموقف».
وفي ما يتعلق بانتخابات مفتي المناطق، أمل الشيخ حبلي «أن تتمّ هذه الانتخابات، وفق قوانين عادلة وغير مفصّلة على قياس فريق معيّن، لأننا لا نتمنّى تكرار تجربة المجلس الشرعي الأعلى حيث تمّ العمل على إلغاء وشطب أسماء أعضاء المجلس الشرعي، ومفتي المناطق الذين كلفهم المفتي السابق محمد رشيد قباني».
كما يدعو الشيخ حبلي المفتي إلى «أن يكون صوت الإسلام المعتدل في وجه آفات التكفير والإرهاب الذي يسعى إلى تشويه صورة الإسلام عموماً، وأهل السنة خصوصاً». ويتابع: «هناك من يذبح وينفذ الإعدامات باسم أهل السنة زوراً وبهتاناً، وهذا يرتب مسؤوليات كبيرة على دار الفتوى للقيام بواجباتها في هذا الخصوص بكشف زيف ادّعاءات العصابات الإجرامية المرتبطة بالفكر الوهّابي».
بين المبادرة المصرية… والورشة الإصلاحية
بعد خلاف استمرّ أكثر من عامين بين تيار المستقبل والمفتي السابق محمد رشيد قباني، انتهت أزمة دار الفتوى العام الماضي، بمبادرة مصرية وأفضت الجهود التي قادها قنصل مصر العام في لبنان المستشار شريف البحراوي، طوال فترة شهرين، إلى انتخاب رئيس المحاكم الشرعية القاضي الشيخ محمد عبد اللطيف دريان مفتياً للجمهورية، خلفاً للمفتي السابق الشيخ محمد رشيد قباني».
وكانت أزمة دار الفتوى تتلخص في وجود مجلس إسلامي شرعي أعلى ممدّد له بعد أن انتهت ولايته وهو مناوئ للمفتي قباني الذي كان يُتهم من قبل تيار المستقبل بأنه قريب من حزب الله، وآخر منتخب موال للمفتي. وقد اتخذ الأخير قراراً بتوسيع الهيئة الناخبة لمفتي البلاد، الأمر الذي أثار حفيظة المجلس الممدّد له القريب من تيار المستقبل، ما أنذر بتصاعد الأزمة واحتمال انتخاب مفتيين للبلاد، قبل أن تنجح الجهود في سحب فتيل الأزمة.
بعد انتخابه في العاشر من آب من العام الماضي مفتياً للجمهورية، تسلّم المفتي دريان مهمّاته في الخامس عشر من شهر أيلول، وأعلن في خطاب الانتخاب تصميمه على إنهاء الانقسام الداخلي في الدار، والعمل مع المجلس الشرعي وكلّ المؤسسات الدينية، والعودة إلى مسار الألفة والمحبة لِما فيه مصلحة اللبنانيين.
عامٌ مضى على انتخاب دريان بدأ خلاله عملية إصلاحية في دار الفتوى تمثلت بانتخاب المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى في نيسان الماضي، حيث أنجزت الانتخابات وسط شبه توافق على الأسماء، أمّا على صعيد المجالس الإدارية للأوقاف فقد تمّ التوافق على انتخاب مجلس إداري للأوقاف بالتزكية يمثل الأطراف كافة.
هذه العملية الإصلاحية التي اعتمدها المفتي دريان هي الأولى من نوعها، كون المجالس الإدارية للأوقاف كانت تُعيّن من دون انتخابات ومفتي المناطق يُكلفون، حيث يستكمل المفتي العملية الإصلاحية في الدار، من خلال إجراء انتخابات لمفتي المناطق للخروج من أزمة التكليف والتعيين.