استراتيجية حرب التحرير القومية في مواجهة استراتيجية التقسيم

يقارب الباحث في الشؤون الاستراتيجية رياض عيد موضوع المؤامرة التقسيمية التي يشنّها التحالف الصهيوـ أميركي منذ عقود على الأمة السورية والعالم العربي وخصوصاً بعد عام 2011 بما يسمى الربيع العربي.

الباحث عيد بعد تفصيله المؤامرة التقسيمية أهدافاً وأدوات، يطرح البديل وهو قيام حرب التحرير القومية على مدى الهلال الخصيب رداً على مؤامرة التقسيم وخياراً وحيداً لبناء مجتمع قومي منيع.

رياض عيد

ترزح دول الهلال الخصيب وتحديداً سورية والعراق ولبنان، منذ أكثر من أربع سنوات تحت نار حرب كونية تخاض فيها وعليها بين محورين. محور المقاومة المدعوم من منظمة شنغهاي ودول البريكس وتمثل إيران وسورية والمقاومة رأس الحربة فيه. ومحور أميركا والأطلسي و»إسرائيل» وتمثل تركيا والسعودية ودول الخليج والقوى التكفيرية الوهابية رأس الحربة فيه. جنّدت أميركا وحلفاؤها في حربها الهجومية على محور المقاومة قوى التكفير الوهابي التي استقدمت من أكثر من 60 دولة في العالم بطلب وتوجيه أميركي ـ أطلسي وتمويل خليجي وتجهيز وتسهيل عبور «إسرائيلي» ـ تركي ـ أردني ـ لبناني 14 آذار . والغاية من هذه الحرب ضرب المقاومة التي أفشلت مشاريع أميركا و»إسرائيل»، وإسقاط سورية المقاومة والممانعة وواسطة العقد والعمق الاستراتيجي للمقاومة، وضرب النفوذ الإيراني باتجاه المتوسط الداعم للمقاومات، والتصدي للمشاريع الطاقوية الروسية الإيرانية، وتعطيل طريق الحرير الصينية باتجاه المتوسط، وإقامة شرق أوسط صهيوأميركي جديد اثني عرقي بديل من دول سايكس ـ بيكو، التي لم تعد تصلح للمشاريع الصهيوأميركية في المنطقة.

استعملت أميركا استراتيجية الحرب الناعمة والحروب بالوكالة للانقضاض على سورية والعراق وجندت بروبغندا إعلامية ضخمة من الفضائيات العربية للترويج للهلال الشيعي وإطلاق الحرب السنية الشيعية لتعبئة التكفيريين من كل أصقاع العالم واستجلابهم إلى المنطقة لزرع دولة داعش على نصف مساحة سورية وربع مساحة العراق، وكسرها للحدود بين سورية ولبنان والعراق، وضرب الجيش في العراق وسورية لنشر الفوضى الهدامة، وإقامة مناطق عازلة لا سلطة للدولة فيها ونشر التوحش وتهجير الأقليات وقتلهم، وضرب الهوية القومية والوطنية والنسيج الاجتماعي، والتي هي من أخطر الحروب على وحدة المجتمع حيث هوت الهوية من قومية جامعة إلى وطنية قطرية ثم فرعية دينية، ثم تفرّعت الى فرعية مذهبية.

واجهت إيران وسورية ومحور المقاومة المحور الأميركي باستراتيجية صمود لمنع أميركا وحلفائها من إسقاط أي طرف من أطراف محور المقاومة، حيث شكلت قوات الحشد الشعبي في العراق لمساندة الجيش العراقي واستطاعت أن تستعيد زمام المبادرة العسكرية في العراق، وتشكلت أيضاً قوات الدفاع الوطني في سورية لمساندة الجيش السوري حيث استعاد زمام المبادرة في محيط السويداء ودرعا وبعض مناطق الشمال. ثم انتقل هذا المحور لاستراتيجية الهجوم باشتراك الجيش السوري والمقاومة الإسلامية في الحرب في سورية وتحرير مرتفعات القلمون وجرود عرسال لتأمين دمشق وحماية لبنان.

نتج من هذه الحرب تأجيج الحالة المذهبية بعد تنظيف داعش مناطقها من غير السنة وتفجير المساجد والأضرحة. وحدوث توازن سلبي بين المحورين حيث عجزت القوى التكفيرية ومشغليها من كسر سورية أو العراق وكذلك لم يستطيع محور المقاومة هزيمة داعش حتى الآن بسبب الدعم الإقليمي والدولي لها رغم إعلان التحالف الحرب عليها. ومن خلال التدقيق في خريطة تمدد داعش وأخواتها، يظهر وكأن هناك خطوط تماس جديدة يراد لها أن ترسم، حيث فعلياً اكتملت حدود دولة داعش واكتملت مواردها الطاقوية، لأن المناطق التي سيطرت عليها غنية بالنفط والغاز ولم يبقى ينقصها إلا منفذ على البحر. وكذلك اكتملت حدود الدولة الكردية في العراق الغنية بالموارد، وهناك محاولة وصل المناطق الكردية في شمال سورية بعضها ببعض بعد احتلال تل أبيض بدعم أميركي واضح. فهل ما يجري على الأرض هو مقدمة أولية لرسم خريطة نفوذ جديدة، ستقسم عبرها دول الهلال الخصيب إلى دويلات مذهبية اثنية كما تشير خطط برنار لويس ورالف بيتر؟ وهل هذا التقسيم إن ترسخ لن يشمل الدول المجاورة وبخاصة تركيا والسعودية وبقية دول العالم العربي؟ وهل سيسمح محور المقاومة وداعميه روسيا والصين بترسيخ التقسيم وهل لهم مصلحة في ذلك؟ وما هي الاستراتيجية الواجب العمل بها لإفشال هذا المشروع.

رغم اكتمال جغرافيا الكيانين السني والكردي ومواردهما الاقتصادية، ورغم القلق من القبول بالوقائع المستجدة التي عودتنا أميركا والغرب على التعامل معها إذا أمنت لها مصالحها. إلا أن داعش كأمها القاعدة يبدو أنها خرجت عن ضبط وخطط أميركا وبعد أن تمكنت من الجعرافيا، وباتت استراتيجيتها توحيد دولتها من الهلال الخصيب إلى كل العالم الإسلامي، لا تفتيت المنطقة كما تريد أميركا. وبالتالي ستتناقض مشاريعها مع مشاريع أميركا وحلفائها تركيا والسعودية . حيث أن الدولة الكردية إن قامت ستدفع أكراد تركيا للانضمام إليها وستتفتت تركيا، لهذا صرح أردوغان بالأمس أنه لن يسمح بقيام كيان كردي على حدوده الجنوبية وسيتقدم الى شمال سورية. وكذلك إن تقسم العراق سيضم شيعة السعودية الى دولة شيعستان العراقية في الجنوب وبالتالي ستتفتت السعودية.

وتقسيم سورية والعراق سيشمل تقسيم إيران أيضا وفق مشروع برنار لويس، وستتأثر به روسيا حيث يوجد فيها 20 مليون مسلم، و22 مليون مسلم في الجمهوريات المستقلة، وستصل شظاياه الى إقليم شيانجنغ المسلم في الصين. وهذا ما لن تسمح به الدول الثلاث ومحور المقاومة لأنه يقوض مشاريعه. لذلك صرع لافروف ووزير خارجية الصين، ووزراء خارجية دول منظمة شنغهاي الذين اجتمعوا الشهر الفائت في روسيا أن داعش وصل إلى حدود محور شنغهاي أفغانستان وعلينا رسم استراتيجية مواجهة لكسره.

إلا أن التفجيرات الأخيرة التي حصلت في تونس والكويت وفرنسا، وتكاثر الأميركيين والأوروبيين والروس والصينيين الملتحقين بداعش جعلت العالم يقرع ناقوس الخطر للتصدي له. لكن استراتيجية التحالف الغربي لضرب داعش فشلت حتى الآن في تحجيمه وفشلت في تجنيد مقاتلين معتدلين لهذه المهمة، وفشلت أيضاً في تجفيف مصادره المالية والتسليحية والبشرية بسبب الموقف التركي والخليجي الداعم لداعش وعدم جدية أميركا في ذلك لاستعمالها كورقة ضغط على إيران لتقديم تنازلات في المفاوضات النووية.

فاستراتيجية محور المقاومة العسكرية هي الأجدى والأفعل في ضرب داعش وتقويضها، وقد شخص سماحة السيد حسن نصرالله الحرب بأنها حرب وجود مع القوى التكفيرية. وقدم نموذج الجيش والشعب والمقاومة لتعميمه على دول المنطقة بعد أن اثبت جدواه في لبنان وبدأ يعطي ثماره في سورية والعراق واليمن. لكن هذا النموذج يواجه تحديات عدة، المطلوب التغلب عليها كي يكتمل ويتحول الى مشروع حرب تحرير قومية تكون المقاومة عمادها الأساسي، وتشكل الحل الحقيقي لإعانة الهلال الخصيب كي ينهض ويعيد وحدته وحمايته من مشاريع التفتيت والاندثار. ونلخص هذه التحديات بالتالي:

1 – التحدي الأول لمحور المقاومة هو غياب التنسيق بين الجيشين اللبناني والسوري وبين الجيشين العراقي والسوري بضغط أميركي واضح، في حين تقيم أميركا وحلفائها غرفتي عمليات في تركيا والأردن لتنسيق العمل وقيادة العمليات. لهذا بات من الضرورة قيام غرفة عمليات واحدة تشمل جيوش سورية والعراق ولبنان والمقاومة الإسلامية وقوات الحشد الشعبي في العراق والدفاع الوطني في سورية ترسم خطط المواجهة وتقود العمليات بتنسيق كامل مع إيران، ولا تقيم وزناً لحدود سايكس ـ بيكو التي فعلياً مزقت من قبل داعش وأخواته. فحين يكون مسرح قتال داعش وأخواته يشمل العراق وسورية ولبنان بقيادة غرفة عمليات واحدة، فالمطلوب من محور المقاومة الرد بنفس الأسلوب متحداً متضامناً. ففي حرب الوجود تسقط كل الموانع والحدود.

2 – التحدي الثاني صعود التوترات المذهبية حيث يحتل هذا الهاجس مكانة متقدمة في تقدير «حزب الله» وإيران ومحور المقاومة، لأن الفتنة المذهبية هي أحد المخاطر الكبرى على مشروع المقاومة وبالتالي على مستقبل الأمة. سعى «حزب الله» محلياً وإقليمياً ومن خلال التعاون مع الجمهورية الإسلامية لإيجاد منصات ومنابر وآليات عديدة لتمتين الوحدة بين المسلمين على أسس دينية وسياسية. إلا أن السنوات الأخيرة التي تلت اجتياح العراق والحرب في سورية والتطهير المذهبي فيهما أدى الى فورة مذهبية كادت أن تقضي على التنوع الطائفي وتحرق بنيرانها الهلال الخصيب والمشرق العربي. حيث تمكن جهاز الدعاية والفضائيات الوهابية الضخمة من تعويم التصورات المذهبية لأزمات المنطقة لا سيما في لبنان وسورية والعراق. لهذا يشير الدكتور عبد الحليم فضل الله الى أن «للحزب اليوم مصلحة مهمة في الحفاظ والدفاع عن التنوع داخل المنطقة، فالقضاء على هذا التنوع هو تحدٍّ جديد يشكل خطراً على «حزب الله» وبيئته وعلى لبنان ومشروع المقاومة والحضور الإسلامي في المنطقة والعالم». وانطلاقاً من هذه المقولة، نفهم سعي «حزب الله» اليوم للدفاع عن هذا التنوع داخل المنطقة، والذي من دونه ستخسر البيئة الحاضنة لخيار المقاومة جزءاً من اتساعها واستقرارها. ومن هذا المنطلق أيضاً نفهم أن للحزب مصلحة واضحة في ترميم العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية، كجزء أساسي من سياسته الإقليمية التي ينبغي أن تنعكس بدرجة أولى تبريداً في الداخل اللبناني. إلا أن التوظيف السياسي للحرب المذهبية والمال الوهابي الكبير المصروف عليها كان أفعل من الجهد الكبير الذي بذله حزب الله وإيران. لقد كانت الطائفية والمذهبية هي المدخل الذي دخل منه الاستعمار لضرب أمتنا وتفتيت نسيجها الاجتماعي والسياسي واستلاب خيراتها منذ أكثر من مئة عام حتى الآن، ولا نزال نمر في المحنة نفسها ونعيد تجربة داوني بالتي كانت هي الداء .

3 – التحدي الثالث المشاريع التسووية المطروحة للمنطقة والتي يتم التداول فيها وهي: أما التقسيم أو تعميم النموذج البناني اللبننة أو الفدرالية كمشاريع سياسية لسورية والعراق للخروج من الفتنة بعد وهن الحكومة المركزية في بغداد ودمشق وعجزهما عن دحر القوى التكفيرية والسيطرة على كامل حدودهما. وبعد التحالف الكردي ـ الأميركي في العراق وسورية ومحاولاته بدعم طيران التحالف تطهير محيط مناطق من داعش الجزيرة كوباني عفرين وتل الأبيض للوصول إلى جرابلس وقطع طريق داعش إلى تركيا، تمهيداً لضربه، ما يعني تقليص النفوذ التركي في سورية والعراق، وبعد طرح الأكراد في العراق وسورية للفدرالية كحل. أعتقد أنه قد يؤخذ بالفدرالية كحل في سورية والعراق برعاية روسية دولية بعد إنجاز الملف النووي مع إيران والتفاهم على إنهاء داعش بعد تفاقم خطرها على العالم. هذه التسوية الإقليمية الدولية ستأخذ بنفوذ ومصالح القوى الإقليمية والدولية المتصارعة في سورية والعراق ولبنان. هذا الحل هو تقسيم مؤجل وبرسم المستقبل، والمؤسف أن هذه الحلول تطرح بغياب المشروع القومي بعد الإنهاك الذي حل بجيشي سورية والعراق، ما جعلهما غير قادرتين على المناورة.

أمام هذه الاستحقاقات المصيرية التي ستحدد مستقبل الهلال الخصيب والشرق الاوسط برمته ما العمل المطلوب لمواجهة هذه التحديات كي لا تأتي الحلول على حسابنا.

أ- الدعوة الى مؤتمر قومي عام تحت عنوان الدفاع عن الهلال الخصيب، يشمل الأحزاب وقوى المجتمع المدني والمثقفين وكل القوى الحية في المجتمع، لإعلان النفير العام لمواجهة حرب الوجود التي تخاض ضدنا، والاستنفار عسكرياً وسياسياً وإعلامياً وتعبوياً لرفض تقسيم المنطقة الظاهر والمقنع ، وتقويض هذا الفكر الظلامي الغريب عن ثقافتنا وحضارتنا، ولرسم خطط المواجهة وأساليب التنفيذ. ودعوة أحزاب العالم العربي وقواه الحية لمؤازرتنا والانخراط معنا في المواجهة ليصبح الدفاع عن سورية والعراق دفاعاً عن الوجود والتاريخ والتراث والحضارة والقيم الإنسانية. فكما يلجأ عدونا للتعبئة الأممية لاستجلاب قوى الإرهاب التكفيري ويلقيها في وجهنا لينشر في الأرض قتلاً ودماراً وخراباً وتوحشاً، فإن الواجب القومي والإنساني يدعونا ويلزمنا أن يكون الرد بتعبئة كل إمكانات الأمة للمواجهة الوجودية، ولأسباب أرقى وأسمى هدفاً بالنظر لما تكتنزه سورية والعراق من قيم حضارية وثقافية وقومية وإنسانية.

ب- ينبثق عن هذا المؤتمر الدعوة الى إطلاق مشروع حرب التحرير القومية في كل دول الهلال الخصيب تكون المقاومة الإسلامية عماده نظراً لما راكمته من تجربة قتالية ضد عدونا «الإسرائيلي» والتكفيريين أثبتت نجاحها، وإشراك قوات الدفاع الشعبي في سورية والعراق فيها. ودعوة الأحزاب وكل مؤسسات المجتمع في لبنان وسورية والعراق للانخراط في هذه الجبهة، وإنشاء قيادة واحدة لها وتبنّي مشروع تحريري نهضوي سياسي تغييري متكامل. إذا كان العدو التكفيري قد ألغى حدود سايكس ـ بيكو وجعل مسرح عملياته واحد في سورية والعراق ولبنان، فالواجب أن يكون مسرح المواجهة في هذه الدول واحد، وعار علينا أن نبقى متمسكين بهذه الحدود. وإذا كان عدونا يقتل ويهجّر ويكفر كل المذاهب وحتى أهل السنة غير المؤيدين لمشروعه التكفيري. فالرد يكون بالتمسك بوحدة المجتمع التي تصون التنوع وتحافظ عليه. وصيانة التنوع لا تكون فقط برفض مشروع التكفير وإطلاق مشروع الصحوة الإسلامية وحوار الأديان، بل بإعلاء الهوية الوطنية والقومية الجامعة على الهويات الفرعية وتحديداً الدينية والمذهبية، وفصل الدين عن الدولة والسعي لإقامة الدولة المدنية الديمقراطية القوية والعادلة وتكريس مبدأ المواطنة بالحقوق والواجبات، وتحديث القوانين الوضعية لتأمين التمثيل الصحيح للإرادة الشعبية، وصون الحريات والتوزيع العادل للثروة القومية.

إن مشروع حرب التحرير القومية لتحرير الأرض والإنسان وإقامة النظام الجديد، نظام الوحدة القومية والعدالة الاجتماعية الاقتصادية والعدالة الحقوقية، بات هو المنطلق لتصويب الانحراف الذي أصاب المجتمع والدولة في الهلال الخصيب، وبات أكثر من ضرورة لمواجهة حرب الوجود على المجتمع والسير به نحوى النهوض من الموت المحتم. أما إذا استمررنا في السير في الحلول الترقيعية الطائفية والتوافقية فستبقى أمتنا تتخبط في صراع الهويات الفرعية والمتفرّعة، وتلتهمها حروب تتجدد وقودها المذهبية لتحرق ما تبقى فيها من تراث وحضارة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى