بوتين يجلب العالم إلى خطته في سورية

– يُخطئ الذين ينظرون إلى المداخلة العسكرية الروسية في سورية بعين المواقف التي تصدر عن الغرب وحلفائه والمليئة بالانتقادات والتشكيك، كما يخطئ الذين ينظرون إلى معيار نجاح أو فشل هذه المداخلة بحساب درجة الترحيب الغربي بها والرضى المعلن عنها، فروسيا لم تقم بخطوتها لعمل استعراضي، ولا لإثبات وجود أو حجز مقعد في المستقبل السوري، أو في موائد التفاوض التي ستنشأ حول نزاعات المنطقة، أو لحماية شريكها السوري من مخاطر محتملة، لقد انتظرت روسيا طويلاً، ودرست بأناة، وأقامت كلّ الحسابات، وأقدمت ضمن خطة متكاملة ومرسوم لها جدول زمني وخرائط جغرافية تتيح لها رسم مستقبل مسارَيْ الحرب على الإرهاب والحلّ السياسي في سورية، وعبرهما مستقبل الأمن الاستراتيجي في الشرق الأوسط، بما يقدّم لشعوب المنطقة وقواها، بمن فيهم خصوم الدور الروسي وحلفاؤه، ويقدّم للقوى العالمية، وعلى رأسهم من يخاصم روسيا ويعترض على دورها وأدائها، كضمانة وحيدة متاحة لإعادة قدر من التوازن وسقف للاستقرار لمنطقة يهدّد تفشي الفوضى فيها الأمن والسلم الدوليّين كلَّهما.

– حمل قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تقدير موقف ينطلق من رؤية المراوحة في المكان التي بلغتها واشنطن ومَن معها في المنطقة، فهم يتبنّون لسورية حلاً سياسياً يبدأ بتنحي الرئيس السوري، وهو ما لن يحدث عدا عن مجافاته قواعد القانون الدولي، فيصير غير واقعي، وهم لا يملكون آلية عملية لفرضه، فيتجمّد الحلّ السياسي، وهم يعترفون بفشل حربهم على الإرهاب، لأنها لا تملك حليفاً قادراً على التحرك في البرّ فتصير حربهم جزافاً، بينما روسيا تتبنّى حلاً سياسياً يبدأ من حوار سوري ـــــ سوري بين القوى المتفقة مع الحكومة السورية على أولوية الحرب على الإرهاب وصولاً إلى حكومة شراكة وطنية شاملة لكلّ المتفقين على هذه الأولوية، وتتبنّى موسكو مفهوماً للحرب على الإرهاب يشاركها فيه جيش قادر ومتميّز في الحرب البرية، هو الجيش السوري، فهي تكسر الجمود الذي يفرضه الغرب بمنهجه المفلس، وتفرض معادلة حراك حقيقي باستهدافها الجماعات المسلحة التي يصنّفها الغرب مع الإرهاب ويحيّدها من استهدافه لأنها حليفة علناً لحلفائه ومن تحت الطاولة لأنها تؤدّي غرض تأخير وتعطيل فُرص انتصار الجيش السوري وتستنزف قدراته، فيصير الدور الروسي الميداني إجباراً للغرب وحلفائه على تصنيف موحد للإرهاب وفرزه عن المعارضة الممكن استقطابها إلى الحلّ السياسي، ويصير فتحاً للباب أمام حرب مجدية تملك التغطية الجوية والقوة البرية معاً وتيسيراً لحلّ سياسي توضّحت قواه ومساراته.

– ينطلق قرار الرئيس بوتين أيضاً من تقدير موقف قوامه أنّ واشنطن وعواصم الغرب تدرك جيداً حقائق الحاجة لعدم ترك الوقت يمرّ من دون حسم الأزمة السورية لأنّ أزمتَي اللاجئين وتمدّد الإرهاب نحو أوروبا سيصيران خارج نطاق السيطرة ما لم يتمّ التحرك سريعاً، وأنّ التهاون بذريعة العجز عن إغضاب ومصارحة الحلفاء الإقليميين للغرب الذين يحرّكهم الحقد على سورية ويصرّون بعناد على الاعتماد على التنظيمات الإرهابية لإدامة الحرب في سورية، سيجلب الكوارث على العالم كله، وبالتالي لا بدّ من مبادرة قوة كبرى تكسر المراوحة وتضع النقاط على الحروف، فيتذرّع بها الغرب لتبرير عجزه عن صدّها أمام حلفائه وهذه القوة هي روسيا.

– ينطلق قرار الرئيس بوتين من تقدير موقف يقوم على قراءة الفوضى والتقسيم اتجاهاً حتمياً لعدم تقدّم الحرب على الإرهاب نحو نصر قريب. وهذا التقسيم وتلك الفوضى يتهدّدان حلفاء موسكو وإيران في سورية والعراق، لكنهما يتهدّدان حلفاء الغرب في تركيا والسعودية، والنتيجة صعبة على روسيا لكنها مأساوية على الغرب، لأنّ ما سينشأ عن التقسيم والفوضى سيعني نشوء كيانات موالية لإيران وروسيا على ساحل المتوسط، وضفاف الخليج المقابلة لإيران وما تختزنه من النفط، وكلها ميزات استراتيجية ستخسرها واشنطن ويخسرها الغرب، بينما حماية وحدة كيانات المنطقة يُخرج الجميع بصيغة «رابح – رابح».

– ينطلق قرار الرئيس بوتين من تقدير موقف قوامه أنّ الفوضى التي قد تغري في بداياتها الغرب، لن تستمرّ ليكون الوضع تحت السيطرة، وإيران التي قد تكون على ضفة الرابحين الأكثر ضمن معادلة، «الكلّ خاسر» من التقسيم والتفتيت، ستكون أيضاً على ضفة الرابحين من ضمن معادلة الفوضى تنتج «خاسر – خاسر» وتأخذ المنطقة إلى حروب مدمّرة، سواء أكان الطرف المقابل لها ولحلفائها السعودية أم «إسرائيل»، لكن الغرب سيكون الخاسر الأكبر، وحفظ الاستقرار والتوازنات ومنع تجذُّر الفوضى التي ستجرّ المنطقة إلى خيار الحروب المفتوحة لاحقاً يتمّ بالتنسيق مع إيران لأنها تريده من ضمن خيارها الداعم للمقاومة كخيار في فلسطين، وليس للحروب، ودعمها للمعارضة السلمية في دول الخليج وليس للحروب الأهلية أو الإقليمية. لكن الغرب يحتاج هذه المبادرة الروسية التي تضمن الاستقرار وتحفظ التوازنات، وهو ما لا يملك الغرب مبادرات توازيه على هذا الصعيد، فتصير روسيا التي يصرخ في وجهها هي خشبة خلاصه.

– ينطلق قرار الرئيس بوتين من حساب لمعادلات الطاقة في العالم التي أفلس في تخديمها المشروعان التركي والقطري، بخطوط أنابيب افتراضية تستدعي السيطرة على سورية وهو ما لم ولن يتحقق، والغرب لا يحتمل اللااستقرار في هذا السوق الذي يحتاج تخديمه رعاية الثروات الواعدة في الساحل المتوسطي، وتأمين تدفق سلس لموارده الآتية من الخليج، ولكن التي تملك إيران ويملك العراق أكبر مخزوناتها الاستراتيجية في الغاز والنفط وتمتدّ خطوطهما المستقبلية نحو الغرب عبر سورية، وتأمين كلّ هذه المصالح العضوية لكلّ أطراف معادلة الطاقة من منتجين ومستهلكين، يحتاج طرفاً ضامناً بحجم روسيا ومكانتها، التي ستستفيد من عائدات هذا الدور أكثر من الغير، لكن الغير كله على ضفتَي حلفائها في سورية والعراق ولبنان وإيران سيكون مستفيداً، وعلى ضفة خصومها ستكون أوروبا في طليعة المستفيدين، ويتحمّل الخسارة واهمون مثل تركيا وقطر يفقد كلّ منهما أسباب قوته تدريجاً، تمهيداً للخروج من المعادلات الإقليمية.

– روسيا تنصر حلفاءها وتستعيد زمام المبادرة معهم ولهم في الحروب الدائرة وتسرّع نصر سورية ومحور المقاومة، لكنها تخلّص الغرب مما هو أدهى، فتصير خطتها تحت الطلب الضمني منه رغم المعارضة العلنية، وتصير إنقاذاً للعالم من مخاطر شاملة، ورسماً لمعادلة استراتيجية نادرة تحقق بالمعنى الدقيق مفهوم الأمن والسلم الدوليّين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى