سوخوي في السماء السورية: غربلة الحلول السياسية وفرض المقاسات
د. محمد بكر
على وقع سيلٍ من الامتعاض والقلق والترحيب «بتحفظ» والتحذير الأميركي، باشرت المقاتلات الروسية سوخوي عملياتها العسكرية ضدّ التنظيمات المتطرفة في سورية لترسم بذلك مرحلة جديدة وتطوراً لوجستياً مهماً في المشهد السوري، وجدت فيه الدولة السورية عاملاً رئيساً في تغيير سير المعركة على الأرض، بالتلازم مع الإعلان الروسي عن أنّ الغارات تسند تقدم وحدات الجيش السوري باتجاه مواقع «داعش» وأخواتها، ما يؤسّس بالمعنى العسكري إلى صياغة قيمة مضافة ليوميات الميدان السوري تتسارع فيها وتيرة العمليات العسكرية على مستوى السرعة والدقة والإنجاز، ضاربة عرض الحائط كلّ التحذيرات الأميركية التي جاءت على لسان كيري لجهة التحذير من ضرب واستهداف فصائل خارج إطار تنظيم «داعش»، ولتسقط كلّ هذه المحاذير أمام ملامح وطبيعة الأهداف ووجهة المقاتلات التي رسم مساراتها بوتين قبل أن تبدأ العمليات العسكرية أصلاً عندما ساوى بين «داعش» وما يُسمّى المجموعات المسلحة المعتدلة، بدوره فرمل لافروف كل «الزعيق» والصراخ وعواجل الإعلام الغربي لجهة عملها على تشويه المهمة الروسية والتركيز على أنّ الحصاد الروسي هو في إطار استهداف المدنيين، بالقول: «لا تسمعوا للبنتاغون، فوزارة الدفاع الروسية قالت كلّ شيء».
فكيف يمكن قراءة جديد للميدان السوري؟ وما هي الأبعاد المتقدّمة للتدخّل الروسي في ما يتعلق بالمسارات النهائية للأزمة السورية؟
في أيلول الماضي وخلال كلمة له بمناسبة هجمات 11 أيلول، أكد الرئيس أوباما استعداد بلاده للانخراط في تسوية الأزمة السورية إذا ما انضمّ خصومه وفي مقدمتهم روسيا بالطبع إلى تحالف واشنطن الستيني، وهو ما وصلت فحواه ومدلولاته إلى الروسي الذي شرع في تحضير ما لا يسرّ الرغبات الأميركية ويؤسّس في حيثياته لنهجٍ بمنزلة الندّ الحقيقي للتحالف الأميركي، ويُفرغ الإجراءات الأميركية من مضمونها ومفاعيلها، ويحرق الورقة الإرهابية القاعدية والاستثمار الأميركي فيها، ومن هنا نفهم ما أعلنته الخارجية الروسية بأنه لا خطط روسية للانضمام إلى تحالف واشنطن، رغم ما أعلنه بوتين لجهة أنّ موسكو وواشنطن اتفقتا على وضع آلية طارئة للتنسيق العسكري بينهما لمكافحة الإرهاب.
في نظرة تحليلية للغايات المتقدّمة للتدخل الروسي في الميدان السوري والشروع الفاعل في مكافحة الإرهاب يمكن الحديث عن جملة من الأهداف والنقاط التي تسعى موسكو إلى حصادها من بوابة مكافحة هذا الإرهاب والتي تتجاوز القلق الروسي من وصول التطرف إلى أراضيها:
– ما يشكله التحالف الروسي الجديد وتحت مظلة القانون الدولي والأمم المتحدة من خطوة استراتيجية تُمسك فيها موسكو بزمام المبادرة وتتربّع على عرش الموجّه الأوحد والمحدّد لماهية ومعايير وشروط مكافحة الإرهاب، وتالياً ما يحدثه هذا المشهد الصادم لواشنطن من «تجميد» للدماء في العروق الأميركية يغدو معها العمّ سام مكتوف الأيدي حيال خطوة يدرك أنّ أيّ محاولة لعرقلتها والاصطدام بمساراتها سيفجّر بالضرورة تبعات ونتائج كارثية.
– تصدّر الروسي كقطب دولي لمنظومة فاعلة في مكافحة الإرهاب على مستوى المنطقة سينسحب عليه بالضرورة فرض جملة من المقاسات والمحدّدات لطبيعة الحلّ السياسي في سورية، ويضع كلّ الحلول السياسية المفصلة وفق المقاسات الأميركية في الغربال الروسي لتأطير عناوينها الفضفاضة السابقة، في مسلسل أميركي طويل لا يزال فيه البحث جارياً عن خيار ثالث بين «داعش» والنظام السوري يرضي الحلفاء ولا سيما السعوديين ، بحسب ما أعلنه جيم لوب مدير مكتب الخدمات الصحافية الدولية في واشنطن.
– ما سيؤمّنه لاحقاً نجاح المهمة الروسية في سورية تحت مسمّى مكافحة الإرهاب من تجربة فاعلة يمكن تطبيقها في جبهات وساحات أخرى لا سيما العراق، هذه الجزئية التي تبعث أيضاً برسائل واضحة المدلولات لأطراف التحالف السعودي في اليمن، وتالياً صياغة الحلول السياسية في المنطقة وفق المنظور الروسي، ومن هنا جاء الإعلان الروسي عن استعداده لمحاربة «داعش» في العراق، بالتزامن مع الإحباط الذي أبداه رئيس الوزراء حيدر العبادي من أداء تحالف واشنطن والترحيب بأيّ عمليات روسية في الجغرافية العراقية، وفي السياق ذاته نفهم الإعلان الحوثي عن دور روسي هامّ وداعم للحلّ السياسي في اليمن.
ما بات مؤكداً أنّ الغربال الروسي في ذروة اهتزازاته تسرح فيه طائرات السوخوي باقتدار وتحلق كالنسور الجارحة التي تمضي في تحليقها لتكون اليد العليا والطولى في رسم مشاهد نوعية، لجهة غربلة الاستراتيجيات والتحالفات والالتفافات والطروحات الأميركية وفرض ملامح الحلول السياسية، يقف فيها الأميركي متفرّجاً على ما بدأ يحترق من أوراقه وأدواته بالنار الروسية، ولا يحرك ساكناً حيال ما تحصده الآلة الروسية الحمراء من بيادر سياسية نوعية أطاحت حسابات الحقل الأميركي فلا يجد اللسان الأميركي في حضرتها إلا تكرار مفردات التحذير والتحفظ.
كاتب فلسطيني مقيم في سورية