بعدما انتصرت سورية على الإرهاب واشنطن تدسّ السم في دسم مساعي التسوية

عبدالله خالد

حرصت الإدارة الأميركية على الإفادة إلى أقصى حد من حوادث 11 أيلول وسعت إلى فرض أحاديتها القطبية وقانونها الخاص كبديل للقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان بحجة مكافحة الإرهاب وفق مفهومها الخاص الذي وضع جميع معرقلي مخططها في خانة محور الشر. وبهذه الحجة غزت أفغانستان واحتلت العراق وحاولت فرض إملاءاتها على سورية، معتبرة أن وجود جيشها على حدودها كفيل بترويض الرئيس الأسد. وكان هدفها تحقيق ثلاثة أمور:

ضمان استمرار هيمنتها على ثروات العالم وفي مقدّمها النفط.

حماية الكيان الصهيوني وتثبيت احتلاله لفلسطين .

شن حروب استباقية لمنع بروز أيّ قوة يمكن أن تهدد مصالحها مستقبلاً.

إلاّ أن سورية رفضت الإملاءات الأميركية ودعمت مقاومة الشعب العراقي للاحتلال الأميركي واستمرت في دعم المقاومتين الفلسطينية واللبنانية واستمر في فتح أبواب دمشق لسائر المقاومين. ومنذ ذلك الحين غدت سورية العدو الأول للحلف الأميركي-الصهيوني وبدأت محاصرتها قانون محاسبة سورية ومعاقبتها القرار 1559 الذي استلزم اغتيال الرئيس رفيق الحريري لتنفيذه وتقليص دورها عدوان تموز الذي أجهضته المقاومة بمساندة كاملة من سورية . وكان على الإدارة الأميركية أن تغيّر مخططها، خصوصاً بعد صمود غزة، فانتقلت من استخدام القوة الخشنة إلى القوة الناعمة الهادفة إلى تفجير التناقضات كلّها في المجتمع العربي والعمل على تجزئته لتشكيل شرق أوسط جديد يتحكم فيه الكيان الصهيوني.

تجسدت الخطوة الأولى للمخطط الأميركي الجديد في تمتين تحالفها مع جيوش النظام العربي الرسمي لكونها تشكل الاحتياط الاستراتيجي لها في المنطقة ونسجت علاقات جديدة مع الإسلام السياسي ممثلاً بجماعة «الإخوان المسلمين» بعدما وعدها أردوغان بأنها لن تقف في وجه مخططاته وأنها لن تكون حجر عثرة في وجه التطبيع مع الكيان الصهيوني ولن تخرج على مفاهيم الاقتصاد الريعي الذي تبنته النيوليبرالية المتوحشة. وكان أردوغان نجح في تكوين نموذج لإسلام» معتدل» حافظ على ارتباطه بحلف الناتو وعلاقته الاستراتيجية مع الكيان الصهيوني. ومع بدء ما سمي «الربيع العربي» في تونس ومصر وانتقاله إلى أقطار عربية أخرى وجدت الإدارة الأميركية أن الفرصة متاحة لإجراء تغيير شكلي للأنظمة التي تسير في فلكها وطلبت إلى قوى «الإسلام السياسي» أن تقود الحَراك الشعبي وحضّت قادة الجيوش على تسهيل وصولها إلى الحكم. وبعدما كان ذلك الحراك مقتصراً على الأنظمة الموالية للغرب تمدّد ليصل إلى سورية ولتقوده جماعة «الإخوان» بحيث تحوّله من حراك سلمي يطالب بالإصلاح إلى حراك مسلّح يريد إسقاط الرئيس الأسد والقضاء على سورية كموقع ودور ووظيفة. وسارعت الإدارة الأميركية إلى إرسال الموفدين إلى سورية عارضة وقف ذلك الحراك مقابل عدم مواجهة المخطط الأميركي أو على الأقل عدم الإعتراض عليه. وبدأت الإدارة الأميركية تعمل على خطين:

الاستمرار في دعم المسلحين ومدهم بالأسلحة والمال والوسائل اللوجستية.

التحذير من خطر الإرهاب التكفيري والإيحاء بإمكان الوصول إلى تفاهم مع سورية إذا حسّن النظام سلوكه.

في هذا الإطار، سرّبت الإدارة الأميركية ما عرف بالنقاط الست التي تؤكد على وقف الدعم السياسي واللوجستي والأمني للمسلحين والتخلّي عن مواجهة نظام الرئيس الأسد وترك الخيار للشعب السوري في تقرير مساره الديمقراطي وحضّ الرئيس الأسد على تقديم إصلاحات من داخل النظام ودعم الجيش السوري في حربه والطلب إلى حلفائها أن تسير في الاتجاه نفسه… وذلك كلّه مقابل أن تغض سورية النظر عن المفاوضات التي ترعاها واشنطن بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية التي تصب في إطار تصفية القضية الفلسطينية عبر إلغاء حق العودة وتوطين الفلسطينيين في أماكن وجودهم والاعتراف بيهودية الكيان.

مع رفض سورية التجاوب مع المقترحات الأميركية التي نقلها موفدون عرب وأجانب ُفتحت الحدود التركية واللبنانية والأردنية لألوف المسلحين من أنحاء العالم واستقدمت عناصر مسلحة مرتزقة وتحوّلت المواجهة إلى حرب كونية ضد سورية يشارك فيها مسلحون من 83 دولة ضد النظام وتراجع الحديث عن الإصلاح والديمقراطية ليدور حول تشكيل إمارات إسلامية تتبنى فكر القاعدة، وبات ما كان يحصل في السر يتم بصورة علنية.

أدى صمود سورية إلى تغيير نوعي في الساحات الدولية والإقليمية والعربية وبروز محورين، أحدهما يتبنى المخطط الغربي والآخر يدعم المقاومة، وكانت أولى تداعياته تصدع الأحادية القطبية التي مارستها واشنطن بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وعودة روسيا والصين إلى الساحة الدولية وبروز دول البريكس ونهوض دول أميركا اللاتينية وبداية تقلص الهيمنة الأميركية على مجلس الأمن والإعلان عن تشكيل صندوق نقد يواجه تسلط البنك الدولي… بكل ما يعنيه ذلك من مؤشرات على زوال الأحادية القطبية لمصلحة تعددية قطبية تنهي الهيمنة الأميركية وتبشّر بعالم أكثر عدالة.

وشعرت الإدارة الأميركية، بعد اضطرارها إلى الإنسحاب من العراق واستعدادها للانسحاب من أفغانستان، أنّ عليها أن تمهد ليالطا جديدة، مستفيدة من كونها ما زالت الدولة الأقوى وإن لم تعد الوحيدة. وباعتبار أنها دولة براغماتية تهتم بمصالحها ولا تقيم وزناً لحلفائها، عمدت إلى إجراء مفاوضات مع روسيا والصين، وبدأت حواراً مع إيران حول ملفها النووي من خلال الدول الخمس + 1، على أمل أن تتمكن من استمالة روسيا والصين وإيران لوجهة نظرها أو على الأقل ضمان حيادها إزاء مخططاتها، وأبدت استعدادها لمكافحة الإرهاب بعدما أصبح خطراً يهدد أمن العالم، وسربت مشروعاً من سبع نقاط تعهدت بتنفيذه على صعيد المنطقة، وقوام المشروع:

الاستعداد للحفاظ على النظام السوري وقيادته.

وقف التمويل السعودي والخليجي للجماعات السلفية الأصولية المتشددة والعمل على إضعاف دورها كمرجعية إسلامية.

الضغط لإعطاء المواطنين في المناطق الشرقية من السعودية حقوقهم.

الضغط على الكيان الصهيوني للانسحاب من مزارع شبعا وكامل الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة وإنشاء دولة فلسطينية بحدود 1967 والإبقاء على الوجود العربي داخل فلسطين المحتلة.

قبول إعادة البحث في تغيير أو تعديل صيغة الحكم في لبنان التي اعتمدت في الطائف والاستعداد لإعادة التوزيع الطائفي لقادة الأجهزة العسكرية والأمنية.

الاستعداد لأخذ تحقيقات المحكمة الدولية باغتيال الحريري نحو الجماعات السلفيّة المتشددة ورفع الحظر عن المعلومات الاستخبارية الأميركية وصور الأقمار الاصطناعية التي من شأنها أن تحسم نهائياً حقيقة الاغتيال.

القبول بشروط المعارضة في البحرين.

قدم هذا المشروع إلى إيران على أمل إغرائها كي تتجاوب مع المخطط الأميركي، خاصة بعد التقدم الملموس على صعيد المفاوضات حول الملف النووي. وكانت الإدارة الأميركية تأمل في أن يتم التجاوب معها، لا سيما وأنها قدمت – من وجهة نظرها- عرضاً ينهي الكثير من مشاكل المنطقة مقابل توطين الفلسطينيين في لبنان والتخلي عن حق العودة. والواقع أن هذا المشروع يشكل ذروة الانتقال من مفهوم القوى الخشنة إلى مفهوم القوة الناعمة لما يحمله من أبعاد خطيرة، في مقدمها:

إحياء الصراع الإسلامي-المسيحي مجدّداً في إطار خطة تهدف إلى تهجير المسيحيين وإفراغ المنطقة منهم.

إشعال الفتنة الشيعية-السنية.

تأمين استمرارية الكيان الصهيوني.

تفتيت الوطن العربي وتصفية قضية فلسطين.

هذا يعني أن المخطط الأميركي-الصهيوني ما زال كما هو لناحية المضمون، مع بعض التغيير في الشكل، لحوادث المزيد من التناقضات داخل نسيج المجتمع العربي. والدليل أنه أعطى فرصة جديدة لحلفائه بغية إيجاد نوع من التوازن في جبهات القتال في سورية كمقدمة لا بد منها لبدء حوار سياسي بين أطراف النزاع، متجاهلاً أن معظم المسلحين الذين يقاتلون في سورية هم غير سوريين، وهذا ما برز في حوادث كسب حيث ظهر بوضوح الدور التركي الذي فتح الحدود لألوف المرتزقة الذين زوّدوا بأحدث أنواع الأسلحة لكسر تفوق الجيش العربي السوري وفي حوران حيث وفد آلاف المسلحين عبر الحدود الأردنية بعد تدريبهم في معسكرات أشرف عليها ضباط أميركيون وأوروبيون، ولم يؤدّ هذا التوجه إلى أي تغيير في طبيعة الصراع، بدليل استمرار الجيش العربي السوري في تحقيق المزيد من الانتصارات وتحرير المزيد من المناطق السورية من هيمنة المسلحين الإرهابيين والتكفيرين الذين بدأوا بتشكيل خلايا إرهابية في الدول التي انطلقوا منها. وهكذا انقلب السحر على الساحر بعدما أصبحت تلك الدول تتخوف من عودة المسلحين إليها وتشكيلهم خلايا ارهابية تهدّد أمنهم، وبذلك لم تعد ازدواجية المعايير تجارة رابحة في الولايات المتحدة وأوروبا وحتى في الدول الخليجية وتركيا التي ما زالت تجاهر بدعمها المسلحين وتنادي بضرورة إسقاط نظام الرئيس الأسد.

اليوم، وبعدما أصبحت مكافحة الإرهاب مطلباً دولياً، وبعدما أصبح ما كانت تقوله سورية يتردّد على ألسنة الجميع، وبعدما وضعت واشنطن والرياض بعض المنظمات التي تقاتل في سورية على قائمة الإرهاب وبدأت في أوروبا بعض مؤشرات مواجهته بات الجميع يعترف بأن سورية تكاد تكون الدولة الوحيدة التي تكافح الإرهاب قولاً وعملاً، توافرت القناعة بضرورة وأهمية بقاء الرئيس الأسد، خصوصاً بعدما لمس الجميع أنه يتمتع بدعم وتأييد غالبية السوريين الذين اكتشفوا- ولو متأخرين- حقيقة الفكر الإرهابي التكفيري الذي يقاتل أصحابه في سورية والذي يمتد ليشمل المنطقة ويهدّد بالإنتقال إلى أوروبا وبقية أنحاء العالم.

شكلت انتخابات رئاسة الجمهورية في سورية صفعة قوية للإدارة الأميركية وخططها العدوانية ، ما أضعف الرهان على إمكان توسيع دائرة استنزاف سورية الدولة والجيش والشعب والموقع والوظيفة والدور، وأسقط جميع الذرائع المنطلقة من التشديد على أن الشعب العربي السوري مُعاد للنظام وقائده، والدليل أن أكثر من عشرة ملايين سوري في الداخل والخارج جدّدوا البيعة لرئيسهم وأكدوا تمسكهم بممارسة حقهم الديمقراطي ورفضهم أي رئيس يفرض عليهم. وكان ذلك بمثابة رد عملي على الافتراءات التي تحدثت عن تفكك الدولة، علماً أن الدولة السيدة والواثقة من قدراتها أدارت العملية الانتخابية في ظروف أمنية وعسكرية استثنائية وأظهرت هزال المعارضة الخارجية وضعفها بعد سقوط ادعائها بتمثيل الشعب السوري، بالإضافة إلى تعرية الدول والقوى التي تدعم المجموعات الإرهابية التكفيرية.

إن نتائج الانتخابات الرئاسية في سورية تشكل بداية جادة للمساهمة في خلق موازين قوى جديدة في المنطقة وفرصة لمزيد من التماسك للحلف الاستراتيجي الذي يجسده محور المقاومة والذي يفتح آفاقاً مستجدة للتعامل مع سورية الدولة، مع ما يؤكده ذلك من إسقاط مهزلة حصارها ويساهم في رسم المشهد الدولي والإقليمي ويعمّق مأزق المشروع الأميركي الصهيوني في المنطقة.

أكد الشعب العربي السوري بصموده في وجه الحرب العدوانية الإرهابية التكفيرية أنه هو صانع مستقبله، وأن نتائج الانتخابات التي فرضها بوحدته وتماسكه هي التي حدّدت مصيره، وأن الحل السياسي المرتجى يبدأ وينتهي بقيادة الرئيس الأسد باعتباره شأناً سوريّاً بحتاً لا مكان فيه للجماعات التكفيرية والقوى التي دعمتها، وأن من يريد مكافحة الإرهاب قبل أن يطوله رذاذها يفترض به ألاّ يكتفي بوضع تلك الجماعات على قائمة الارهاب بل أن يوقف دعمها بالمال والسلاح والتكنولوجيا والمرتزقة الذين جمعهم الأميركي وحماهم الصهيوني ودعمتهم دول الخليج وفي مقدمها السعودية وقطر، بالإضافة إلى تركيا وفرنسا ومعظم دول أوروبا.

في المقابل، الحوار الذي بدأ قي سورية برعاية الدولة، وصولاً إلى تحقيق المصالحة، أمران يؤديان إلى تكريس الحل السياسي الذي ينقذ سورية من الدمار المنظم الذي ينفذ بدقة وفق مخطط أميركي صهيوني هدفه الوحيد تدمير سورية الدولة والموقع والوظيفة والدور المقاوم. وأتت نتيجة الانتخابات لتؤكد دعم الشعب العربي السوري للدولة في مواجهتها للزمر الإرهابية التكفيرية والانتصار عليها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى