خطاب الرئيس عباس ما قبله وما بعده
راسم عبيدات
ما قبل خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السبعين، كان هناك حديث عن «قنبلة» سيفجرها أمام الحشد الدولي المتميّز في الجمعية العامة، وكانت التكهنات والتحليلات التي سرت حول تلك «القنبلة» منصبّة على أنّ خطاب الرئيس سيضع حداً لمرحلة طويلة من المفاوضات العبثية وغير المجدية، وسيؤكد استراتيجية فلسطينية جديدة او نوعية ترتقي الى مستوى الكفاح والأوضاع والظروف الاستراتيجية التي يمرّ بها الشعب الفلسطيني، فلذلك كانت تلك التكهنات والتحليلات تقول بأنّ الرئيس قد يعلن إلغاء اتفاقيات اوسلو، أو ربما الانسحاب منها، أو تجميدها، وخاصة ما يتصل ويتعلق بالتنسيق الأمني «المقدّس» والذي جرت مطالبات فصائلية وحزبية ومجتمعية بوقفه استناداً لقرارات المجلس المركزي في دورته 4 +5 من شباط الماضي، أو تجميده، وفي الحدّ الأدنى تقنينه وتقليصه من باب أضعف الإيمان.
وفي خطابات الزعماء والقادة العرب والعجم والدوليين التي سبقت خطاب الرئيس عباس، ارتسمت خيبة كبيرة رغم كل الحديث الطاغي و»الهوبرات» و»الهيزعات» عن النصر الذي سيتحقق برفع العلم الفلسطيني الى جانب أعلام الدول الأخرى أمام مبنى الأمم المتحدة، رغم أن ذلك نصر معنوي كبير، فالقضية الفلسطينية لم تسقط فقط من كلمة زعيم اكبر دولة في العالم «أوباما»، بل غابت في كلمات العديد منهم، ووردت بشكل مجزوء ومقتضب او بصورة مختزلة او هامشية في كلمات البعض الآخر، وهذا يعكس مدى التراجع والتآكل في مكانة القضية الفلسطينية على الساحة الدولية.
وعلى كل حال أنا لست هنا بصدد الحديث عن الأسباب التي أدت إلى مثل هذا التراجع المريع للقضية الفلسطينية على الساحة الدولية فلسطينياً وعربياً، ولئن كنت سآتي على ذلك في سياق المقالة من دون تفصيل.
ألقى الرئيس خطابه وكان الجميع من أبناء شعبنا يريد معرفة «القنبلة» وسمع الدويّ الذي سيحدثه خطاب الرئيس، حيث أسهب في شرح الجرائم والإجراءات والممارسات والخروق التي مارستها وارتكبتها «إسرائيل» بحق شعبنا من النكبة ليومنا هذا من تدمير وحرق للأطفال واستيطان واعتقالات وانتهاك بحق المقدسات وتحديداً للمسجد الأقصى وغيره، وقال بأن هذا الوضع القائم لم يعد مقبولاً، وبان «إسرائيل» لا تلتزم بالاتفاقيات ودمرت الأسس القانونية والسياسية التي قامت عليها تلك الاتفاقيات، ولذلك ما دامت «إسرائيل» غير ملتزمة بهذه الاتفاقيات، فإن الشعب الفلسطيني وقيادته لن تلتزم بهذه الاتفاقيات، وكذلك طالب بالحماية الدولية لشعبنا الفلسطيني، وبأنه ما دامت «إسرائيل» ترتكب الجرائم بحق شعبنا، فإننا مستمرون بالتوجه الى المحاكم الدولية والى محكمة الجنايات الدولية، ولكنه في المقابل لم يسقط خيار السلام الذي قال بأنه ضروري لشعبنا و»جيراننا»، ولم يغلق الباب أمام العودة مجدداً إلى المفاوضات وحل الدولتين، وأعلن قبوله المشروع الفرنسي، الذي يدعو إلى العودة للمفاوضات بين السلطة الفلسطينية «وإسرائيل» مجدداً حتى نهاية العام 2017، وفق الأسس والمرجعيات السابقة التي فشلت فشلاً ذريعاً في حمل «إسرائيل» على تقديم أية تنازلات جدية من اجل السلام.
انتهى خطاب الرئيس ومهما كانت قوة بلاغته وإنشائه وجزالة ألفاظه ومفرداته، ومهما تشدّد وصعّد في نبرة الخطاب اللفظي، فإنها ستبقى في إطار اللغة، اذا لم تجرِ ترجمة ما ورد فيه سلوكاً وأفعالاً وممارسات وتطبيقات عملية على أرض الواقع، ومن دون ذلك فإن الخطاب سيكون «اجتراراً» وتكراراً لما هو سابق، وسيكون خطاباً استهلاكياً، لا تأسيس فيه لسياسة جديدة، ولا يشكل جسراً لمرحلة استراتيجية جديدة.
والخطاب كذلك لم يعلن بشكل عملي وصريح عن التحلّل من اتفاقيات أوسلو، أو حلّ السلطة، أو ما هو مترتب على تلك الاتفاقيات من التزامات أمنية وسياسية، رغم قول الرئيس بأن «إسرائيل» دمرت الأسس التي قامت عليها، وهو كذلك لم يطالب باعتبار دولة فلسطين دولة تحت الاحتلال، رغم قوله ومطالبته بالحماية الدولية لشعبنا، واعلن رفضه للحلول المجزوءة والدويلات المؤقتة، وهو لم يوضح او يشرح الآليات لتحقيق ما طرحه، فهو ربما أراد ان يوجه رسالة تهديد للمجتمع الدولي بأن عليه أن يتحرك وإلا! «إلا» تلك التي لم تعد تخيف أحداً، لكونها من دون «أنياب» ومجردة من عناصر القوة.
قبل الحديث عما هو المطلوب بناء على ما ورد في خطاب الرئيس، لا بد من القول بأن الحالة الفلسطينية وما وصلت وقادت الشعب والقضية والحقوق إليه من أوضاع ومآلات مزرية وصعبة، هي نتاج حالة الضعف والهوان الفلسطينية والتعلق ومطاردة خيوط الأوهام والرهانات الخاطئة، وما تعيشه قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية من ضعف، وما يفعل به الانقسام القائم والمستمر والمتكرّس، بفعل تغليب المصالح والأجندات الفئوية والحزبية والصراع على سلطة منزوعة الدسم من تفكك وتحلل ومخاطر جدية على المشروع والقضية والشعب.
وكذلك الحالة العربية التي تعيش انهيارات وتراجعات غير مسبوقة، حيث حروب التدمير الذاتي وحروب الجميع ضد الجميع، وبفعل ذلك لم تسقط القضية الفلسطينية «سهواً» من خطاب اوباما، إلا بعد أن سقطت عمداً من جدول أولويات معظم إن لم نقل جميع الأنظمة العربية.
المطلوب والملحّ الآن، ليس خوض جولات وصراعات من الجدل والنقاش البيزنطي حول الخطاب، وحول جنس الملائكة، أكان ذكرا او أنثى، في ظل احتلال «متغوّل» و»متوحش» يبتلع الأرض ويلغي القضية ويقصي شعب، بل يجب أن ترسم استراتيجية فلسطينية تقوم على أساس الاشتباك والصراع مع المحتل بكل أشكال المقاومة المشروعة والممكنة، ومطاردة وملاحقة دولة الاحتلال وقادتها وتعميق عزلتها ومقاطعتها في المحافل والمؤسسات الدولية كلها، ووضع المنطقة برمّتها من جديد، أمام لحظة الحقيقة والاستحقاق، غير ممكن من دون جهد فلسطيني اولاً، وهذا يتطلب العمل على استعادة الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام بتفعيل جدي وحقيقي للإطار القيادي المؤقت وان لا تبقى الاستراتيجية الفلسطينية قائمة على سيل من القنابل الصوتية التي لا تخيف أحداً، لفرط تكرار التهديد بتفجيرها من جهة، ولانعدام جديتها وجدواها من جهة ثانية، وإلا فإننا مقبلون على مراحل تصفية حقيقية للقضية والمشروع الوطني الفلسطيني في ظل ما يحدث من تطوّرات وتغيّرات دولية وإقليمية وعربية، حيث مطلوب منا أن نلتقط ونجيّر ما يحدث إيجاباً لمصلحة شعبنا وقضيتنا.
Quds.45 gmail.com