«عين الحلوة» كي يبقى حلواً…
روزانا رمّال
تندلع المواجهات لليوم الثالث في فلسطين، ومحورها القدس ومستقبل ساكنيها من الفلسطينيين ومشاريع التهويد الجارية على قدم وساق، بدعم كامل من حكومة الاحتلال، بهدف استغلال المناخات العربية المظلمة والتي توحي بأنّ فلسطين لم تعد قضية العرب، ليس فقط كحكومات وقادة، وهذا ربما كان أمراً ميؤوساً من تغييره منذ زمن. إنّ الأمر الخطير الذي لا يمكن إنكاره هو أنه بات على مستوى النخب العربية والشعوب من يجاهر بالقول إنّ لديه ما هو أهمّ من فلسطين، والأمر ليس ما يتصل بمشاريع الإصلاح وخطط بناء الدول وهموم المواطن وعيشه الكريم، بل باتت المجاهرة بعداوات وانقسامات وهويات لا مكان فيها لفلسطين، حيث تتقدم العصبيات المذهبية والعرقية لتصير هي الهوية وهي مصدر تعريف العدو ومكمن الخطر وعنوان المكان الصالح لبذل الدماء.
إنّ النية «الإسرائيلية» بالتوسّع والتهويد والاستغلال المفرط للنوم العربي الطويل في أحضان الفتنة والسعي إلى التصالح المُعلن لحكومات عربية مع «إسرائيل» تحت شعار «العدو الإيراني المشترك»، يقابلها الفلسطينيون بعزم لم يكن متوقعاً بعد الترهّل الذي أصاب تنظيماتهم ومؤسساتهم القيادية، وخصوصاً في الفصيلين الأساسيين «فتح» و«حماس» المتموضعَيْن على ضفاف خيارات حكومات عربية وإقليمية تتنافس على تقديم أوراق اعتمادها لـ«إسرائيل»، كحليف يجلب قيادة فلسطينية مستعدّة للتوقيع على صكّ بيع القضية الفلسطينية، سواء بعنوان سلطة بلا مضمون، أو دولة في غزة تختصر فلسطين، وبالرغم من كلّ ذلك يفاجئ الفلسطينيون العالم بهبّة تحمل تباشير انتفاضة وربما غيث عمل مقاوم تطل طلائعه رويداً.
لـ»إسرائيل» مآرب عدة من التصعيد، في لعبة السياسة الإقليمية والدولية، لكنّ التغيير الديمغرافي لحساب اليهود على حساب العرب في القدس يتقدّم على كلّ شيء، لذلك لم ينغمس فلسطينيو الداخل في التحليلات فأدركوا، بحسّهم التاريخي، أنها ربما تكون آخر جولات القدس وعروبتها، فخرج المقدسيّون وخرجت وراءهم كلّ فلسطين.
في هذه اللحظة تظهر قدرة القضية الفلسطينية مجدّداً على صناعة السياسة في الشارع العربي، وقد بدت القنوات الفضائية والصحف العربية المموّلة من خندق التواطؤ على فلسطين، مضطرة لتقديم الخبر الفلسطيني على ما عداه، وقد بدأ يستردّ مكانته كخبر أول، وهذا معناه أنّ صانع القرار الإعلامي يدرك أنّ الشارع العربي، لا يزال رغم كلّ مشاريع غسل الدماغ التي تعرّض لها واستنهاض العصبيات المغمّسة بالدم، تحت سحر فلسطين.
وتكمن قيمة الحركة التضامنية التي بدأت عناوينها تطلّ من البلاد العربية ومنتديات المثقفين والناشطين، والتي بدأت تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى حركة مستدامة في الشارع، كما في الماضي وهي تستنهض الناس داخل البلاد العربية وفي المغتربات، في أنها تلقى تعاطفاً واضحاً من الرأي العام العربي والإسلامي والغربي على السواء، حتى بدأت الصحافة الأوروبية والأميركية تتحدّث مبكراً عن استحالة بدء حلول لملفات المنطقة، في غياب رؤية لحلّ القضية الفلسطينية التي ستتكفّل عندما تنفجر بتفجير كلّ شيء.
وإذا كان هذا الهدف، القائم على ربط حلول المنطقة بطرح القضية الفلسطينية على الطاولة، موضوع رهان «إسرائيلي» لاستغلال الظروف العربية وتمرير ما يتناسب مع مقتضيات الأمن «الإسرائيلي»، فإنّ مربط الخيل يبقى بعنوانَيْن يتكفّلان بوضع الخطط «الإسرائيلية» في مهبّ الرياح، وهما القدس واللاجئون، بما تتضمّنه قضية اللاجئين من حقّ مقدس بالعودة، كفلته القرارات الدولية ونصّت عليه كلّ مبادرات السلام، بصورة لا يمكن لأحد إنكار تصدّره عناوين أيّ حلّ.
لا يغيب عن بال اللبنانيين دائماً ما يخصّهم من بحث القضية الفلسطينية وعلاقتها بحقّ العودة ومخاطر التوطين التي تنتظر الفلسطينيين ومعهم بلدان استضافتهم، وفي طليعتها لبنان، ولا يغيب عن بالهم أيضاً أنهم في طليعة المستهدَفين بمشاريع تصفية القضية الفلسطينية، رغم برودة تفاعلهم هذه المرة بسبب ما أصابهم من خماسين «الربيع العربي»، فغابت المواقف التي تنبّه وتستنهض من جهة للتضامن، ومن جهة أخرى لتحذّر من المخاطر.
الأهم هو أنّ مساعي تصفية القضية الفلسطينية بعنوانَي القدس واللاجئين تلقى مقاومة شرسة من المقدسيين، وتنتظر سواهم من المعنيين بحقّ العودة وهم اللاجئون في سورية ولبنان، وقد بدا واضحاً أنهم تعرّضوا لمشاريع ممنهجة لإنهاء قضيتهم وتفتيت تجمّعاتهم بتجنيد بعضهم ضدّ بعض أو ضدّ المحيط المضيف، كما حدث في مخيم اليرموك في سورية ومخيم نهر البارد في لبنان.
لم يعد في العالم من رمز لقضية اللاجئين، إلا مخيم عين الحلوة الذي يعرف كلّ متابع للوضع الأمني في لبنان وللقضية الفلسطينية أنه محور أحداث وعنوان تطورات لا يمكن النظر إليها بسذاجة وبراءة، حيث الرابط بينها وبين محاولة جعل المخيم يلحق بسابقَيْه «البارد» و«اليرموك» ليسقط آخر معقل لعنوان اللاجئين والعودة.
تتجه الأنظار نحو مخيم عين الحلوة لتتساءل: هل سيكون فيه همة وإرادة ووعي ونضج بمثل ما تشهده القدس وما يُظهره المقدسيون، فيكون بذلك النبض الذي يحفظ عنوان قضية اللاجئين ويقطع الطريق على مشاريع التصفية؟ وهل يُظهر قادة عين الحلوة وناشطوه ما يجعله حلواً فعلاً، فينسّقون مع الشريك اللبناني ليكون المخيم معقلاً لحراك يضجّ بالحياة والتضامن مع شعب فلسطين في الداخل، ولكن من ضمن مقتضيات الأمن اللبناني وتحت سقف التشارك اللبناني ـــــ الفلسطيني في رفض التوطين والتمسُّك بحقّ العودة؟