شمال سورية: الجبهة الساخنة
عامر نعيم الياس
استنفر العالم يوم أمس من أجل دخول طائرة روسية المجال الجوي التركي، الإدارة الأميركية شنّت الحملة الإعلامية والسياسية، وفرضت اجتماعاً عاجلاً لحلف شمال الأطلسي الذي أصدر بدوره بياناً تحدث فيه عن اختراق روسي «لسماء الأطلسي». واشنطن لم تهدأ، سارعت إلى الإدانة والتحذير من مغبة تكرار الحادثة متحدثةً بلغة النصح الحاملة تهديداً مبطّناً يدركه الروس عن «إمكانية إسقاط الطائرة في الأجواء التركية».
بالتوازي مع ما سبق نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية تقريراً يتحدث عن تصعيد أميركي في سورية يراهن على الجبهة الشمالية فيها، وفصل عمليات تحالف بوتين عن تحالف أوباما عبر تكثيف العمليات الجوية للولايات المتحدة وحلفائها فوق شرق سورية وتحديداً الرقة ودير الزور، كمدينتين ترسمان حدود داعش والتنظيمات الأخرى وعلى رأسها النصرة عبر الغطاء الجوي الأميركي، بما يؤمن بقاء التنظيم ورقةً بيد واشنطن لتنفيذ أجندتها في المنطقة التي تبدأ وتنتهي تحت ستار تنظيم داعش الإرهابي.
من جهة أخرى يتم الحديث عن فتح مخازن السلاح الأميركي، وفق «نيويورك تايمز»، للمسلحين العرب في شمال سورية والذين يقدّر عددهم بين «ثلاثة آلاف والخمسة آلاف» من أجل ملء الفراغ في شمال البلاد، هنا لا يعرَف أي فراغ، لكن من الواضح أن الصحيفة تلمّح إلى تخفيف أوباما للقيود المفروضة على تسليح الميليشيات السورية والمحدّدات التي تسمح بتحديد أيها «معتدل»، وفق التعريف الأميركي الغامض للميليشيات المعتدلة في سورية. هذا التسليح لا يمكن أن يتم سوى عبر الحدود السورية التركية التي كانت في مجهر الحملة الدولية الغربية على الوجود العسكري الروسي في سورية، حيث يحاول «الأطلسي» تحديد هامش مناورة الروس في سورية وتحديداً في مناطقها الشمالية الحدودية مع تركيا، حيث الحدود الإدارية مع محافظة إدلب التي يسيطر عليها ما يُسمّى «جيش الفتح» وهو تحالف من حركة «أحرار الشام» السلفية الجهادية و«جبهة النصرة» الذراع العسكري الرسمي للقاعدة في سورية، وبعض الفصائل الأكثر خطورة على الروس المؤلفة من المقاتلين الشيشان والتركمان، هنا لا يمكن التغاضي عن حجم القلق الغربي من استهداف «النصرة» التي تُعدّ إلى جانب «أحرار الشام»، التنظيمان الأكثر قدرة على تنفيذ الأجندة الغربية في سورية، وهما القوتان الفاعلتان اللتان يراهن عليهما بشكل يفوق تنظيم داعش، الذي وإن تمّ وسيتم استخدامه في سورية، إلا أنه في النهاية مستهدف بقرارات أممية لا يمكن التغاضي عنها، لكن هل ينجح أوباما في تصعيده مع بوتين ويوقف عمل الطائرات الروسية في منطقة الحدود السورية التركية؟
اعترفت وزارة الدفاع الروسية في معرض ردّها على البيان التركي باختراق إحدى الطائرات الروسية المجال الجوي التركي «لثوانٍ معدودة» بسبب «سوء الأحوال الجوية»، وهو ما يعكس بصدق التوجهات الروسية في سورية، والتي لا تريد الاعتداء على أحد، بل الحفاظ على الدولة السورية ومحاربة التنظيمات الإرهابية ضمن الحدود السورية وليس خارجها، وبالتالي وعبر هذا الاعتراف رسّخت موسكو شرعية عملها في المجال الجوي السوري، بما في ذلك المناطق الحدودية مع تركيا والتي تُعدّ البوابة الأخطر والأهم للعنصر البشري المكوّن للمجموعات الإرهابية المسلحة، والعنصر المادي والتقني والتسليحي الداعم لاقتصاد المجموعات الذاتي ولحربها لتدمير البلاد واستنزافها، هنا لا يمكن لموسكو أن تنكفئ عن شمال البلاد وحتى الإدارة الأميركية لا يمكن أن تدخل على خط استبعاد طائرات تحالف بوتين عبر طائرات تحالف أوباما، فالتحالف الروسي بدأ عملياته في سورية بالطلب من الإدارة الأميركية سحب طائراتها من المجال الجوي السوري، وسحب مدربيها من الأرض السورية خاصةً المنطقة الشمالية الغربية.
إدلب مركز التصعيد الغربي في سورية وثقل الرهان التركي الأطلسي الأميركي على استنزاف الوجود الروسي وتعطيل عملياته العسكرية لضرب النموذج الروسي في الحرب على الإرهاب، وتظهير معادلة مفادها أن الكل عاجز في المواجهة وأن الأساس هو عامل الوقت الذي يجب أن يستمر سنوات وسنوات حتى انفراط الدول التي تشكّل ساحات حرب تلقائياً، كما أن إدلب تعد قاعدة انطلاق لمعركة السيطرة على حلب والتي لم تغِبْ عن العقل الغربي المتآمر على سورية منذ اندلاع الأزمة. ولعل تحوّل المدينة إلى مدينة منكوبة خير دليل على ما سبق، في ضوء توازن القوى داخل العاصمة الاقتصادية للبلاد والذي لا يسمح لأي طرف الآن بكسر التوازن القائم. لكن في المقابل فإن الروس الذين أتوا «لحماية الأمن القومي لروسيا»، وفق بيان مجلس الاتحاد الروسي، يريدون أولاً وقبل أي شيء استهداف العنصر البشري القادم من القوقاز والذي يُعدّ الأخطر والأكثر حساسية والهدف الأول من الحرب الروسية الاستباقية على الإرهاب في سورية، وهؤلاء يتمركزون تحديداً في مناطق شمال البلاد، وشمال غربها، ومتحالفون مع النصرة وحركة أحرار الشام، كما أنهم يشكّلون جناحاً وازناً في ما يُسمّى المقاتلين الأجانب في تشكيل جبهة النصرة الإرهابية، وعليه فإن المواجهة الأعنف والخطوط الحمر لتحالفي أوباما وبوتين تتقاطع في شمال سورية، لكن الأفضلية تبقى للتحالف الذي ينسّق مع الجيش السوري ويعتبر الإرهاب خطراً وجودياً عليه وليس أداةً لتنفيذ سياساته فقط.
كاتب ومترجم سوري