ثلاث عواصم إمبراطورية يجمعها حلم المتوسط: ماذا يحدث عندما تلتقي موسكو والقاهرة ودمشق؟
ناصر قنديل
– تفتح ذكرى حرب تشرين في السادس من تشرين الأول شهية الباحثين العسكريين الاستراتيجيين على استعادة خلفيات تتخطى لحظات اشتباك لعب دوراً في لحظة تاريخية معينة من صراعات الشرق الأوسط، لأنّ الوقوع المتسرّع في اللحظة يضع المحللين السياسيين اليوميين الذين يغرفون معلوماتهم من التدفق السريع والطازج للمعلومات أمام مشهد مضلّل، فتصير الحرب التي طرحت على بساط البحث للمرة الأولى السؤال عن قابلية «إسرائيل» للبقاء في المنطقة، مجرد تحالف سوري مصري سعودي عصبه مال النفط حرك مسارات التسوية ووصل إلى «كامب ديفيد»، بينما العودة إلى المسارات التي ترسمها الكيانات السياسية عبر التاريخ يصحّح الرؤية ويضع الحدث في نصاب ينسجم مع الفائدة المرتجاة من أيّ بحث هادف يجب أن تكون مهمته إضاءة المستقبل بنور التاريخ لا بنور الماضي.
– في حرب تشرين العام 1973 حدث شيء يشبه ما يحدث هذه الأيام، وفي هذه الأيام تتموضع السعودية على الضفة المعاكسة للضفة التي تقف فيها دمشق والقاهرة وموسكو، رغم ظاهر روابط القاهرة والرياض إلى حدّ الإيحاء بتفوّق حلفهما معاً على كلّ علاقات أخرى للقاهرة، بينما في مفهوم الأمن الوطني المصري الأولوية هي لمواجهة التحدّي التركي الذي يبدو الحليف الأقرب للسعودية في هذه المرحلة، والتحدّي التركي يطلّ على أمن بلاد النيل من بوابة بلاد الشام. وهو يعبث بالكبد المصري عبر «الإخوان المسلمين»، وبالخاصرة المصرية في ليبيا عبر «داعش» و«الإخوان» معاً، وتدرك القاهرة أنّ حرب اليمن التي تشكل أهمّ حروب السعودية خلال قرن كامل، وتخوضها الرياض اليوم بتحالف تامّ معلن مع «الإخوان» وتنظيم «القاعدة» اللذين سيكونان على ضفاف شواطئ مصر إذا انتصر الخيار السعودي في الحرب.
– الارتباك المصري بالتحالف مع السعودية من جهة والدفاع عن المصالح الحيوية لأمن مصر لم يمنع القاهرة ودولتها بصيغتها الجديدة التي تستمدّ خلفياتها من مفاهيم المؤسسة العسكرية المصرية، من الوقوف بوضوح مع الدور الروسي في سورية، ورفض التوقيع على البيان الذي وقعته دول الأطلسي وتركيا والسعودية، احتجاجاً على الغارات الروسية ضدّ تنظيمات تتشكل خلفية تمويلها وتسليحها وعقيدتها من الثنائي السعودي التركي.
– البحر الأبيض المتوسط شاهد حيّ لا تبتلع حيتانه الذاكرة الممتدّة لآلاف السنين، من حملة رمسيس إلى قادش وانتهاء بحملة محمد علي باشا وإبراهيم باشا إلى بلاد الشام، ولا ينسى المتوسط حملة كاترينا الثانية أو حملة نيقولاي الثاني التي بلغت خليج عمان، المسمّى مضيق هرمز اليوم، ومرفأ بندر عباس كما بلغت الإسكندرية عابرة مضيق جبل طارق رداً على إقفال العثمانيين مضيقَي البوسفور والدردنيل أمام السفن الروسية. كما تقفز إلى ذاكرة المتوسط فور ذكر مضيق جبل طارق الحملة السورية لفتح الأندلس وطارق بن زياد، وصولاً إلى جبال الألب، ومن قبلها حملة أليسار من شواطئ صور إلى قرطاج وحملات هنيبعل إلى سواحل فرنسا وإيطاليا، ولا يغفل المتوسط، دور الحملات الروسية في استقلال مصر عن السلطنة العثمانية، أو كلمة كاترينا الشهيرة أنّ أمن بطرسبورغ التي كانت عاصمة القيصرية يبدأ من دمشق وليس من نهر الفولغا، كما لا ينسى حملات صلاح الدين الأيوبي الآتية من بلاد الشام لملاقاة الجيش المصري نحو القدس.
– الإمبراطوريات الثلاث التي جمعها حلم المتوسط، جمعها القلق الاستراتيجي من التطلعات العثمانية لقرنين من الزمان على الأقلّ سبقا انهيار الإمبراطورية العثمانية التي تستعيد بتطلعات سلطانها الجديد، رهانات وأوهام حروبها في القرم وفي سورية ومصر، وترى شمال سورية بوابتها للحلم، وفي المواجهة التي يصيغ معادلاتها التاريخ العميق في الذاكرة الحية للقادة الآتين من بطون تاريخ مؤسسات عسكرية عريقة في الدول العصرية الثلاث، يتقدّم صدّ مخاطر اللعبة العثمانية الجديدة كتعبير عن مكمن الخطر المشترك على الأمن القومي، ليصنع المفهوم الإمبراطوري العصري بالمعنى الحضاري لا بصيغة «نوستالجيا» أوهام الدور الاستعماري الذي يسكن في عقل كلّ من قادة فرنسا وتركيا، الدولتين اللتين خاضت ضدّهما الوطنية الروسية والوطنية السورية والوطنية المصرية مواجهات دفعت ثمنها أكلافاً غالية في أزمنة متفاوتة وحروب متعدّدة. العقل الإمبراطوري الحضاري، يتمثل هنا في تقدّم صفوف الإنسانية لاجتثاث الظاهرة الأشدّ خطراً على العالم التي يمثلها الإرهاب كأولوية، ويتصرّف الذي قادوا السياسة الدولية لعقود مضت، معه باعتباره اللص الظريف الذي يستفيد من لعبة الباب الدوار فيدخل السجن من الباب الأمامي ليخرج بمهمة سرية من الباب الخلفي.
– لا وجود في ذاكرة البحر المتوسط لدور سعودي، ولا مكان لحملات العقل القبائلي، الذي تقف دائرته عند حدود رمال الصحراء، ولا مكان للزمن الإمبراطوري على ضفاف المتوسط إلا على شغاف ما يختزنه من تفاعل ثقافي وحضاري يعبّر عنه اليوم التعدّد الديني، فتتلاقى مكونات لا يربطها دين ومذهب لخير إنساني عام، يحقق في الوقت ذاته مفاهيم الأمن الوطني للإمبراطوريات الحضارية الثلاث، في حرب تشكل اليوم استمراراً لحرب قطع مسارها العام 1973 بسبب التدخل السعودي الذي اشترى القرار المصري ذات يوم فأفسد الحرب ومسارها، ويخشى المخلصون رغم بشائر التخلص والتملص المصريين من مفاعيل قيوده المالية أن ينجح بفرض شروطه مرة أخرى.
– هو موعد مع التاريخ تبدأه دمشق وموسكو وتدعوان القاهرة للانضمام في الصف الأمامي وغرفة القيادة، وتقف إمبراطورية رابعة هي بلاد فارس التي لا تقلّ بصماتها في المتوسط عن بصمات شريكيها السوري والروسي ولا عن بصمة الشريك المتوقع الذي تمثله بلاد رمسيس، ومحمد علي. وعبر التاريخ، سقطت مملكة الوهابية السعودية الأولى على يد جيش إبراهيم باشا وحملته العسكرية التاريخية، وكما يقول التاريخ إنّ مملكة الفاطميين التي ينتمي إليها التاريخ المصري الأقرب للإمبراطورية خاضت معارك أنطاكية في شمال سورية بوجه حملات الروم، وفي خلفيتها امتداد من عمق بلاد فارس إلى أقصى بلاد المغرب.
– لا يخطئ الاستراتيجيون الذي يقولون إنّ قرناً كاملاً من تغلب تلاقي ثنائي التكنولوجيا والمال على الحضارة، ونجاحه بتعميم فساد الحكمة والفلسفة والعلوم والثقافة والسياسة والاقتصاد، يطويه التلاقي الذي تتشكل ملامحه بين التاريخ الجغرافيا، وأنّ فجراً جديداً للإنسانية سيُكتب، وهو يُكتب راهناً، سيعترف بدور رؤيوي تحمّل أعباءه، قائد اسمه بشار الأسد استنهض بصموده وثباته وشجاعته وحكمته، قوى التاريخ والجغرافيا الكامنة والسحرية وكشف أسرارها، وعرف كيف يلاقيها بالآلام والعذابات، لأنّ التاريخ والجغرافيا لا يصحوان على قرع الطبول بل على أنين المعذبين، بعدما بلغ فجور ثنائي المال والتكنولوجيا حدّ السّاديّة المفتونة بشهقة الحنجرة تحت نصل السكين ونفرة دم الضحية بوجه الجزار.