مونديال في منزل الستّ نعيمة
طوني مسعد
سحب قزحيّا كرسيّه القشّ إلى الشرفة. ألقى بثقله متأفّفاً متضجّراً. أغمض عينيه لثوان. تحت الشرفة ضجيج وهدير شاحنات وصراخ بائع الخضار من الطبقة الأولى من البناية موعد الإقفال. أمور باتت مألوفة مساء كلّ يوم.
كانت أضواء الشقق تنعكس ظلالاً على جدران الشارع. تارة يغمض عينيه وطوراً يفتحهما متثائباً. سئم حياته وعبء العائلة، غير أنّه كان صبوراً كأنّما حمار «يرعى في داخله» لاعتياده أنواع الأعمال المنزليّة. عدّ على أصابعه 1، 2، 3… إلى أن توقّف مع العدد 17 تنهّد:
ـ «صبرَكْ يا قزحيّا، 17 سنة زواج. ساعة النحس. والملعونة لا تزال مثلما في ليلة عرسها!».
فكّر كيف تحوّل شكله بعد سبعة عشر عاماً. هرّ شعر رأسه. انتفخت بطنه وتورّمت قدماه.
كان صوت نعيمة يزعق في المطبخ. تعوّدت الزّعيق لأتفه الأسباب ولصراخها قواعد وأصول. حفظت مبادئ «التقسيم والتقطيع»، ولأيّ «خناقة» مفتاح موسيقيّ مبتكر في معجمها.
على الشرفات تهوّم الأعلام متراقصة مداعبة أهداب قزحيّا. سمّر نظره في راية ثم في جارتها. ثمّة منافسة برازيليّة ـ ألمانيّة فوق السطوح وعلى الشرفات ونوافذ المنازل والسيارات…
اطمأنّ باله لدى إحصائه عدد الرايات الألمانيّة الفائقة تلك البرازيليّة في حيّه. كان يؤيّد الفريق الألماني. ثمّة ما يريحه في تلك الراية المزدانة بألوانها الثلاثة. منذ طفولته نشأ على عشق أفلام الحرب.
رأسه الكبير مليء بفيالق الجيوش وخطط المعارك ودويّ المدافع وأزيز الرصاص وهول القصف والتدمير. رأسه الكبير محشوّ بالرّايات والهتافات والتصفيق وخُطب زعيم الرايخ الثالث.
أحبّ الألمان لسبب بارز: نكاية بنعمية.
شرد بعيداً. كان بائع الخضار يقفل باب الدكّانة. تذكّر أنّ مباراة تلك الليلة قائمة بين فريقي ألمانيا وبوليفيا.
كانت نعيمة منهمكة في المطبخ تجهّز طعام العشاء. تبربر، تلعن الهرّة التي تموء جائعة متوسّلة، فينفطر قلبه شفقة.
أطلّت نعيمة من فوهة المطبخ. بدا رأسها كجبّ القندول. زعقت:
ـ «قوم يا تنبل ساعدني بالمطبخ. جايي روفايل ومراتو يحضرو المونديال عنّا!».
لم يحرّك ساكناً. بقي مستريحاً كأنّه لم يسمع ولم يرَ. كرّرت نعيمة بوتيرة مغايرة. خاف من سقوط الزجاج على رأسه. تمتم في خشية مطعّمة بمرارة:
ـ «طيّب. فهمنا. قايمين!».
حاول النهوض من كرسيّه. خانته بطنه الكبيرة. سقط ثم نهذ متذمّراً. شدّ عقدة «الوزرة». أدخل يديه جوف جيبيه الفارغين. اشمأزّ لرؤية نفسه ملفوفاً بتلك القماشة النسائيّة. كان لا بدّ من وضعها متحاشياً صراخ نعيمة. حتى أبناؤه لا يقيمون له اعتباراً.
نادته نعيمة:
ـ «وين صرت؟ نقبِر فوت عالمطبخ. تحرّك. هزّ دنبك. راح يوصلو الجماعة!».
سرّع خطواته. انعطف متل «تريلاّ» عند مفترق ضيّق.
حدّق مليّاً إلى العلم الألماني المنسدل من شرفة جاره غاريوس. باركه:
ـ «الليلة ليلتك يا نعمية. شوفي الألمان كيف رح يبدّعو!».
راح صوت نعيمة من الداخل يكيل له الشتائم: لعنت ساعة زواجها:
ـ «شو كان بدّي بهالعلقة. رحت تجوّزت هالتنبل. يا ما تقدّملي عرسان. مرتاحة كنت ببيت بيّي، مكرّمة، مدلّلة».
ـ «ريتو يدلّلك عزرايل بديارو. ليش شو تغيّر عليكِ؟ ما عرفتِ كيف تفركيا من بيت أهلك!».
لم يرفع صوته خوفاً من عاقبة زعيقها. مشى ببطء لم تكن جثته الضخمة تساعده في السير برشاقة. لم يكن يوماً رياضياً أو متحمّساً للعبة أو مؤيداً فريقاً. هذه المرّة نكاية بنعيمة يؤيّد الفريق الألماني.
سار من غرفة الجلوس حتّى المطبخ. في طريقه أدار مفتاح التلفزيون. جهازه ما زال بالأبيض والأسود. أحبّه بلا ألوان ليقهر نعيمة المغرمة بالمسلسلات المكسيكيّة المدبلجة:
ـ «من وين بدّي اشتريلا تلفزيون ملوّن؟ ليش المعاش بيكفي أكل وشرب ومدارس؟ همّها توصل عالمكسيك، وعَ بيروت بالكاد نوصل!».
نظر إلى ساعة الجدار هديّة زواج . اقترب موعد المونديال.
صرخت نعيمة بعنف ذكوريّ. بارعة في اختيار ألوان الشتائم في الوقت المناسب. حفظ معجمها غيباً. سمع رنين جرس الباب. هرول مترنحاً ليفتح الباب.
وقفت سهام مع زوجها روفايل مثل غزالة ميساء. لامس صدرها العارم رأس قزحيّا. شمّ عطرها الفرنسيّ. تنهّد. تأمّل فستانها المزركش وقامتها الرشيقة ووجهها الباسم.
ـ «ليتها كانت من نصيبي!» همس في نفسه.
ـ «أهلا بالجيران أهلا… شرّفتو…» بادرت نعيمة ما إن لمحت طيفهما.
ـ «أهلا بالجيران!» ردّد بعدها قزحيّا.
ـ «دقيقة وبكون معكن» قالت نعيمة.
دخل روفايل. تبعته سهام. جلسا على كنبة مقابلة للتلفزيون. كانت القناة الرسمية «مشوّشة ومغبرشة». حاول قزحيّا التقاط قبرص «بس مين بيعرف قبرصي؟!» تمتم في نفسه. وأضاف «ما في غيرها المضروبي نعيمة… ضليعة بالقبرصي…»، ضحك ثمّ امتعض، محاولاً إخفاء تقزّزه من رؤيتها.
دخلت نعيمة وهي تمسح يديها بفستانها. رحّبت بحرارة وقف قزحيّا ثم روفايل فسهام.
ـ «وين الولاد من غير شرّ؟!» سألت سهام.
ـ «ما بقا يلبقلهن يحضرو مونديال إلاّ عالملوّن. راحوا عند بيت عمّتهن».
ـ «بيرتاحوا من شرّك!» همس قزحيّا في أذن نفسه.
ـ «نحنا ولادنا عم يحضرو بالشقّة مقابيلنا!» عقّب روفايل.
خرجت نعيمة مجدّداً لتحضير كأس وتوابعها من الأجبان والألبان. غمزت قزحيّا. مشى ملتصقاً بالجدار ما إن تذكّر «الوزرة» فاحمرّت وجنتاه خجلاً.
ـ «بلّش الماتش يا جيران… بلا ما تتعذّبو!» قال روفايل.
ـ «ما في شي بيحرز… من حواضر البيت» عقّبت نعيمة.
ـ «ما في شي حرزان!» كرّر قزحيّا.
بدأ استعراض الفريقين الألماني والبوليفي. جلست نعيمة جنب سهام وراحت تحدّثها عن شجونها ومشكلة الأولاد و«تنبلة» قزحيّا…
كان الأخير آنذاك منهمكاً في نبش مكان الخبز ليعود مسرعاً.
ـ «شو قولك يا خواجة قزحيّا؟ بيربحوا الألمان الليلة؟!»
ـ «بدّا قول خواجة روفايل؟ وحصرمي بعين الما بيحبّن!»
قال غامزاً ناحية نعيمة.
ـ «إن مع مين خواجة روفايل؟!».
ـ «أنا مع مراتي!» أجاب.
ضحك الجميع… ما عدا نعيمة.
ـ «سامع يا قزحيّا؟ هيك بيكونوا الخواجات!».
لم ينبس بكلمة.
التحم الفريقان. كانت «خشخشة» الشاشة تفرض تحديقاً وتمعّناً وصعوبة في إدراك لحظات الإثارة.
ساد الصمت ما عدا تمريرات ساخنة ترسلها نعيمة من فينة إلى أخرى وهي تحمّس الفريق البوليفي من دون أن تعرف شيئاً من قوانين اللعبة وأصولها.
تؤيد الفريق البوليفي لتغيظ قزحيّا الذي يغيظها بكرهه للمسلسلات المكسيكيّة المدبلجة.
راح الفريق الألماني يُمرّ الطابة على نحو يهدّ مرمى الفريق البوليفي. كان هتاف الجمهور يتداخل و«خشيش» الشاشة. كان كلينسمن أحبّ اللاعبين إلى قلب قزحيّا تماماً مثل «ميراندا» إلى قلب نعيمة.
لم يقو قزحيّا على كبح جماح حماسته. نهض مسعوراً كأنّما لسعته أفعى ثمّ استكان. أمّا نعيمة فكانت ترمق الشاشة بحذر مشوب بخشية وفمها الصغير يصول ويجول، بينما قدما قزحيّا ترسمان دوائر وخطوطاً تشبّهاً بتحرّكات كلينسمن. شعر للحظات بأنّه على أرض الملعب متوثّباً للحظة الحسم، لتحقيق فوز ساحق لفريقه الألماني. تقمّص شخص كلينسمن. في تلك اللحظة حبس الأخير الكرة بين قدميه، ثمّ كرّ بها عميقاً ليدخلها مرمى الفريق الآخر، أرفقها قزحيا من مكانه برفسة قويّة نفخ فيها حماسته المطلقة حتى كادت تطيح الشاشة وما فيها من جمهور ولاعبين وفريق تحكيم. كادت نعيمة تبادله الحركة لولا حياؤها من الضيفين.
هدأت المعركة. ربح الألمان. غادر الزائران. تسلّل قزحيّا إلى مقعد الشرفة. كتم فرحه إلى حين ثمّ انفجر ضاحكاً. شعر بأنّه حقّق فوزاً مزدوجاً: ربح الألمان وحُرمت نعيمة من حضور البرامج المكسيكيّة.
نظر إلى شرفة جاره غاريوس. سحره مرأى العلم الألماني يهوّم في فضائه الرحيب.
انتصب قزحيّا على الشرفة. مدّ قبضته بجرأة لم يعهدها سابقاً في حياته ثم صاح صيحة ارتعشت لها الرايات والشرفات:
«هايل هتلر… هايل هتلر!».
شعر بأنّه زعيم الرايخ الثالث… لو لم يكن زوج نعيمة…
من وحي مونديال 1994 وإحراز اللاعب كلينسمن الفوز لفريق بلاده في المونديال، واحد مقابل صفر لفريق بوليفيا .