أردوغان في مأزق التدخل الروسي
د. هدى رزق
التدخل العسكري الروسي في سورية، يسحب البساط من تحت أقدام تركيا، إذ إنّ إصرارها على سياساتها سيجعلها في مواجهة مع روسيا وإيران، وهي ترى اليوم أن الغرب الأوروبي قد تخلّى عنها وعن مشروع المنطقة العازلة، كما أنّ الأميركيين لم يتعاطفوا مع هذا الاقتراح رغم وعودهم لأردوغان بإمكانية بحث الموضوع بعد الموافقة على «انجرليك». لا يمكن رؤية التدخل الروسي في سورية إلا كجزء من الأمن القومي الروسي بعدما جرى استجلاب القوقازيين والشيشانين والإيغور إلى سورية برعاية تركية بعد تعبئة ايديولوجية اسلامية حول العداء الروسي التركي وإذكائه عبر التذكير بمعارك القرون الغابرة، حيث يعتقد القيمون أنّ لهذه الأيديولوجيا تأثيراً على الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي في آسيا الوسطى والقوقاز، الأمر الذي سيساعدهم على ضرب روسيا من داخلها، حيث يقطن أكثر من 20 مليون مسلم.
تنتقل الأزمة السورية إلى مرحلة جديدة على صعيد التوازنات والحسابات. فعلاقة روسيا الاقتصادية مع تركيا، لا سيما بعد أن أوقف بوتين خط ما يُسمّى الدفق الجنوبي للغاز، إذ قيل إنّ أحد أسبابه تمثل بتخطي تركيا الخطوط الحمراء في إدلب وجسر الشغور.
يأتي التدخل الروسي اذاً كمفاجأة لأردوغان، بالرغم من تصريحه بإمكانية قبول الأسد لفترة انتقالية، لكنه حاول التراجع في ما بعد عن هذا التصريح خوفاً على شعبيته في أوساط الإسلاميين المتشددين…
التناقض الاستراتيجي بين روسيا وتركيا ليس جديداً، فهو حاصل منذ بداية الحرب على سورية. وكلّ محاولات رأب التصدّعات وفصل السياسي عن الاقتصادي باءت بالفشل. أردوغان اليوم يرى أنّ ضرب «أحرار الشام» وغيرها من الفصائل الإرهابية، سيقود حتماً إلى تقوية الدولة السورية. في الوقت الذي اعتقدت فيه تركيا أنها تتقدّم مع دول الخليج في ضرب ما تبقى من استقرار النظام في سورية، أتى التدخل الروسي لقلب موازين القوة في الداخل وأحد أهدافه دعم النظام من أجل التسوية في سورية من جهة ومن جهة أخرى حسم معركة حلب التي راهنت عليها تركيا لإسقاط النظام. تهدف روسيا إلى تحقيق هدف ميداني في الشمال السوري عبر التقدّم البري للجيش والقوى المساندة، قبل التفرّغ لمقاتلة «داعش»، تريد حماية ظهر حلفائها، لكن تركيا ترى أن ثمة مخاطر حقيقية ستترتب على أمنها الداخلي من التدخل الروسي، ولعلّ في مقدمة هذه المخاطر مشاركة الأكراد في الحملة العسكرية وتقدّم وحدات حماية الشعب باتجاه جرابلس ومارع وصولاً إلى عفرين، مما يقوّي حزب العمال الكردستاني، لكن روسيا أكدت لتركيا أنها تقف إلى جانبها في تركيا وليس في سورية.
تبدو تركيا بين قرارين أحلاهما مرّ… الأول مجابهة هذا التغيير والعمل بوحي من حلفائها الخليجيين عبر إعطاء المسلحين أسلحة نوعية كصواريخ «ستينغر» أو صواريخ ارض جو، وهذا بدوره بحاجة إلى قرار أميركي، لكن هذا الموقف لا يغرق روسيا وحدها في وحول سورية بل يضع تركيا برمّتها في أتون الحرب، وهذا ما حمل المعارضة التركية وعلى رأسها زعيم حزب الشعب الجمهوري على انتقاد السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية، التي جعلت من تركيا فاعلاً أساسياً في الصراع في المنطقة وحملها على معاداة جيرانها سورية وإيران وروسيا.
وإذ اعتبر أنّ هذه السياسة يمكنها أن تقود منطقة الشرق الاوسط والعالم إلى كارثة حذّر حزب الشعوب الديمقراطي من أنّ تركيا كأمة ستدفع ثمن هذه السياسة الخارجية، مؤكداً أنّ 78 مليون تركي سيدفعون ثمن سقوط سياسة العدالة والتنمية في سورية. كما أنّ حزب الحركة القومية نصح المسؤولين باعتماد سياسة حكيمة تحمي المصالح التركية الوطنية وأخذ ترتيبات ضرورية لذلك.
لا تثق تركيا بجدية الإدارة الأميركية تجاه الأزمة السورية اذ يبدو أنّ الإدارة الأميركية المنكفئة على نفسها تقبل بالنظام كجزء من الحلّ في المرحلة الانتقالية، وتدعو إلى تنسيق مع القوات الروسية وتؤكد أنها لا تريد الاصطدام معها، حتى عندما تخطت المجال الجوي التركي بطائراتها، هي فعلت لأكثر من مرة، لكن تصريحات الناتو في هذا الشأن أتت تحذيرية إرضاء للأتراك الذين لجأوا إليها من أجل عدم الاصطدام بروسيا.
تعيش تركيا استحقاقاً انتخابياً قريباً وحرباً مع حزب العمال الكردستاني في الجنوب الشرقي وشرق تركيا ومعارضة داخلية ولا تريد خسارة الإسلاميين، لا سيما أنّ استطلاعات الرأي لم تعط حزب العدالة والتنمية الأرجحية في الوقت الذي يئن فيه الداخل من الوضع الاقتصادي الذي بات يهدّد قطاعات مهمة.
ثمة تحديات كبيرة تضع أردوغان أمام وضع صعب في علاقته مع موسكو، وعلاقته بالجماعات الإرهابية المحسوبة عليه، كذلك تضع مصداقيته مع حلفائه العرب على المحك، فالاندفاع نحو التهوّر سيجعل من تركيا محرقة وسيورّطها إذا ما توترت العلاقة بين موسكو وواشنطن وحليفاتها الأوروبية. لن يتخلى أردوغان بسهولة عن الجماعات المسلحة لا سيما تلك ذات الأصول التركية، فهي ورقته من أجل الجلوس على طاولة المساومة حول حلّ الأزمة السورية، وهو سيحاول الضغط على أوروبا إذا ما اضطر إلى استقبال إلى هؤلاء في الداخل التركي، مع العلم أن في زيارته الأخيرة إلى الاتحاد الاوروبي دافع عن نفسه وبأنه لم يعمد إلى الدفع بحركة اللجوء إلى أوروبا.
أردوغان أمام حلين: فإمّا أن يتخلى عن حلفائه ويكف عن دعم المسلحين ويتراجع عن سياسته الحالية، أو يدخل في مغامرات خطيرة غير محسوبة.