القدس… الأزمة والمخرج
راسم عبيدات
في كلّ مرة ترتفع فيها وتيرة الهبّات الجماهيرية المتواصلة في مدينة القدس منذ جريمة خطف وتعذيب وحرق الفتى الشهيد محمد أبو خضير حيّاً على يد سوائب المستوطنين في 2/7/2015، تكثر التحليلات والتكهنات والسيناريوات حول تفسير ما يحدث، وهل مثل هذه الهبّات الجماهيرية مقدّمة لانتفاضة شعبية عارمة، أم أنها فقط هبّات جماهيرية محلية محكومة أو مرتبطة بظرف ما مثل اقتحام المسجد الأقصى أو ارتكاب جريمة ما بحق المقدسيين كما حدث مع الشهيد أبو خضير الخ..؟.
وقبل الحديث والتحليل بأنّ ما يحصل في القدس الآن هو هبّة جماهيرية متصلة ومتراكمة ومستمرة من الهبّات السابقة، أو أنّ الأمور وصلت إلى ذروتها ونقطة التحوّل والنقلة النوعية قد حدثت، أم أنّ الأمور لم تصل إلى مرحلة النضج الكافي في سياق عملية التراكم والتحول، وما زال التوصيف لها بأنها هبّة جماهيرية، وهنا علينا التنبّه جيداً إلى أنّ المسألة ليست ميكانيكية في عملية التحوّلات والنقلات فتحدث في سياق العمل والممارسة، وأحياناً تكثف الأحداث وقدرة الجهة المحركة أو المنظمة على استغلال الحدث واللحظة المناسبة قد تدفع الأمور نحو تحول استراتيجي ونوعي، ومن الهام أيضاً التأكيد على أنّ شروط اندلاع انتفاضة جماهيرية ليست ثابتة أو مقدسة، بل هي متحركة في سياق اختلاف المرحلة والظرف وطبيعة القوى المحركة لها والقائدة والمنظمة لها.
لا شك في أنّ الظروف الموضوعية لقيام انتفاضة شعبية عارمة الجميع متفق على أنها ناضجة ومهيّأة ومتوفرة، فالاحتلال بإجراءاته وممارساته وسياساته اليومية، وما يرسمه من خطط واستراتيجيات، تجعل عدم قيام انتفاضة معاكساً لحركة التاريخ والواقع، حيث «التغوّل» و»التوحش» الاستيطاني، العقوبات الجماعية، الاقتحامات المتكرّرة للأقصى بغرض التقسيم الزماني والمكاني، سنّ المزيد من التشريعات والقوانين العنصرية، الحصار والإغلاقات، تقطيع أوصال الضفة العربية بما يلغي قيام سوق موحّدة أو وحدة جغرافية تمكن من إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس…
هذه الظروف الموضوعية الناضجة والمتهيئة لماذا لم تؤدّ إلى اندلاع انتفاضة شعبية شاملة تطال القدس والضفة الغربية، مع امتداد مفاعيلها وتأثيراتها في إطار دعم وإسناد من الداخل؟
وهنا يجب التمييز بأنّ الظرف الذاتي مقدسياً متقدّمٌ على ما هو عليه في الضفة الغربية، حيث ساحة الاشتباك والصراع اليومي، ولذلك أصبحت الجماهير ومعها القوى المحركة قوى وفصائل وأحزاب وحركات شبابية وجماهيرية أكثر وعياً وتجربة وخبرة في الميدان ومعمعان النضال، وأصبحت على قناعة تامة بأنه لا بديل عن انتفاضة شعبية عارمة، ولكن في الإطار الأوسع فإنّ من يقودون العمل السياسي ويمتلكون القرار في الضفة الغربية كسلطة أولاً وقوى وفصائل وأحزاب ثانياً ظروفهم وأوضاعهم الداخلية وخياراتهم غير مهيّأة لمثل هذا التوجّه والخيار الاستراتيجي، فالسلطة على سبيل المثال والتي ألقى رئيسها أبو مازن خطابه كرئيس للشعب الفلسطيني أمام الدورة السبعين للجمعية العامة قال بأنّ الظروف والأوضاع بسبب الاحتلال لم تعد محتملة، وبأنّ السلطة لن تلتزم بالاتفاقيات إذا لم يلتزم بها الاحتلال. هذا الخطاب لم يصل حدّ إلغاء التنسيق الأمني، وجاءت عملية نابلس وقتل المستوطنين وما تبعها من عمليات في القدس، وقيام المستوطنين وسوائبهم بأوسع عملية عربدة و»زعرنة» تجاه الشعب من إحراق لحقولهم إلى قطع أشجارهم وتكسير مركباتهم وإلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة على بيوتهم ومحاولة اقتحامها، ناهيك عن إغلاق الطرق بين مدنهم وقراهم.
هذه الجرائم مع انسداد الأفق السياسي ودخول المفاوضات العبثية في مأزق جدي وحقيقي، جعلت سقف الموقف السياسي للسلطة يرتفع، مع حدوث حراك وململة كبيرة في صفوفها بأنّ هذا المأزق بحاجة إلى مخرج، من دون أن يصل ذلك إلى حدّ تبني خيار الانتفاضة الشعبية، كذلك مكونات الحركة السياسية تعيش حالة من الضعف والأزمات القيادية، حيث إنها وإنْ حسمت خيارها بالانتفاضة الشعبية، ولكن هذا الحسم والتوجه بقي في الإطار النظري ولم ينتقل للممارسة العملية، حيث أوضاعها الهلامية وأزماتها وقفت حائلاً دون تنظيمها للانتفاضة وتأطيرها وقيادتها، وغلب التردّد وعدم المبادرة على سلوكها وفعلها.
في حين نشوء طبقة من رحم السلطة وخارجها منتفعة ومستفيدة من السلطة كمشروع استثماري، وكذلك كربّ عمل كبير، ربط مصالحها ومواقفها بتوريطها اقتصادياً من خلال القروض من مؤسسات النهب الدولية صندوق النقد والبنك الدولي ، يجعلها تتصرّف بما يحفظ مصالحها، وبالتالي الوقوف ضدّ خيار اندلاع انتفاضة شعبية عارمة.
صحيح، أن التطورات والأحداث تفرض نفسها، وتحديداً في بؤرة ومركز الأحداث والصراع، مدينة القدس، ولكن هنا أيضاً لا بد من الحديث عن أنّ هناك أزمة عدم وجود استراتيجية موحّدة وهدف واضح قائم التوافق عليهما بين كلّ مكونات ومركبات الحركة السياسية والشبابية والمجتمعية الفلسطيني، حيث الإرباك والتخبّط والارتجال وردود الفعل غير المنظمة، هي مَن يتحكم في سير الحركة، رغم وجود روح التضحية والانتماء العالي، بالإضافة إلى تردد ما في حسم الخيارات له علاقة في عدم وجود قرار وإرادة فلسطينية عامّين، ولكن كمقدسيين حتى يتم التركيم والبناء على ما يحدث لا بدّ من خلق وبناء مرجعية شعبية علنية موحّدة كحاضنة ومؤطرة للفعل والجهد الانتفاضي والجماهيري، تفرز قياداتها في سياق العمل، وليس شرطاً من القوى السياسية. وهذه المرجعية تكون على غرار لجنة المتابعة العربية في الداخل -48 تقيم لها أذرع وحوامل في كلّ قرى وأحياء مدينة القدس، بعيدة عن روح الفئوية والاستئثار بالقرار والموقف.
المرحلة الآن يمكن لنا توصيفها بالتحديد في مدينة القدس هبّات جماهيرية أطول وأعمق على طريق التحوّل إلى انتفاضة شعبية عارمة، إذا ما توفرت الحاضنة الموحّدة والمفرزة قيادتَها في سياق ومعمعان العمل والمواجهة، والملتقطة للحدث والقادرة على استغلاله وتحويله مرجلاً يغلي لكي يتحوّل ويطلق شرارة الانتفاضة الشعبية.
Quds.45 gmail.com