سياسات تقشفية… ولكن!

لمياء عاصي

في مثل هذا الوقت من كلّ عام، تقدّم وزارة المالية مشروع الموازنة العامة للدولة إلى الحكومة، تمهيداً لمناقشتها وإقرارها من البرلمان. ومنذ بدء الأزمة السورية عام 2011 اتّسمت الموازنات الحكومية بالتقشف الشديد، في إطار الجهود الحكومية للتأقلم مع انخفاض موارد الدولة من القطاعات المختلفة، وخصوصاً النفط، الفوائض الاقتصادية والضرائب، ومحاولة معالجة العجز المالي في الموازنة العامة والبحث عن موارد جديدة للخزينة العامة.

وتتجلى ملامح السياسات التقشفية من خلال تخفيض الإنفاق العام بشقيه الجاري والاستثماري، وكذلك رفع الدعم عن الكثير من السلع الأساسية، وهناك إجماع على الآثار السلبية للسياسات التقشفية، سواء على الناتج المحلي الإجمالي أو النشاطات الاقتصادية.

في إطار الحديث عن السياسات الحكومية التقشفية، يمكن تصنيف هذه السياسات إلى قسمين رئيسيين. الأول: البحث عن الموارد الإضافية للخزينة العامة، والثاني: ضبط وتقليص الإنفاق العام للدولة.

أولاً، البحث عن موارد رديفة للخزينة العامة: انصبّت معظم قرارات الحكومة على رفع الدعم عن المشتقات النفطية وحوامل الطاقة، مثل المازوت والبنزين والفيول وحوامل الطاقة الأخرى من الغاز والكهرباء والاتصالات والمياه حديثاً، ما أدى إلى رفع أسعارها بشكل كبير، كما رفعت أسعار الخبز، المادة التي كانت محمية ولعقود طويلة من أي زيادات في الأسعار، والتي تلقى دعماً حكومياً كبيراً على صعيد الإنتاج والاستهلاك لتحقيق الأمن الغذائي. كذلك تمّ رفع الدعم عن الأسمدة التي تشكل مع المازوت الركائز الأساسية لقطاع الزراعة الذي كان يشكل ما يزيد عن 30 في المئة من الناتج المحلي. النتيجة هي ارتفاع جنوني لأسعار السلع والخدمات على الناس سببه التضخم وانخفاض سعر صرف الليرة من جهة، ورفع الدعم من جهة أخرى، من دون أن ترافق هذه الإجراءات زيادة على دخولهم الحقيقية، بل تراجعت هذه الدخول بشكل كبير حتى بلغت بشكل وسطي حدود 80 دولار شهرياً، هبوطاً من وسطي 500 دولار.

أسئلة كثيرة تطرح نفسها في مجال السياسات الحكومية للبحث عن موارد جديدة، أول هذه الأسئلة: هل استنفذت الحكومة كلّ السبل لتحقيق موارد إضافية للدولة قبل اللجوء إلى رفع الدعم عن المواد الأساسية لحياة الناس؟ مثلاً، هل تمّت مراجعة النظام الضريبي لضبط الفساد في التكليف والتحصيل لتحقيق شيء من العدالة الضريبية؟ هل حصل تطوير على النظم والإجراءات الضريبية لمحاربة التهرب الضريبي، وخصوصاً من قبل كبار المكلفين؟ هل قام الخبراء في وزارة المالية ووزارات أخرى بالبحث عن مصادر أخرى للإيرادات العامة، وهل درست وزارة الصناعة مثلاً، الاستغلال الأمثل لأملاك الدولة مؤسسات القطاع العام الصناعي . وهل تمّ تقييم الإيرادات من الرسوم الجمركية ومدى ملاءمتها لواقع الحال والأولويات الاقتصادية في سورية؟ هل تمّت مراجعة الاتفاقيات التجارية مع الدول الأخرى والرسوم الجمركية التي يمكن أن تحقق موارد عالية للدولة؟

في إطار محاربة الفساد في الجمارك، صرح المدير العام للجمارك، بأنّ حملة المداهمة التي قامت بها الضابطة الجمركية لمستودعات التجار وضبط البضائع المخالفة حتى آب 2015 حققت نتائج مهمة، ووصل عدد المخالفات إلى 2290 وبلغت قيمة الغرامات عليها إلى 2،123 مليار ليرة سورية، في حين بلغت إيرادات الجمارك حتى ذلك الوقت من العام 63 مليار ليرة سورية. أي أنّ نسبة الغرامات على ما تمّ ضبطه خلال المداهمات بلغت 3،3 في المئة من إجمالي المتحصلات الجمركية، وهذا يشير بوضوح إلى أنّ هناك نسباً غير قليلة من الفاقد في الموارد بسبب الفساد في الجمارك وغيرها من دوائر الدولة.

إنّ رفع الدعم الكامل عن المواد الأساسية خبز، مازوت، محروقات، كهرباء، غاز، مياه، أسمدة إلخ… ، في ظلّ معدلات الفقر والبطالة المرتفعة وضعف شبكات الأمان الاجتماعي وانخفاض الدخول الحقيقية للناس، ستكون له بالتأكيد تأثيرات سيئة جداً، لجهة ارتفاع مستوى العنف والجريمة والهجرة خارج البلد، مجموعة عوامل متشابكة ستؤدي بالنتيجة إلى دخول الاقتصاد الوطني في حلقة مفرغة من الركود والانكماش، بسبب ضعف القوة الشرائية لدى عموم الناس.

ثانياً: ضبط الانفاق وموازنات التقشف: تمحورت سياسة الحكومة حول الامتناع عن أي إنفاق ليس ضرورياً جداً، وتلخصت الضروريات من وجهة نظر الحكومة برواتب العاملين في الدولة ومصاريف السيارات الحكومية، بينما لم يكن بين الضروريات تجديد خطوط الإنتاج الصناعي ووضعها في الجاهزية، ولم تتم الموافقة على أي مشروع صناعي أو إنتاجي حكومي إنشاء أو استكمالاً.

صحيح أنّ الغاية الرئيسية هي تقليص الإنفاق إلى أقصى حدّ ممكن، لكنّ ذلك يجري من دون دراسة انعكاس هذه السياسة فعلياً على مجمل الحياة الاقتصادية في البلد.

في الأدبيات الاقتصادية، يقول الاقتصادي جون مينارد كينز، إنه في حالة العجز المالي للموازنة العامة، على الدولة التدخل لصالح إيجاد فرص عمل أكثر للعاطلين عن العمل، حتى لو كان عملاً وهمياً من نمط حفر فجوات في الأرض وإعادة ردمها، فإنه ومن خلال العمل الذي يؤدونه، فإنّ رواتبهم ستسهم في خلق طلب محلي على السلع والخدمات، ما يدفع العجلة الاقتصادية.

بشكل متناقض مع موضوع التشغيل وتخفيض البطالة، تمّ اتخاذ إجراءات كثيرة أدت إلى رفع معدلات البطالة وزيادة مستوى الفقر، ومنها:

أولاً: وقف الإقراض للقطاعات الإنتاجية لكلّ من السلع والخدمات، ما أدى إلى توقف المشاريع التنموية وتمّ الاحتفاظ بمستوى سيولة عالية في المصارف من دون حركة وهذا ما قاله بعض مدراء المصارف العامة، حيث قال مدير عام مصرف التسليف الشعبي والمصرف التجاري السوري إنّ لدينا مستويات عالية من السيولة الضارة، ومعروف أنّ عدم حركة الأموال يعني ركوداً وتوقفاً للكثير من المشاريع والأنشطة الاقتصادية، وهذا الإجراء كان سبباً إضافياً في رفع نسب البطالة.

ثانياً: وقف الاستثمار في المؤسسات المملوكة من الدولة، فتوقف الإنتاج في معظم الشركات الصناعية بالطبع هناك ظروف أمنية أدت إلى توقف الإنتاج ، ولكن أيضاً هناك توقف عن الاستثمار نجم عن عدم تجديد بعض الآلات والخطوط الإنتاجية، ما أدى إلى خروج تلك الشركات من الإنتاج وأصبحت معطلة وغير مستغلة.

ثالثاً: عدم إعطاء الحكومة الأولوية الأولى للقطاع الإنتاجي في الزراعة والصناعة. نعود الآن، مجدّداً، إلى السؤال الجوهري: هل نفعت فعلاً السياسات التقشفية في تحسين مالية الدولة والوضع الاقتصادي بشكل عام؟

صحيح أنه يمكن القول إنّ التقشف هو ضرورة في الأزمات، ولكن ليس بما يؤدي إلى توقف الاستغلال الأمثل للإمكانيات الوطنية المتوفرة. في أزمة اليونان الشهيرة مثلاً، ورغم أنّ الدائنين فرضوا على اليونان جملة إجراءات تقشفية كبيرة للتمكن من سداد القروض حسب رأيهم، ولكن كان صندوق النقد الدولي، وخروجاً عن مبادئه وسياساته ينصح اليونانيين، بين الحين والآخر، بأن يخففوا من سياساتهم التقشفية لأنها ستغرقهم في الركود الاقتصادي، الأمر الذي سيجلب لهم الكثير من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية.

إنّ عملية تخطيط السياسة التقشفية في الأزمات يجب أن تستند إلى عدد من الركائز والمعايير. تتلخص الركائز باتخاذ السياسات التقشفية بناء على دراسة معمقة للإمكانيات المتوفرة في البلد وأن تكون لفترة محدّدة ومعلنة، وعلى شكل حزمة إجراءات أو سياسات تتصف بالشفافية والقانونية وأن تطبق على كلّ الناس بشكل متساو. أما المعايير فيجب أن تعتمد على دراسة وتقييم للآثار الارتدادية والجانبية لأي إجراء، فإذا كان سيؤثر على الإنتاج أو يتسبّب في زيادة معدلات البطالة بشكل كبير ويسبب الفقر لشرائح واسعة من الناس عندها يجب استبعاده من لائحة الإجراءات.

أخيراً لا بدّ من الاعتراف، بأنّ السياسات الاقتصادية التي طبقت في سورية كانت محكومة بالنيات الطيبة فقط وبنوع من التخبط والعشوائية في اتخاذ القرارات التي صدرت فرادى وليس كحزم قانونية وتشريعية لمعالجة مشكلة معينة. حتى الآن لا يمكن الجزم بأنّ ما اتخذ من سياسات يمكن أن يجنب الناس الكثير من الشرور الاقتصادية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى