بوتين يتقن تسجيل الأهداف وأوباما يستنهض التحريض ولغة العداء

استمرّ قرار روسيا بالتدخل العسكري المباشر في سورية يتصدّر الاهتمامات والإسهامات الفكرية والإعلامية في مختلف المؤسسات الأميركية.

سيستعرض قسم التحليل جوانب أخرى من التدخل العسكري الروسي في موازاة الحراك الأميركي الواسع والنشط، وتناول شريان الحياة للعمليات العسكرية في الظرف الراهن، لا سيما الشق اللوجستي وما ينطوي عليه من عناصر متعددة لإسناد المهمة، خاصة طواقم الطائرات المقاتلة وأعمال الصيانة والموارد المستهلكة وقطع الغيار الضرورية. في هذا الشأن، نستطيع القول انه باستطاعة سلاح الجو الروسي الاستمرار في العمليات الجوية بوتيرة أعلى مما يسجّل له المختصّون والخبراء العسكريون، رغم تواضع عديده، والإضاءة من خلاله على نوايا روسيا الإقليمية.

روسيا في سورية

مفاجأة قرار التدخل الروسي مباشرة دفع أحد أهمّ مراكز الفكر والأبحاث، مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إلى طمأنة أقرانه بأنّ روسيا بفعلتها «ترسّخ رسمياً العديد من المواقف الأميركية والغربية الرامية إلى زعزعة استقرار منطقة الشرق الأوسط والدول النامية»، والتي أخضعتها لمناقشة مكثفة في مؤتمر عسكري عقدته في موسكو العام الماضي. وأوضح أنّ مداولات المؤتمر وضعت نصب عينيه استقراء مخاطر الثورات الملوّنة كإحدى «أدوات حرب الولايات المتحدة وأوروبا لزرع ورعاية عدم الاستقرار خدمة لمصالحهما الأمنية الصرفة، بكلفة مادية متدنية وخسائر بشرية أقلّ».

واستعرض مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في تغطية منفصلة ما اعتبره المعضلات المتداخلة التي تواجهها روسيا نتيجة قرارها بالتدخل المباشر في سورية، حاثاً واشنطن على الإقلاع عن «المكابرة باعتقادها انّ قوى المعارضة السورية أضحت في وضع أقوى يمكنها من التأثير في الاوضاع الأمنية، ووقف مراهنتها على تعزيز صفوف قوى معارضة تكنّ الكراهية والبغضاء لبعضها البعض، فضلاً عن انعدام الكفاءة لديها التعامل مع تحديات الحكم وتوفير حلول للمآزق الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها سورية في الوقت الراهن». وشدّد على انّ الحلّ يبدأ «بتقييم نزيه للأوضاع الراهنة التي مزقتها سنوات عدة من الاقتتال، وحشد جهود كافة الأطراف الدولية لإعادة إعمار سورية».

تناول معهد الدراسات الحربية ما أسماه تداعيات التحرك الروسي في سورية على العراق، متوقعاً ان يؤدّي الى زيادة «النفوذ الروسي في العراق انْ لم تماثله الولايات المتحدة». وأوضح انه من الضروري «إبلاغ الحكومة العراقية انّ الولايات المتحدة هي شريك أفضل لها في محاربة داعش من إيران وروسيا». وناشد واشنطن التلويح «باستخدام قيادة مشتركة للعمليات الجوية مع العراق مما سيعزز فعالية الغارات الجوية، ومن شأن ذلك ان يلقى ترحيباً من القوات الموالية للتحالف وخاصة العاملة في محافظة الأنبار».

نبّه معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى من إمكانية قيام «تحالف بين أكراد سورية وحلف روسيا/الأسد»، مناشداً الدول الغربية النظر الى الخيارات المتاحة «لمواجهة التدخل الروسي وتداعياته المتمثلة بثنائية عدم القيام بعمل مضادّ، او دخول المسرح وفق القواعد التي وضعها الرئيس بوتين لضمان موقع تفاوضي لإحلال السلام في سورية في المستقبل». وحذر قائلاً انه «في كلا الحالتين، ينبغي على القادة الغربيين الإقرار بأنّ حزب العمال الكردستاني لن يتوانى عن التحالف مع روسيا والأسد في حال توصل لقناعة مفادها أنّ ذلك الخيار الأوحد أمامه لضمان وحدة أراضيه في الشمال» السوري. وأردف انّ «الولايات المتحدة وشركاءها على عتبة اتخاذ قرار يقضي إما باستمرار الحظر المفروض على توسع القوى لكردية أو دعم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الانضمام لجبهة كوباني». واستطرد بالقول انّ القوى الكردية «هي الوحيدة العاملة في الميدان ستدعم الجهود الغربية لمواجهة داعش»، وعليه ينبغي التشبّث بها «لإبقائها في المعسكر الأميركي».

في تغطية منفصلة، اعتبر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى الخطوة الروسية «قد تسهم في تجسير الهوة القائمة بين تركيا والولايات المتحدة، وحفز أنقرة على تعديل المعادلة الراهنة لصالح إنشاء تحالف استراتيجي مستدام مع الولايات المتحدة». وحذر من تداعيات التدخل الروسي قائلاً انّ «إقامة روسيا قاعدة جوية على حدود تركيا الجنوبية، وفر لأردوغان فرصة لإعادة النظر بسياسة تعاونه مع بوتين، لا سيما وهو يشاطر هدف واشنطن في احتواء روسيا قبل تمكنها من ترسيخ نفوذها بمحاذاة الحدود التركية».

ناشد معهد كارنيغي الإدارة الأميركية «الاستدارة صوب إيران» والبناء على إنجازات صيغة 5+1 لما شكلته من «منبر أممي فريد باستطاعة أطرافه الرئيسة العمل معاً بغية التوصل لحلّ الأزمة السورية، فضلاً عن الميزة المكتسبة لانخراط إيران، والتي لا يمكن التوصل إلى حلّ فاعل بدونها». وحذر القوتين العظميين بالقول: «لا يجوز للولايات المتحدة وروسيا تبديد أجواء الثقة المكتسبة مع ايران».

حث معهد كاتو الإدارة الأميركية على مقاومة ضغوط الأطراف والقوى المتطلعة للانخراط العسكري في سورية، والذي انْ تمّ «لن يكون بوسع جهود تسليح المعارضة تعزيز دورها مجتمعة في إنشاء هياكل فعّالة للحكم داخل الأراضي التي تسيطر عليها». وأضاف انّ «زيادة تسليح المعارضة يعني ببساطة زيادة آفاق تدخل المجتمع الدولي ونشر قوات عسكرية لبسط الاستقرار بعد مرحلة انتهاء الازمة وإعادة إعمار سورية». واثنى المعهد على «الرئيس أوباما لجهوده في ضبط النفس ومقاومة ضغوط القوى المطالبة بالانخراط في سورية، لا سيما لتأكيده على عدم فعالية إقامة منطقة حظر للطيران او لتسليح المعارضة السورية». وشدّد المعهد على انه «لا يوجد مستقبل لحلّ عسكري للصراع، وينبغي على أوباما مواصلة المضيّ في توجهاته» الراهنة.

العراق

تناول معهد كارنيغي تعثر جهود التحالف الدولي لاستعادة مدينة الموصل، والذي «اضطر لتوجيه انظاره بعيداً عن الموصل بعد سيطرة تنظيم «داعش» على مركز مدينة الرمادي، ونشر العراق قوات اضافية في محافظة الأنبار» التي تعتبر حيوية لضمان أمن العاصمة بغداد. وأشار المعهد الى بعض «العقبات العسكرية والسياسية» التي تعيق جهود استعادة الموصل، منها «ضرورة السيطرة على مدينة بيجي ومصفاتها النفطية» التي تتوسط الطريق مع بغداد ويستغلها داعش «كعقدة اتصالات مهمة تربط قواته في الأنبار ومحافظة الرقة السورية، والتي أضحت محطة استنزاف كبيرة للجيش العراقي وحلفائه على الرغم من إسناد طيران التحالف الدولي». واعتبر المعهد انّ استعادة الموصل تشكل تحدياً كبيراً «للولايات المتحدة، نظراً إلى غياب القوى الفاعلة التي ستحتفظ بها بعد استعادتها».

الاتفاق النووي

حثت مؤسسة هاريتاج الرئيس الأميركي المقبل على «عدم القبول» بالتزامات الرئيس أوباما ببنود الاتفاق النووي، وينبغي عليه «استعراض التزامات إيران بالاتفاق فور تسلّمه مهام منصبه». وأوضح انه من المرجح ان يتوصل الرئيس المقبل الى استنتاج إقدام إيران على انتهاك نصوص الاتفاق وربما «استمرارها في ارتكاب أعمال عدائية بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها مما سيوفر الذريعة القانونية للتنصّل وإبطال مفعول الاتفاقية». واضافت انه يتعيّن على الإدارة المقبلة النظر بجدية إلى نصوص البند السابع من الاتفاق الذي ينص على «انزال عقوبات موسعة» بإيران.

لماذا انتظرت موسكو؟

تساءل عدد لا بأس به من الخبراء الاستراتيجيين في الساحة الأميركية انْ كان قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الانخراط العسكري المباشر في سورية قد أتى متأخراً بعض الشيء. التساؤل مشروع بل له ما يبرّره، وأتى بخلفية تجسيد لاستراتيجية روسيا بتكريس تعدّد القطبية ومنافسة الولايات المتحدة على المسرح الدولي وتشبّثها بقواعد القانون الدولي.

سبق التساؤل «استهانة» أميركية بمكانة وقوة روسيا، مطلع العام الماضي، جاءت على لسان الرئيس الأميركي أوباما عقب استعادة روسيا سيادتها على شبه جزيرة القرم، آذار 2014. وصف الرئيس الأميركي روسيا بأنها «قوة إقليمية، تهدّد محيطها من موقف ضعف » رافضاً توصيفها بقوة دولية، كما ورد على لسان عدد من خصومه السياسيين في الداخل. قواعد السياسة الدولية لا تشذّ كثيراً عن نزعة الفرد تسجيل نقاط على خصمه.

رؤية المؤسسة الحاكمة الأميركية التقليدية لأطراف الصراع في سورية تتلخص بسطحيتها وازدرائها للآخر، كما عبّر عنها مراراً بعض أقطاب المؤسسة الأميركية الذين يعتقدون انّ «العرب والأتراك يمارسون ازدواجية المواقف ويتشاطرون القسوة البريطانيون شركاء تابعون ومتغطرسون الفرنسيون ليسوا لاعباً يُحسب له حساب الصينيون يميّزهم الغموض والروس يلعبون بالساحة الدولية كرقعة شطرنج». أما الدول الاخرى بالنسبة لأميركا «كلها دول صغيرة وهامشية باستثناء الولايات المتحدة التي لا يمكن الاستغناء عنها»، كما ورد في تصريحات مسؤولي إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون.

لم يتوقف سيل التوصيفات الأميركية العدائية لروسيا منذئذ واعتبرها كبار قادة الكونغرس بأنها «أضحت تشكل تهديداً وجودياً» للولايات المتحدة، وليس عسكرياً واستراتيجياً فحسب. إقدام روسيا على انخراط عسكري مباشر في سورية طبع حال الأوساط الأميركية بالذهول والمفاجأة، وهي التي روّجت لاندلاع «حرب أهلية» في سورية.

توصيف الصراع بالحرب الاهلية لم يعد ينطلي حتى على بعض أركان المؤسسة الأميركية الحاكمة عينها. وفنّدت صحيفة «نيويورك تايمز» التوصيف في عددها الصادر يوم 27 أيلول الماضي بالتساؤل: «اين هي الحرب الأهلية»؟ لافتة إلى «تدفق نحو 30.000 عنصر أجنبي لسورية» في غضون بضعة أشهر «منهم أزيد من 250 أميركي بزيادة صافية عن انضمام 100 عنصر العام المنصرم». واردفت نقلاً عن مصادرها «الاستخبارية والأمنية» الموثقة انّ «ما يقرب من 30.000 مقاتل أجنبي دخلوا الأراضي السورية والعراقية منذ عام 2011 ينتمون لأكثر من 100 دولة».

تحذيرات واشنطن من ارتداد حملات التجنيد للقتال في سورية تزامنت ايضاً مع تحذيرات مشابهة أطلقها رئيس وزراء فرنسا، مانويل فالس، تحت قبة البرلمان الفرنسي أوضح فيها انّ ما لا يقال عن 1.800 مواطن فرنسي انضموا «للشبكات الجهادية العالمية»، قتل منهم 133 عنصراً ولا يزال 500 آخرون في ساحتي سورية والعراق.

موسكو بعيون أميركية

جولة فاحصة لتوجهات المسؤولين الأميركيين وتصريحاتهم وردود فعلهم على سياسة موسكو السورية تؤدّي لاستشعار تباين في لهجة خطابها السياسي ورؤية فريق خبرائها واخصائيّيها الاستراتيجيين والعسكريين على السواء.

أبرز الخبراء الاستراتيجيين في المؤسسة الأميركية، زبغنيو بريجنسكي، المسكون بهاجس العداء لروسيا حث الرئيس أوباما وادارته على «تهديد روسيا بردّ قاسٍ انْ لم تتوقف عن استهداف الاستثمارات الأميركية في سورية». وحذر بلاده بالقول انّ «مصداقية الولايات المتحدة في الشرق الاوسط أضحت على المحك، انْ استمرت روسيا باستهداف تجمعات قوى لا تنتمي لداعش، فينبغي على الولايات المتحدة الردّ».

وزير الدفاع الأميركي، ممثلاً لصناعات الأسلحة والشركات الكبرى وأقطاب الحرب، أضحى يناشد «روسيا التدخل لدى الرئيس الأسد بغية التوصل لحلّ سياسي». هذا التحوّل نضج بعد إقرار الإدارة الأميركية «تعليق برنامجها لتدريب وتسليح قوى المعارضة السورية» بكلفة مادية باهظة تعدّت 500 مليون دولار وأسفر عن بضعة أفراد لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.

في الشق المقابل، تبلورت رؤية بعض أهمّ الخبراء لتعيد التوازن للخطاب الأميركي الذي يرى «الآن» التدخل الروسي المباشر «يرمي لتعزيز مكانة روسيا عالمياً، واستعراض قوتها ونفوذها الديبلوماسي، ورسالة موسكو لحلفائها بأنها ثابتة في توفير الدعم لهم، بخلاف واشنطن».

واضاف كبار الخبراء انّ روسيا انتهت من خطوتها العسكرية في سورية تنتظر نتائج حملتها الجوية على المسلحين والارهابيين «وردود فعل الدول الغربية والاقليمية، وان يشكل تدخلها عنصراً ضاغطاً على واشنطن وحلفائها الغربيين لتعديل موقفهم من الحلّ الديبلوماسي وإقرارهم بعدم جدوى القفز عن الرئيس السوري».

وسعياً لمواساة النفس، أعرب فريق الخبراء عن شكوكه في قدرة روسيا «نشر قوات عسكرية في سورية تكفي لشن حرب برية تحت قيادتها على غرار ما فعلت في أوكرانيا وجورجيا او أفغانستان، لا سيما انّ ساحة القتال السورية بعيدة عن حدود روسيا». وأقصى ما تخشاه واشنطن في سورية ان يثمر التدخل الروسي ويؤدّي الى «تسريع السقوط وإلحاق الهزيمة بقوى المعارضة»، المدعومة أميركياً والحلفاء الإقليميين.

على الرغم من العداء الأميركي المتجذر لروسيا، فقد أقرّ بعض خبرائها في الاستراتيجية بقدرة «القوات العسكرية الروسية وحليفها السوري على سحق المقاتلين الاسلاميين» في زمن قصير «ومضاعفة نفوذ موسكو والتأثير على صياغة مرحلة ما بعد انتهاء الحرب في منطقة مضطربة وساحة اشتباك محورية في منطقة الشرق الاوسط».

اتسعت رقعة الغارات الجوية الروسية فوق الأراضي السورية وشملت تجمعات ومراكز قوى المعارضة وبالقرب من الحدود المشتركة مع تركيا، وشرقاً في محيط مدينة تدمر، فضلاً عن شنِّها سلسلة غارات في محافظة وريف دمشق.

أعنف الغارات الجوية استهدفت تجمعات المسلحين في خاصرة سورية الوسطى، حمص وحماة، والتي أثارت غضب وارتياب واشنطن وحلف الناتو بالزعم انها لم تستهدف «مصدر التهديد الاكبر ـ داعش».

عمدت روسيا الى توسيع رقعة القصف وإطلاقها صواريخ متوسطة المدى من على متن سفنها الحربية المرابطة في بحر قزوين، قطعت مسافة نحو 1.500 كلم عبر الأجواء الإيرانية والعراقية واستهدفت 11 موقعاً للمجموعات المسلحة. واقترن القصف البعيد بعملية برية واسعة للجيش السوري على مواقع وتجمعات ومقارّ المجموعات الإرهابية.

الصواريخ المنطلقة من بحر قزوين حملت «رسائل رعب» لأطراف إقليمية متعددة، ربما تفوق فعاليتها ما حملته من رؤوس متفجرة. الرسالة المحورية كانت باتجاه واشنطن وحلفائها الغربيين بشكل خاص ورمت الى الكشف عن «بعض» التقنية العسكرية الدقيقة للترسانة الروسية، من شأنها ردع نزعات الغرب لمحاصرة روسيا وإقلاعها عن شنّ حرب عليها.

يشار في هذا الصدد الى حادثة اختراق طائرة روسية، ربما بدون طيار او من طراز ميغ – 29، المنطقة الحدودية مع تركيا وما تسرّب عن قيامها بتعطيل أجهزة الملاحة الجوية لثماني مقاتلات من طراز اف-16 لمدة اربع دقائق ونصف الدقيقة تابعة لسلاح الجو التركي، وما ينطوي عليها من رسائل تقرن أقوال موسكو بأفعالها، ووضع نهاية قاسية لحلم اردوغان بإنشاء منطقة حظر للطيران في الاراضي السورية.

اوجز المعلق البارز في صحيفة «اندبندنت» البريطانية، باتريك كوبيرن، نتائج الغارات الجوية الروسية على تركيا بأنّ قواعد الاشتباك قبلها ليست كما بعدها، ورفعت كلفة «الغزو البري التركي للأراضي السورية عالياً ومغامرة غير محسوبة النتائج». واضاف انّ قوات الدفاع الجوي الروسي أضحت تسيطر على الأجواء السورية «وعازمة على الدفاع عن سيادة الحدود السورية».

أدرك الخبراء العسكريون الأميركيون مغزى رسالة موسكو متعددة الأطراف، لا سيما بتعزيزها حضورها البحري بالقرب من الشواطئ السورية بطوافة ومدمّرة وفرقاطتين لتنضمّ الى القطع البحرية الأخرى، شاركتها ايضاً حاملة طائرات للبحرية الصينية تحمي الأجواء والشواطئ السورية، لأول مرة في تاريخ جمهورية الصين الشعبية.

كما أدرك أولئك نية موسكو بعدم الاشتباك الجوي مع طائرات حلف الناتو باقتصارها استخدام مقاتلات من طراز سوخوي-30 وقاذفات سوخوي-34 ومقاتلات سو-25 للدعم الجوي ومروحيات مقاتلة من طراز ام اي-24، في استهداف التجمعات والمراكز الارضية. وحذر الفريق عينه من تداعيات القوة الروسية «وترويع دول أخرى لتفادي الاشتباك مع موسكو حول المسألة السورية، وامكانية فوز الرئيس الروسي بتأييد قادة جدد في الشرق الأوسط للنهوض وتشكيل جبهة واسعة لمكافحة الإرهاب واستغلال قلقهم من تراجع عزم وتصميم الولايات المتحدة» القيام بالمثل.

ميزات القوة الروسية

لعلّ من أهمّ عناصر القوة الميدانية المتوفرة لروسيا الحضور الفعّال لقوات حلفائها البرية المكوّنة من الجيش العربي السوري ورديفه من مقاتلي حزب الله وعناصر استشارية إيرانية من العسكريين. تراكم الإنجازات الميدانية في فترة زمنية قصيرة كشفت مواطن الضعف لدى الفريق الآخر في التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وفضح زيف ادّعاءاته بشنّ ما ينوف عن 9.000 غارة جوية ضدّ تجمعات «داعش» ومشتقاته من دون تحقيق نتائج ملموسة.

الإنجازات الميدانية السريعة لروسيا وحلفائها «أحرجت» الولايات المتحدة التي سارعت لإدخال بعض التعديلات على استراتيجيتها، لا سيما داخل الأراضي العراقية، خاصة لتحوّل أنظار الحكومة العراقية نحو موسكو طلباً لمعاونتها في مكافحة تمدد تنظيم «داعش».

نظرة سريعة على مهام سلاح الجو الروسي فوق الأجواء السورية، وخاصة استخدام مقاتلات سوخوي-25 ومروحيات ام آي-24، تدل على فعاليتها في ملاحقة التجمعات والتشكيلات العسكرية، وقدرتها على توفير الدعم والحماية للقوات البرية الحليفة. ربما تتراجع فعالية تلك الأسلحة في غارات بعيدة المدى.

في المقابل، ركيزة سلاح الجو الأميركي من مقاتلات اف-16 تتراجع فعاليته في القتال البري، بل نال سوء السمعة لتوفير دعم جوي غير دقيق مقارنة مع مقاتلات ايه-10 للدعم الجوي. تتضح المفارقة في خطل الاعتماد على مقاتلات اف-16 مقارنة بـ ايه-10 التي تنشرها الولايات المتحدة في دول أوروبا الشرقية لمواجهة الدبابات والمدرعات الروسية.

التحديات اللوجستية لروسيا

يلتزم الخبراء العسكريون الاقتداء بالقول المأثور بأنّ «الهواة يتحدّثون بالاستراتيجية والتكتيك، والمحترفون يناقشون الترتيبات اللوجستية».

الغارات الجوية الروسية المكثفة استندت بقوة على الطائرات المقاتلة وسبل دعمها وحمايتها، وفعاليتها العملياتية تعتمد ايضاً على أعمال صيانة متواصلة وتوفّر قطع الغيار بوتيرة مستمرة. استمرار الغارات يضاعف من الاعتماد اللوجستي على كلّ ما يتعلق بإبقاء الجهوزية لسلاح الجو.

بدأت روسيا حملتها بإنشاء جسر جوي مباشر بين قواعدها داخل روسيا وسورية، وما ينطوي على تلك المهام من بقاء الجسر مفتوحاً للتزوّد بما تقتضيه العمليات والمتطلبات الميدانية. مقارنة بالإمكانيات والموارد الأميركية العالية، فإنّ ما يتوفر للترسانة الروسية أدنى مما لدى نظيرتها الأميركية والتي تحتفظ بعدد من القواعد العسكرية المتنوّعة في بلدان المنطقة. كما انّ الجسر الجوي الروسي حديث النشأة والمهام في القرن الحادي والعشرين.

المحافظة على وتيرة الغارات الجوية تستدعي مسألة توفر سبل الدعم للقوات المقاتلة، لا سيما ما يتوفر لدى مفرزة قتالية من أطقم طيران وقوات إسناد أرضية تكفي لأداء مهمة القيام بشن سلسلة غارات يومية تحافظ على ديمومتها وفعاليتها. انّ ايّ خلل او إخفاق في هذه النواحي المترابطة والمتداخلة سيقوّض وتيرتها ويقلّص عدد الطلعات اليومية مع استمرار نزيف الكلفة المادية.

عند الأخذ بعين الاعتبار كافة العناصر الضرورية لتنفيذ مهام عسكرية بالغة التعقيد يتضح انّ روسيا درست ذلك وأعدّت له جيداً، بمعدّل طلعة جوية واحدة لكلّ طائرة مقاتلة يومياً، وهو أمر قابل للتنفيذ والإدامة لفترة زمنية طويلة تتضاعف فعاليته طرداً مع العمليات البرية للجيش العربي السوري وحلفائه.

خيارات حلف الناتو

لم تنتظر روسيا ردود فعل خصومها في حلف الناتو وبادرت لبسط سيطرتها على الأجواء السورية وملاحقة المقاتلات الأميركية والتركية الى خارج الأجواء، كما أسلفنا في حادثتي الثالث والرابع من الشهر الجاري. التأم شأن حلف الاطلسي بعقده لقاء عاجلاً في اليوم التالي، 5 تشرين1، وخرج الجانب الأميركي بنتيجة مفادها ضرورة تجنّب الاشتباك المباشر مع المقاتلات الروسية تقتضي تعديل مسار المقاتلات الأميركية في تلك المنطقة.

أقطاب معسكر الحرب الأميركيين، لا سيما بريجنسكي، أصابهم الذعر والإحباط من المتغيّرات الجيوسياسية، وشنوا حملة إعلامية شرسة ضدّ القيادة الروسية لتجرّؤها على «تخريب خطة الهيمنة الأميركية على المنطقة». جدير بالذكر انّ بريجينسكي يعدّ «الاب الروحي» للتيارات والمجموعات الإسلامية المتشددة، ومهندس إطلاق حركة طالبان في أفغانستان في أوج الحرب الباردة.

أجواء دول حلف الأطلسي تتسم بعدم الانسجام والتباين لناحية طبيعة الردّ على التدخل الروسي في سورية، في ظلّ تجربته مع الأزمة الاوكرانية، وضجره من عدم قدرة الدول الثماني والعشرين أعضاء الحلف على تعديل ميزان القوى لصالحها هناك.

حلفاء أميركا المخلصون في لندن وباريس يناشدون الدول الأخرى الموافقة على نشر القوة العسكرية حديثة النشأة وقوامها 5.000 جندي لمهام التدخل السريع بعيداً عن حدود دول الحلف، نظراً للحاجة الميدانية في كلّ من سورية وليبيا.

دول اوروبا الشرقية سابقاً، لا سيما بولندا ودول البلطيق التي تشترك حدودياً مع روسيا تتطلع لنشر قوات الحلف مباشرة على أراضيها بصورة دائمة كقوة ردع للسياسة الروسية. تركيا التي تذرّعت بتعرّضها لخطر الحرب فازت بنشر مزيد من بطاريات صواريخ الباتريوت على أراضيها، عام 2013، اضطرت الانحناء لعاصفة التغيير وإعادة تلك البطاريات وطواقمها العسكرية المرافقة لقواعدها السابقة في ألمانيا وهولندا قبل نهاية العام الحالي.

حقيقة المبادرة الروسية

يجمع عدد من الخبراء العسكريين الأميركيين، بشكل حصري، على عزم موسكو استغلال تباين المواقف والرؤى داخل دول حلف الأطلسي وتوظيفها لصالح سياستها في أوكرانيا التي يقف الحلف عاجزاً أمام تحوّل ميزان القوى لصالح روسيا. كما انّ بعض أقطاب حلف الناتو الرئيسيين، المانيا وفرنسا تحديداً، أدركوا أهمية التوصل لأرضية عمل مشتركة مع روسيا للتصدّي للإرهابيين ومرابضهم للحيلولة دون عودتهم لأراضيها، فضلاً عن منافع التعاون في الحدّ من تفاقم ازمة هجرة اللاجئين للأراضي الاوروبية.

اقتصرت الحملة الروسية على توفير الدعم الجوي للقوات السورية وحلفائها، أمر أدركه قادة حلف الناتو سريعاً، والتعايش مع عزم موسكو حماية الأجواء السورية وإخراجها من حسابات أسلحة الجو المختلفة تحت تصرف حلف الناتو.

استطاع الطرفان، روسيا وحلف الناتو، التوصل إلى صيغة «تعايش» مشتركة وفق قواعد الاشتباك الجديدة، على الرغم من التصريحات الإعلامية عالية الوتيرة ونبرة التحدّي في واشنطن. تصريحات أركان الإدارة الأميركية، لا سيما وزير الدفاع، عززت تلك القراءة بإقرارها فشل خططها السابقة «لتدريب وتسليح 15.000 عنصر سوري مقاتل»، نواة جيش جديد يحلّ مكان الجيش العربي السوري بعقيدة مغايرة تهادن الغرب ومخططاته.

أوضح وزير الدفاع ومسؤولين أميركيين آخرين انّ «تعليق» برنامج التدريب سيتحوّل الى تزويد «قادة تشكيلات عسكرية» في المعارضة السورية المسلحة بمعدات قتالية. الناطق باسم وزارة الخارجية، جون كيربي، اوضح متلعثماً ان «الغارات الروسية لن تحدّ من سبل التعاون بين الادارة الأميركية وروسيا». اعتبر تصريحه إشارة ملتوية إلى قرار أميركي «القبول بالرئيس الاسد، في ظلّ غياب سياسة عسكرية أميركية لمواجهة روسيا في سورية».

تردد في الآونة الاخيرة، نقلاً عن مسؤولين كبار في البيت الأبيض، توصل إدارة الرئيس أوباما إلى قرار «أليم» مفاده انّ «بقاء الرئيس الأسد في السلطة يخدم المصالح الأميركية»، وما ينطوي عليه من تأييد للتدخل الروسي العسكري هناك.

في التفاصيل، نسب الى مستشار الرئيس أوباما في مجلس الأمن القومي لشؤون الشرق الاوسط، روبرت مالي، حثه الرئيس أوباما على «بقاء الرئيس الأسد في السلطة كأفضل سبيل لبقاء باب التفاوض مع روسيا مفتوحاً على مصراعيه والحدّ من تمدّد وانتشار المجموعات الإسلامية المتشددة».

ونقل ايضاً عن معارضة كلّ من وزير الخارجية جون كيري والمندوب الدائم في الأمم المتحدة سامانثا باور للاستراتيجية «الجديدة»، لا سيما مواقفهما الثابتة المؤيدة لإقامة منطقة حظر للطيران في الشمال السوري.

للتوقف عند حصيلة الجدل السياسي داخل أروقة الإدارة الأميركية تجدر الإشارة الى تباين التصريحات الرسمية نهاية الاسبوع الماضي، خاصة إشارة الناطق باسم الخارجية، جون كيربي، يوم الخميس 8 الحالي، الى انّ بلاده «تلمس تدهوراً متزايداً» في سيطرة «النظام السوري، نتيجة لجهود الولايات المتحدة دعم قوى المعارضة المعتدلة».

في اليوم التالي، الجمعة 9 الحالي، صرح وزير الدفاع آشتون كارتر انّ الإدارة الأميركية «ليست راضية عن النتائج الأولية» لبرنامج تدريب وتسليح المعارضة السورية وستواصل «توريد الأسلحة لقادة معينين في المعارضة».

من المقرر أيضاً التآم مجلس الأمن القومي مطلع الأسبوع للبحث في خطة تطبيق وقف إطلاق النار في مناطق متعددة من سورية، بينما تمضي قدُماً الاتصالات الرسمية بين الإدارة وروسيا لضمان عدم الاشتباك المباشر بينهما في الأجواء السورية.

ويسجل ايضاً تراجع حدة التصريحات الرسمية الأميركية وتباكيها على استهداف روسيا لمواقع وتجمعات قوى المعارضة التي رعتها على امتداد الجغرافيا السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى