حرب السكاكين… وممكنات تحوّلات الهبات الشعبية

راسم عبيدات

أولاً علينا أن نتفق على بديهية تأخذ صفة الإطلاقية بأنّ شعبنا الفلسطيني لو خرج في تظاهرات يحمل فيها الورود وليس السكاكين أو الحجارة، فإنّ حكومة الاحتلال ومعها الدولة التي لا ترى الأمور إلا بعيونها أميركا عدوة أمتنا العربية وشعبنا الفلسطيني رقم واحد، ستصف ذلك بأنه شكل من أشكال الإرهاب. فأميركا وصفت ما يقوم به الفلسطينيون من دفاع عن أنفسهم في وجه الغطرسة والعنجهية «الإسرائيلية» بالطعن بالسكاكين أو إلقاء الحجارة بالإرهاب، بينما تصفية الشبان الفلسطينيين بدم بارد أو إطلاق النار عليهم من دون أيّ سبب أو لمجرد قول مستوطن عنصري بأنه جرت محاولة طعنه، فهذا شكل من أشكال «الدفاع» عن النفس، وكل ذلك سببه المباشر عجز القيادة وعطب العقل السياسي وملازمة عقدة «الارتعاش» السياسي بما لها من علاقة بأميركا والمحتل.

رئيس حكومة الاحتلال وأجهزته الأمنية والسياسية والعسكرية كافة والذين يعقدون الاجتماعات المتتالية لتقييم الأوضاع الناشئة عن تصاعد وتطور الهبات الجماهيرية الفلسطينية، يُمعنون في اتخاذ القرارات وسن القوانين والتشريعات التي في جوهرها تحمل المزيد من القمع والقتل والعقوبات الجماعية وإطلاق يد المستوطنين في حمل السلاح وممارسة كل أشكال «البلطجة» و»الزعرنة» والتعدّي على الفلسطينيين وممتلكاتهم. فحكومة قامت على الاستيطان والتوسع ونفي الاعتراف حتى بوجود الشعب الفلسطيني، ليس من السهل في ظلّ وضع احتلال «خمس نجوم» غير مكلف لها لا مادياً ولا بشرياً، أن تكلف نفسها عناء طرح أسئلة تكون الإجابة عليها بأن سياساتها وممارساتها العنصرية وعقوباتها الجماعية والمسّ بالمسجد الأقصى وجرائمها بحق الشعب الفلسطيني، هي من تدفع إلى قيام مثل هذه الهبّات الشعبية المتواصلة، والمترافقة بامتشاق السكاكين التي ربما مع تطور وتصاعد الأحداث تتحوّل إلى طريقة جديدة من طرائق المقاومة، ويتكرّس ذلك كظاهرة.

فقادة هذه الحكومة المتطرفون من الأسهل لهم القول بأن «إسرائيل» تتعرّض لمواجهة «إرهاب» غير منظم. وهذا الإرهاب مسؤول عنه عباس، الذي لم يعد شريكاً في السلام، وطبعاً هو لن يكون شريكاً لو أعلن تخلّيه عن القدس واللاجئين، وطبعاً المسؤولية تطال قادة «الإرهاب» في قطاع غزة، وحزب الله وإيران في أول المتّهمين.

هذه الهبّات المتصاعدة والمتّسعة يوماً بعد يوم، هي هبّات قامت وتقوم بإرادة شعبية وهي غير منظمة وبعيدة عن إطار السلطة الرسمي والفصائل، فالفصائل والقوى يبدو أنّ أزماتها وضعف قياداتها أصبحت أعجز من أن تؤطر وتنظم حركة الشباب وتستوعب طاقاتهم.

ما يجري من عمليات طعن مترافقة مع زخم شعبي واسع، قاعدته الأساسية من الشباب، وبروز ظاهرة عودة مشاركة الفتيات في العمل الانتفاضي بشكل أوسع مما هو متوقَّع. وقد رأينا تلك المشاركة بشكل واضح في مناطق بيت لحم، القدس، رام الله والداخل الفلسطيني بما يسمى أراضي 48 هذه المشاركة الواسعة أتت في ظل أجواء محيطة محبطة على ضوء ما تقوم به وترتكبه الجماعات الإرهابية والمتطرفة من جرائم، والتعامل مع النساء والفتيات على أساس أنهن جوارٍ و»زوجات» و»عشيقات» لـ»المجاهدين»، وكذلك ما يسود من نظرة «نمطية» مجتمعية وأعراف وتقاليد وقيود اجتماعية حول مشاركة الفتيات وخاصة الصغيرات منهن في العمل الشعبي والانتفاضي. وهنا نقول بأنّ ظاهرة الطعن بالسكاكين، لم تأت في سياق معزول عن هبّات جماهيرية تأتي كردٍ ونتاج لسياسات وإجراءات وممارسات وجرائم الاحتلال بحق شعبنا ومقدساتنا وبالتحديد المسجد الأقصى. والشيء اللافت هنا حالة الاحتكاك المباشر ما بين شعبنا في الداخل، ما يسمى أراضي 48، وأهل القدس وخاصة في الدعم والإسناد من شعبنا وأهلنا في الداخل للمقدسيين في معاركهم ضدّ الاحتلال معارك الدفاع عن الأقصى، ومعارك الدفاع عن الوجود العربي في مدينة القدس، جعلت مفاعيل الهبّات الجماهيرية تنتقل بشكل أسرع إلى مناطق 48، منها إلى الضفة الغربية، لكون القدس والداخل يتجلى الصراع والمواجهات والاشتباك فيها بشكل مباشر ويومياً مع المحتل، حيث رأينا بأن مدن الداخل الفلسطيني وقراه، هبت بقوة وسرعة لنصرة القدس والأقصى، في حين الاستجابة أتت في الضفة متأخرة عنها في الداخل.

ثمّة أسئلة تطرح وتسأل في ظل عدو متغطرس وعنجهي، كل يوم تتفتق عقليته عن قرارات وقوانين وتشريعات جديدة بحق المقدسيين. قوانين وتشريعات قد يترتب على قيامهم بأنشطة وفعاليات قد تجرّ عليهم وعلى عائلاتهم الكثير من العقوبات والويلات والخسائر، فهم بسبب الطعن أو تنفيذ عملية قد يُستشهدون أو يُنكل بهم في حالة الجرح أو يُسجنون لفترات طويلة، وقد تُهدَم بيوتهم وتتشرّد عائلاتهم، كما حصل مع الشهداء عدي وغسان أبو جمل ومحمد جعابيص وعبد الكريم الشلودي ومعتز حجازي وغيرهم.

والشبان والشابات يصلون إلى قناعة أن لا مستقبل لهم ولا فرصة أمل بالعيش بحرية وكرامة وعزة كباقي شعوب العالم، في ظل عدو يستخدم سلطة فلسطينية عاجزة لا تملك سوى خيار التفاوض العبثي منذ عشرين عاماً، من أجل أن يستكمل مشاريعه ومخططاته الاستيطانية من أجل أن يلغي أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية حتى على حدود الرابع من حزيران 1967، ويطلق العنان لمستوطنيه لكي يرتكبوا جرائمهم بحق شعبنا ومقدساتنا، من خلال التشريع والترخيص لهم بحمل السلاح ومهاجمة أبناء شعبنا، ويكثف ويسرّع وتائر استيطانه في الضفة والقدس، واستصدار المزيد من القوانين العنصرية والقرارات التعسفية كالعقاب الجماعي، والتصريح بالقتل والتصفية لأطفال وشبان الانتفاضة من خلال القنص، ناهيك عن الإبعاد عن الأقصى والقدس والاعتقالات الإدارية.

يدفعون الفلسطينيين للحائط ويسدون كل السبل أمامهم ويقولون لك: «الفلسطينيون إرهابيون، لم يستقبلوا قتلهم بالورد والرياحين». اي احتلال وقح هذا، تعوّد على كيل التهم والندب والبكاء، وهو يمارس كل أشكال وأنواع الإجرام بحق شعبنا، ويريدنا ان نكون مطيعين لذبحه لنا.

لا نريد «الاجترار» والتنظير عن نضج العامل الموضوعي بتمظهراته الاحتلالية السابقة، وعدم توفر «العامل الذاتي» الفلسطيني من أجل إدارة عملية الانتقال، ولكن جرائم الاحتلال وعسفه وعنجهيته ونهجه الاستئصالي، حتماً قد تدفع الأمور الى التحول والانفجار الشامل، ولكن هنا ستكون الأمور على نحو مواجهة شاملة قد تعيدنا إلى ما قبل الحرب العدوانية الأخيرة على غزة، أو ربما يندفع الاحتلال لتدمير غزة وقوى المقاومة من اجل السيطرة على القدس والضفة، وحتى نضوج «العامل الذاتي» الفلسطيني الذي قد تعجّل به جرائم الاحتلال بشكل كبير، وحتى ينضج ذلك نرى بأن موقف السلطة ووضعها مزريان للغاية، فهي بين نارين، من جهة تتحاشى الصدام مع ثورة الغضب الشعبي خشية أن ترتدّ ضدها وتجرفها من جهة، ومن جهة أخرى لا تستطيع مواكبتها ودعمها المباشر، خشية من عواقب وتبعات ذلك على نهجها ومشروعها السياسي وخيارها التفاوضي، وحتى على وجودها، ولذلك وجدنا أنها ما زالت ممسكة بخياراتها وحديثها عن «ضبط النفس» وعدم وصول الأمور إلى حالة التدهور واللاعودة. ولذلك نرى تهافت الاتصالات العربية والدولية على قيادة تلك السلطة من أجل ضبط إيقاع الهبة الجماهيرية الغاضبة ومنع تحوّلها إلى انتفاضة شاملة تأكل الخضر واليابس، وربما تطيح بالسلطة نفسها والتي أصبحت عاجزة عن السيطرة على الأمور، وهي لا تمتلك القرار في الميدان، وهذا سيجعل حكومة الاحتلال تدرك جيداً بأنّ احتلال «الخمس نجوم» لن يبقى مستمراً.

Quds.45 gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى