لبنان… ينتظر؟ أو ينفجر؟

العميد د. أمين محمد حطيط

جهد جهابذة السياسة في لبنان في الترويج لسياسة النأي بالنفس التي أطلقتها الحكومة وأيّدها الجميع في الداخل والخارج لفظاً، ولم يعمل بها أحد في الواقع، لا من قريب ولا بعيد، ثم كانت «الوثيقة المعجزة» المسماة «إعلان بعبدا» التي ظن أصحابها أنّهم اكتشفوا بسطورها وكلماتها دواء سحرياً لأمراض لبنان العضال المزمنة وروّجوا لابتكار ليشق طريقه الى أعلى دوائر القيد الدولية ليحصل أصحابه على براءة اختراع تثبت ملكيتهم المعنوية والأدبية لهذا الاكتشاف السحري الذي يخرج لبنان من «لعنة الديمغرافيا» و«لعنة الجغرافيا» و«لعنة …» و«لعنة …» و«لعنة الفشل الكلي في بناء دولة» و«النجاح» في صوغه بناءً ذا شقق مفروشة معدّة للإيجار لكل راغب يملك القدرة على دفع البدل، بصرف النظر عن هويته ووجهة استعماله للشقة، حتى لو كان الاستعمال مخالفاً للنظام العام والآداب العامة.

لأنّ لبنان قام في هذين الصيغة والصوغ، كان على مدعي الفكر السياسي وجهابذته وراسمي سياسته ومنفذيها، أن يعلموا قبل إطلاقهم نظريات جوفاء منفصلة عن الواقع غير قابلة للتطبيق، أن كياناً لا يشبه الدولة ذات القرار السيادي المستقل لا يستطيع أن يقرر لنفسه بل عليه طالما ارتضى ذلك من تبعية وتأجير أن ينتظر قرار الآخر في شأنه، وألاّ يتسرّع في مد اليد إلى المائدة قبل أن يفرغ أصحاب المائدة من تناول طعامهم، أما إذا كان يطلب عكس ذلك فعليه أن يبني أولاً دولة ويقيم قيها منظومة صنع القرار المستقل ومنظومة تنفيذه، وعندئذ يكون لكل شأن وطارئ قرار وخيار.

ظل لبنان منذ إعلان ما أسمي بـ«استقلال الدولة» عام 1943 متكئاً على الخارج في قراراته، ملزماً بدفع أثمان خلافات الخارج وتنازع قواه على أرضه حيناً ومستفيداً من توافق تلك القوى أو غلبة إحداها على الآخرين أحياناً أخرى، وظهرت إثر ذلك مقولة «لبنان صدى الإقليم وصورته»، ما يعني أن خلافات الخارج تترجم تأزّماً أو ناراً في لبنان، ووفاقه يعني سلماً واستقراراً، وغلبة إحدى القوى تعني إلحاقاً للبنان بفضائها الاستراتيجي وجعل لبنان جزءاً من تلك الدولة في تلازم بالمسار والمصير. واعتاد لبنان ذلك ولم يكن تسييره في حاجة الى دستور أو قانون أو قواعد نظامية، بل كان يكفي القرار الخارجي، ثم يتم الاتكاء شكلياً على الدستور للتلاعب به وإعادة تفسيره أو تعديله وصوغه حتى وتجاوزه بما يوافق القرار الخارجي المتخذ.

أما الآن فان مأزق لبنان يتعقد فيراكم على صورته المتقدمة عوامل لم تكن في الحسبان لدى تجار السياسة اللبنانية وسماسرتها، معضلة متصلة بواقع الخارج المأزوم الذي كان يقرّر للبنان، فهذا الخارج هو اليوم في حال نزاع دموي انفجر قبل أربعين شهراً ولا يزال أفق وقفه أو التوافق على حل له بعيد المدى، حتى أن شيئاً من إرهاصاته لا يلوح في الأفق، كما أن غلبة أحد من الفرقاء المتنازعين هي أيضاً بعيدة المنال نسبياً، فلا المهاجم المعتدي في وضع يجعله ينتصر أو يتقبل خسارته الاستراتيجية الحالّة به راهناً وينكفئ، ولا المدافع عن نفسه حقّق في المواجهة نصراً كاسحاً يلزم المعتدي بالتوقّف عن عدوانه، فالحرب القائمة اليوم في الإقليم والتي تتخذ من سورية والعراق على نحو مباشر ميداناً لمعاركها، ورغم غلبة الدفاع وتقدمه بشكل تراكمي وتصاعدي نحو الانتصار الأكيد عسكرياً بعدما حقق انتصاره الاستراتيجي، فإن الحرب لا تزال تدور في مناطق عديدة بين كر وفر، ما يحول دون الغلبة ويمنع الوفاق راهناً، وهنا معضلة لبنان منتظراً أيّاً من الحالتين كي يتدبر شؤونه. ما يطرح السؤال بإلحاح هل أن لبنان المنتظر يملك المناعة التي تحفظه كياناً في حال الانتظار؟ أم أن الانتظار أمر متعذّر بسبب العوامل المعقدة المتصلة بالواقع الداخلي والموقع على الخريطة الإقليمية والدولية؟

الذين طرحوا سياسة النأي بالنفس، والذين اقتدحوا سياسة الحياد جوهر إعلان بعبدا يرون أن الانتظار ممكن اذا تم الالتزام بما جاؤوا به من نظريات سياسية فذة، لكنّ هؤلاء ينسون ويتانسون أن ظروف التطبيق غير متوافرة، فكيف تقول لمن تنتهك مقدساته مثلاً اصبر ولا تتدخل لتمنع من اعتدى عليك في معتقدك؟ وكيف تقول لمن يتضرر من حرائق الجوار اصبر ولا تتدخل في إطفاء الحريق حتى لو امتد الحريق بآثاره ومآسيه إليك؟ وكيف تقول لمن تهدده «إسرائيل» في وجوده وكيانه وثروته ليل نهار اصبر ولا تقاومها ولا تنشئ الأحلاف التي تساعدك في تلك المقاومة؟

القول بهذه الأمور هراء، وهو في رأينا ليس أكثر من سلوك نفاق سياسي امتهنه اللبنانيون لفظاً ليغطّوا به ممارستهم في التبعية والاستزلام واقعاً. وبالتالي فإن هذه الحقائق تقودنا الى القول إنّ الحياد أو التلطي خلف ادعاء النأي بالنفس أمر عقيم، كما أن التأييد الدولي لهذين النظريتين هو قمة النفاق السياسي الدولي الذي يتجرّعه لبنان مصدراً إليه من عواصم التدخل الأجنبي في لبنان، يطلب مزيداً من الإيضاح يكفي أن نحيله مثلاً على سلوك أميركا أو فرنسا أو السعودية وغيرها من البلدان الداعمة لسياسة «النأي بالنفس» و«الحياد اللبناني» واحترام سيادة لبنان وقراره المستقل، وهم أكثر من يتدخل في الشأن اللبناني جهاراً نهاراً خلافاً لما يدعون.

بات لبنان اليوم على مفترق طرق أكيد لن يكون الانتظار علاجاً ناجعاً له، فالانتظار المرشح لأن يطول سيكون هذه المرة وبتأثير من حرائق الإقليم وأعاصيره والغيوم الدولية وأمطارها مرشحاً لانفجار في أكثر من عنوان، وباتت الخشية قائمة خاصة في عناوين ملحة:

العنوان الاجتماعي الذي يعتبر الكباش حول سلسلة الرتب والرواتب مدخلاً له، ويظن من تسبّب بإفقار لبنان بسياسته ونهب المال العام، منذ أتت الحريرية السياسة الى لبنان وأحكمت قبضتها على اقتصاده على نحو استئثاري، يظن أن في إمكانه الاستمرار في حرمان اللبناني من لقمة عيشه من دون أن ينفجر في وجهه، وهو ظن خاطئ بلا شك .

العنوان السياسي الذي تعتبر الانتخابات الرئاسية مدخلاً إليه مع ما يتبعها من نزعات التعطيل والمصادرة لدور مجلس النواب الذي افترى على الحق الدستوري للمواطن وخرق الدستور بالتمديد لنفسه أو لدور مجلس الوزراء الذي بدأت تتشكل حوله أعراف وممارسات «حريرية» قادت وتراكم بناء موقع رئيس الوزراء الحاكم الفرد .

العنوان المالي- الاقتصادي الذي يعتبر نهب المال العام وهدره وتعطيل القطاعات الإنتاجية في الدولة من أهم عوامله المؤثرة والتي تدفع به الى الانفجار لبنان من غير موازنة أو قطع حساب منذ إخراج سورية جيشها عام 2005 .

العنوان الأمني الذي يعتبر الوحيد الباقي تحت السيطرة حتى الآن، لكن هذه السيطرة لا يمكن القطع باستمرارها بسبب الترابط العضوي بين الأمن والعناوين الثلاثة المتقدمة، والتي اذا انفجر أحدها لا بد من أن تشكل شظاياه صواعق تفجر الوضع الأمني، فضلاً عن الضغط الإقليمي وحرائق الجوار المستمر في تأجيجها.

إن من يظن أن في الإمكان الانتظار حتى يتوافر للخارج وقت لاتخاذ قرار في شأن لبنان هو غافل أو منفصل عن الواقع، فالانتظار هذه المرة وفي مثل الظروف الدولية الراهنة مرحلة تسبق الانفجار ولن تكون تمهيداً للانفراج، أما الحل للخروج من أخطار الانفجار فلا يكون في رأينا إلاّ عبر إعادة النظر في النظام السياسي اللبناني، إعادة نظر تحترم الواقع وتحترم الحقوق، فلنسارع في عملية البحث هذه عبر مؤتمر تأسيسي نعقده في ظل جو متوتر قائم راهناً، ينطوي على رغبة الحوار لدى الأطراف، قبل أن نكره على عقده في ظل نار ولهب مثقلين بدماء وخسائر وكان محقاً جداً السيد حسن نصرالله عندما طرح هذا الأمر قبل سنتين.

يجب المبادرة الى مؤتمر سياسي يحدد نظام لبنان السياسي ويراعي وجود الطوائف، دونما إلغاء، ويؤكد على حقوق المواطن دونما مصادرة أو تمييز، ولن يكون ذلك إلاّ عبر الاتفاق على شكل الدولة اللبنانية، ونظام انتخاب يكوّن السلطة بناءً على الشكل المتفق عليه وكفانا هرباً من الحقيقة، وكفى تباكياً على صلاحيات هذا الموقع أو ذاك، وكفى تمسكاً بالجثث المهترئة، فالحقيقة هي أن لبنان بنظامه السياسي الحالي غير قابل للحياة وللاستمرار، ولن يستمر اللبناني بالقبول بسلطة فئة أو سلطة طبقة، ولن يستمر وأقصى طموحه حجز مكان في قطارات الانتظار على أبواب السفارات الأجنبية طلباً للهجرة أو استماتة في الحصول على جنسية. نذكّر من سرق المال العام بأن نيران الانفجار المقبل لن تبقي له مواقع ولا أموال يتنعّم بها.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى