أعداء الأسد الذين أعانهم بلير على تفجير دمشق يهدّدون العراق الآن
روبرت فيسك
كيف ينجون بمثل تلك الأكاذيب؟ يخبرنا بلير الآن أنّ «التراخي» الغربي في سورية أنتج أزمة العراق. لكن بما أن الحرب السورية جذبت الإسلاميين بقوة إلى دمشق، والذين يهدّدون بغداد اليوم، فلا شكّ أن الرحمة الآلهية هي التي منعت أوباما من الأخذ بنصائح بلير.
بعد أن قضيتُ عدّة أيام في التنقل بين ثلاث مدن سورية، أجد أنه من الهام جدّاً أن أستعرض أعمال أصحاب بلير من «المتمرّدين».
هلمّ بنا نأخذ طريق المطار التي تبعد خمسة أميال من حلب، والتي تسيطر عليها منذ فترة القوات الحكومية، غير أن الإسلاميين يتحكّمون أيضاً بالكثير من المقاطعات حول المدينة، والتي علينا اجتياز 16 ميلاً لبلوغها وسط الظلام والطرقات الترابية القذرة ومياه الصرف الصحي غير المُعالجة وخطوط سكك الحديد المهجورة، ومن رجال مدعومين من بلير يقطعون علينا الطريق، فضلاً عن نقاط تفتيش سورية على طول هذه المتاهات. أحياناً يكون الإسلاميون على بعد مئتي متر منّا.
وهكذا، وفي لقطة من حلب خلال هذه الأيام، والتي كانت لتكون الموصل لولا أن أصدقاء بلير لم «يتراخوا» في الانقضاض على نظام الأسد. يطالعنا في الشوارع عدد من رجال الحكومة كما المدنيين ممن يحفرون الخنادق بعمق عشرين قدماً للبحث عن أنفاق صنعها عناصر «النصرة» و«داعش» لمهاجمة أعدائهم. بعدما فُجّرت معظم المباني الحكومية في مدينة حلب.
ما يجري هو انعكاسٌ في مرآة هذا العالم. فبينما تمطر مروحيات الأسد المسلّحين بالبراميل المتفجرة في شمال حلب، تقصف المعارضة المسلّحة بقذائف الهاون المدن المسيحية المتواجدة في تلك المنطقة.
ونحن نهيم على وجوهنا على طول خط المواجهة أطفالٌ يلعبون، رجل مسنّ «يمجّ» سيجارة على كومةٍ من الركام، بينما تتحطم القذائف على بعد أقلّ من ميل. وأرى جندياً سورياً يزيل كتلة من جدارٍ قديم ـ على حافة المدينة القديمة ـ بينما أحوّل نظري لثانية واحدة خلال الثقب في الجدار. وعلى بعد بضع خطوات منّا، وخلف أكياس الرمال المتعفّنة والحزم المكسورة، نجد ثقبّا آخر يجلس خلفه أحد القنّاصة ليراقبنا. إنها لحظة تاريخية شخصية: فمنذ ما يقارب 96 سنة، التقط والدي بآلة التصوير خاصته ـ خلال الحرب العالمية الأولى ـ صورةً لأكياس متعفنة من الرمل والأشجار المقطوعة فوق خط الجبهة الأمامية في فرنسا، وذلك عام 1918.
يصف الضابط «سومر» في الجيش السوري متاهة النفق الذي حفرته المعارضة تحت المدينة القديمة، واليوم الذي سُوّيَت فيه مئذنة المسجد الأموي التي بناها العباسيون ـ بالأرض ـ بعدما فجّرها متمرّدو الأنفاق، ويقول: «عندما سقطت المئذنة، شعرتُ أن 1500 سنة من الحضارة قد ماتت. كنتُ موجوداً على الخط الأمامي وسمعتُ دويّ سقوطها الذي ملأ حلب بأكملها، فأحدثت اهتزازاً عظيماً كالهزة الأرضية. حفروا أنفاقاً على طول مدينة حلب القديمة. أرادوا أن يثأروا، أن يدمّروا كلّ البنى التحتية. لمَ قد يفعل المسلمون شيئاً مماثلاً؟ بالطبع لأنهم غير مسلمين!!!».
ما يحصل غريب، وبشع ـ بالنسبة إلى الأعداء الذين يقبعون على بعد أمتار قليلة ـ وعدد من الإنفجارات المحيطة بنا: ستة عشر قتلوا في الساعات القليلة التب تلت تواجدنا هناك. لا شكّ أن رؤوسنا كانت لتتطاير تلك الليلة ونحن نتناول وجبة خفيفة في أحد المطاعم القريبة، بينما يركض أحدهم مختبئاً وتبدو علامات الذعر على محيّاه، وهو يطلب الإغاثة. شحّت موارد الطعام بعد الحصار على حلب، كما بقينا من دون مياه لمدة ستة أيام منذ أن أقفل الأتراك أنابيب المياه المتاخمة للحدود الشمالية. ولم يتبقّ سوى عبوات المياه البلاستيكية المقدّمة من الحكومة التي أعانت الأطفال والنساء وأنقذتهم من القضاء عطشاً.
ما من حاجة للسؤال لمَ لا يستطيع الجيش استعادة المدينة القديمة: «ما من جنود كفاية»، وقد عبّر أحد المراسلين السوريين عن هذه المسألة بجرأة حين قال: «لهذه الأسباب وافقت الحكومة على إنهاء حصار حمص بسلام وسمحت للمتمردين بالمغادرة إلى الشمال كان من المفترض أن يُعيدوا فرض سيطرتهم على حمص، ما يسمح لهؤلاء الجنود تقديم العون لزملائهم هنا في حلب».
أذهب إلى حمص التي تبعد مئتي ميلاً من حلب، فيطالعنا شاطئٌ من الركام الأبيض وأميال من الأنفاق المهجورة وبضع أنفار من المسيحيين الذين ساروا بي خجلين داخل حطام كنيستهم، ومنها إلى حديقة صغيرة فيها كرسيّ بلاستكيّة زهريّة اللون… «هنا تمّ إعدام الأب فرانس»، يقول أحدهم. «أجبروه على الجلوس على هذه الكرسيّ وأطلقوا النار عليه مباشرة فوق عينه اليسرى».
الأب فرانس فان دير لوغت، هو شهيد حمص، رفض التخلّي عن رعيته المسيحية وأصدقائه من المسلمين خلال سنة من الحصار، واستمرّ مناشداً العالم إظهار شفقة على الأبرياء والجوعى حتى يوم السابع من نيسان الفائت، حين وصل إلى الكنيسة مجموعة من الرجال المسلّحين وأردوه قتيلاً. كانوا من مقاتلي جبهة النصرة، التي تطلق عليها قوات النظام تسمية «إرهابيون»، وقد حمّلت هذه المجموعة مسؤولية جريمتها للنظام، باعتبار أنه لولا فرض النظام حصاره على المدينة لما كان الأب فرانس ذو الإثنين والسبعين سنة قد أُعدم. دُفن الأب على بعد أمتار قليلة، يحيط بقبره صليب خشبي متواضع وسط مجموعة من الأزهار، وصورة له يحدّق فيها بعينيه اللّتين تظهران من خلف زجاج نظارته الطبية. حتى أن البابا صلّى لاحقاً لراحة روح الأب فان دير لوغت.
وأفترض، أنه لو كانت دمشق قد قُصفت من قبل الغرب كما فعل بلير في العراق عام 2003، لكان الأب فرانس لا يزال حياً يُرزق، ولربما كان قد مات ـ قبل ذلك أيضاً ـ على أيدي هؤلاء الإسلاميين أنفسهم الذين لا يزال الغرب يموّلهم. وها نحن الآن هنا، حيث تستمرّ قوات الأسد في السيطرة على الحدود مع العراق الذي تفككت قواته سابقاً. أعداء الأسد هم أنفسهم مقاتلو النصرة والقاعدة ـ يهدّدون الآن وجود العراق ـ والذين كان قصف بلير لدمشق ليساعدهم كثيراً. فهل سترسل إيران جنودها للدفاع عن الشيعة في العراق؟
لا شكّ أنه سؤالٌ جيدٌ للتأمل والتفكير، بينما نجلس في طائرة عسكرية من طراز «أنتونوف ـ 26»، قادمة من حلب إلى دمشق وتحمل على متنها ستين مجنّداً سورياً، معظمهم من الجرحى، فضلاً عن جثتي جنديَيْن بعمر الخامسة والعشرين وُضعتا في مقصورة الشحن، أرداهما قناصون في الليلة السابقة. ويبدو وسط الظلام الذي تحتنا وميضٌ من العيارات الناريّة الرّشاشة، وبينما كنا نحطّ في دمشق، سمعنا خمسة من السوريين يُطلقون صلوات وأدعية مناصرة للشيعة الفارسية. قيل لنا أنهم أفغان، من الشيعة الهزّارة الإثنا عشرية. يرتدون اللباس السوري، يحملون البنادق، ويقف أحد الإيرانيين إلى جانبهم. كانوا يستعدّون للعودة إلى طهران في اليوم التالي…
اذاً ها هم الأفغان الشيعة يقاتلون الآن إلى جانب قوات الأسد، بينما يدعم الأفغان السنة المتمرّدون.
أوه يا بلير، كان من المفترض أن تكون بيننا في هذه اللحظة.
نشر في صحيفة «إندبندنت»
ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق