خالد الأسعد… شهادة
باولو ماتييه
حبّ كبير، وإخلاص فائق، وتطابق شديد مع تدمر: هذا كان خالد الأسعد وهذا كان الانطباع الذي كان يتأكد في كل مرة كنا نلتقي فيها ـ لدى زيارة آثار أكثر المدن القديمة سحراً وتأثيراً والواقعة في قلب الصحراء السورية ـ إنه الرجل الذي كرّس بكل بساطة حياته كاملة لهذه الآثار فائقة الجمال.
لقد جسّد خالد الأسعد في إطار المديرية العامة للآثار والمتاحف في الجمهورية العربية السورية، ومنذ أكثر من خمسين سنة، مؤسَّسة ورمزاً في آن: التعلّق الحار بالآثار الذي كان قد عُهد له بالعناية بها مع كامل السلطات المطلوبة والتجارب التي أغنتها عشرات السنين من العمل المكد والقاسي في الميدان إلى جانب زملائه القادمين من كافة أركان العالم من الولايات المتحدة إلى سويسرا وألمانيا، ومن بولونيا إلى فرنسا إلى بلجيكا وإيطاليا والمعارف التاريخية التي تمتد من علم آثار الموقع المدني الذي لا يزال يحتاج للدراسة تحت ألف وجه ووجه إلى النقوش والكتابات في تدمر والفخر، المضبوط والمحبَّب، المميز لعالِم كان يعدّ نفسه الابن والسليل الطبيعي لتراث مبهر لحضارة تمتد عبر آلاف السنين والاستقبال والضيافة اللذين كانا يصدران دائماً من القلب، استقبال كان أخوياً مليئاً بالعزة والكرامة إنما الذي يحترم الآخر في الوقت نفسه، استقبال وحده ابن البادية يعرف كيف يقدّمه، بطريقة شبه مقدسة، للضيف الغريب حتى وإن كان لا يعرفه.
إن التضحية برجل مثقف وعالم مثل خالد، الإنسان البريء والذي لم يقترف أي خطأ من جهته، الحكيم والصائب والأمين، وباختصار العادل ببساطة، التي ارتكبت بأكثر الطرق بشاعة، وحقارة ولاإنسانية، تجرح عميقاً ليس فقط مجتمع العلماء في العالم كله الذي يبكي فقدان زميل وصديق، بل أيضاً مجتمع العالم المتحضر، دون تمييز للبلدان والثقافة والدين. إن الأخطاء المزعوم نسبها إلى هذا الرجل الصادق لتبرير «إعدامه» البربري فلا يمكن مسامحته، تشتمل على كونه خدم بلده بشغف وحب، حامياً طيلة السنوات الماضية التراث الذي لا يُقدَّر لوطنه ومتكتماً مؤخراً على الأماكن حيث خُبّئت كنوز مدينة هي تراث عالمي للإنسانية.
في ساعات الجزع والقلق التي تلت هذا الفقد الذي لا يمكن تقدير مدى جسامته، تساءلنا لماذا لم يسعى رجل شريف مثله إلى حماية نفسه وحياته أولاً وذلك بأن يلجأ هو نفسه إلى مكان آمن حيث أخفيت الكنوز عن جشع الإرهابيين. وكان الجواب، ربما، أن هذا الرجل الصادق قد وثق، وأخطأ للأسف، بسلطته الأخلاقية التي لا شك فيها والتي كانت ستنقذه من أي خطر محتمل. في الوقت الحالي، ووفق التقديرات الأكثر قتامة، فقد بات من الثابت للجميع أن سلطة أخلاقية رفيعة أو إنسانية لا قيمة لها على الإطلاق في نظر رجال قادرين على تدمير غنى كتدمر.
بعد تدمير عشرات الأماكن المقدسة للإسلام الشيعي والسني وللمسيحية في العراق وسورية، والتدمير الذي لم يسبق له مثيل للآثار في الحضر ونمرود، أطلقت السيدة إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لليونسكو، نداء قوياً للـ «المفكرين والصحفيين والأساتذة والعلماء للدفاع عن التراث الذي ينتمي إلى الإنسانية جمعاء». مع ذلك، فإن الرأي العام العالمي الذي عادة ما يكون تفاعله أو استجابته أو سخطه عرضياً جداً ومحدوداً ـ هذا إضافة إلى أنه غالباً ما يكون مغرراً به عبر معلومات تفصيلية وجزئية وغير موضوعية تنشرها بشكل كبير المصالح الاقتصادية والسياسية ذات الصلة والتي غالباً ما تكون معارِضة ـ لا يمكن أن ينسى أبداً أن المديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق قد فقدت خلال الشهور الأخيرة، وعلى كامل الأرض السورية، خمسة عشر موظفاً وحارساً ضحوا بحياتهم في محاولة حماية وإنقاذ التراث التاريخي والأثري لبلدهم.
في أوج هذه الوباء المستشري للأزمة الخطيرة التي تبدو دون حل، لا يمكننا إلا الانحناء أمام تضحية الموظفين الأبطال الذين يدافعون على الأرض في سورية وبشكل ميؤوس منه. وهم لا يقدمون تضحياتهم باسم حزب سياسي، بل فقط من أجل حماية كنز لا يقدر بثمن من قدر مرعب من التدمير والإفناء، كنز يمثل بالتأكيد أساس وعمق الهوية الثقافية للشعب السوري، وهو بشكل خاص تراث فريد للحضارة الإنسانية.
إن التزام كل رجل وامرأة من المجتمع المدني، بالإشادة بنكران الذات الفائق لخالد ولجميع الذين ضحوا بأنفسهم من أجل حماية وإنقاذ التراث الثقافي الإنساني، يجب أن يشتمل على الأقل على حفظ وتكريم ذكرى جميع الذين قرروا ببطولة في سورية، على الرغم من آلاف المخاطر، البقاء في أرضهم وأمكنتهم ومواقعهم من أجل الدفاع عن الشواهد التي لا تقدر بثمن لتراث ثقافي ينتمي إلى العالم أجمع.
عالم آثار إيطاليّ
ترجمة: موسى ديب الخوري