همزة وصل

نظام مارديني

ما يجري في فلسطيننا من انتفاضة وهبّة شعبية تشير إلى أن ثمة تناقضاً ما بين هذا «الخيار الشعبي» بتوجهاته وأدواته وشهدائه وبين خيار «أوسلو». لا يمكن لخيار الانتفاضة أن تكون قاعدته «أوسلو» أو تكون أدوات هذا الخيار أو إمكاناته بثّ الحياة في جُثة «أوسلو»، الذي أصبح محروقاً جماهيرياً، ولا يستطيع الناس أن يضحوا ويُقدّموا ثمناً باهظاً من الدماء في سياق يختزل هذا العطاء إلى حدود الصفر بل ربما يحوّله سلباً.

ليس ثمة أصدق من الدم إذا تحدّث، ففوق الثرى الفلسطيني الطاهر تمتزج أرواح الشهداء، التي تختصر البطولة معلنة النفير وهي تعانق الأرض.

شهداؤنا يتسابقون نحو الشهادة وصدى صرخاتهم يعطّر المكان والزمان وهم يذودون عن الأرض، وينتشون بدعاء الأمهات لهم يقطع المسافات بين القرى المحتلة التي فتّتها العدو بهدف تقطيع أواصر التواصل بين المنتفضين.

اليوم نفتح دفتر الشهيد ـ الخالد عند شعبه، ونتمعّن في تفاصيل بطولته المؤيدة بصحة الإيمان بهذه الأرض وصدى صوته يملأ الوديان: «العدو أمامنا وثأرنا مخبوء منذ العام 1948 ودم شهدائنا أمانة في أعناقنا».

إن انتفاضة اليوم تعبر عن ثلاثة مفاهيم: الشهادة ــ الحرية ــ الوطن، والشهيد هنا لا يرتبط بالحزن بقدر ما يرتبط بالفرح، فهناك من يُستشهَد من أجل أرضه وحياة شعبه، ومنهم من يُستشهَد في سبيل الله بهدف الوصول إلى جائزته السماوية وهي الجنة. وفي كلا الطقسين الرمزيين تتحدد المعايير والقناعات الروحية والإيمانية، القومية والدينية، التي لا يصح عندها التعبير عن الحزن والتفجّع على الشهيد. وفي هذا المعنى يقول الروائي إبراهيم نصر الله في روايته «أعراس آمنة»: «الذي يجبرنا على أن نزغرد في جنازات شهدائنا هو ذلك الذي قتلهم. نزغرد حتى لا نجعله يُحسّ لحظة أنه هزمنا… نحن لسنا أبطالاً، لكننا مضطرون أن نكون كذلك». وهنا تكمن المواجهة بين ما تُمليه المفاهيم القومية والدينية وما يقتضيه واقع الاحتلال من الصمود في وجه المحتل.

إن الدم الفلسطيني أعمق تعبيراً عن عناصر الشهادة من عناصر الموت الطبيعي. والشهداء لم يُخلقوا كمشروع شهادة، بل كمشروع حياة. هم انتصروا للحياة من خلال التضحية بأنفسهم لأجلها.

في سياق هذه الهبّة الفلسطينية تكمن رمزية الوطن في الأرض والشعب ورمزية المقدسات المرتبطة بالمكانة التاريخية والحضارية والدينية ككنيسة بيت لحم والمسجد الأقصى.

ليس من الخطأ أن نعرف أن بعض الشعوب تبحث في سجلاتها عن شهيد كي تجعل منه أسطورة تحتفي بذكراه كل عام، ونحن في كل يوم عندنا أعراس بطولة وشهداء أساطير.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى