أميركا… وصراع البقاء في الشرق
فاديا مطر
بعدما أعلنت الولايات المتحدة انسحابها عسكرياً من أفغانستان أواخر العام 2016، أبقت نيتها مفتوحة بترك عشرة آلاف جندي في أفغانستان حتى ذلك الموعد مع تخفيض عديدها العسكري في العام 2015 إلى النصف، كما كان قد صرح الرئيس الأميركي «باراك اوباما» في زيارته إلى قاعدة «باغرام» في 25 أيار 2014، فهو موعد استحقاق يرسم الخروج الأميركي من البر الآسيوي، لكن الخطوة الروسية التي نقلت عمل موسكو من المستوى السياسي والدبلوماسي بدعم الدولة السورية إلى المستوى العسكري والأمني الموسع شكلّ ما هو بمثابة إدارة جديدة لملفات المنطقة الممتدّة من البحر المتوسط إلى الشرق الآسيوي، وهو تراجع أميركي يحمل دلالات التغيير والانعكاسات في مسارات الصراع الدائر في سورية والعراق وترك الفراغ لدور جيوستراتيجي عسكري على حدود الخريطة الجغرافية الروسية المباشرة، يسمح لها بالتصرف والمقايضة وفرض وقائع ومعادلات جديدة تفرضها العلاقات العسكرية والسياسية بين روسيا وسورية بشكل «سوفياتي» يكرس لاعبين جدداً في المنطقة يؤمنون تأثيراً جيوستراتيجياً ذا أهمية كبرى إقليمياً ودولياً. فالاتحاد السوفياتي السابق كانت له بصمة كبيرة في التدخل العسكري لمنع تسلل الإرهابيين إلى الأراضي الروسية في العام 1979 والمدعوم وقتها أميركياً وسعودياً لتكريس النفوذ الأميركي التقليدي في باكستان وأفغانستان، لكن مستجدات اليوم السورية أفرزت رعباً أميركياً من إمكانية الخروج من حلف مكافحة الإرهاب «الداعشي» الذي أبدت فيها روسيا الاتحادية تميزاً أحرجت الولايات المتحدة في تحالفها الستيني وأبرزت عدم جديتها في مكافحة التنظيمات الإرهابية على الأرض السورية والعراقية وكشفت نيتها إطالة أمد الصراع في المنطقة العربية، فالغرفة الاستخبارية المشتركة بين روسيا وسورية وإيران والعراق غيّرت قاعدة البيانات العملياتية التكتيكية الأميركية في المنطقة ورسمت معادلات اشتباك جديدة عسكرية وسياسية تحمي بها روسيا الاتحادية ثوبها من خطر الإرهاب، كما كان قد صرّح رئيس الوزراء الروسي «ديمتري ميدفيديف» في 17 تشرين الأول الحالي بأن الضربات الروسية في سورية هدفها محاربة تنظيم «داعش» وليس دعم أشخاص، وهو ما شكل رداً روسياً على المعادلة الأميركية الجديدة بعد إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما في 15 تشرين الأول الجاري إبقاء خمسة آلاف جندي أميركي في أفغانستان لما بعد العام 2016 بحجة أن القوات الأفغانية لم تصل بعد إلى القوة المطلوبة لمواجهة الإرهاب وحدها.
فقرار إبقاء كامل القوات الأميركية معظم العام 2016 وإبقاء قوات بعد ذلك الموعد هو رد على ما تتداعى له الأوضاع السياسية والعسكرية في شرق المتوسط وتوضح معادلات تراجع الحلف الأميركي في الإقليم الذي ينذر بتراجع دوره في عموم آسيا وتصاعد تحالفات إقليمية جديدة تمسك بيدها خيوط المنطقة برمّتها وتبقي يد «الناتو» مطلقة في أفغانستان، كما أعلن الأمين العام لحلف الأطلسي في 16 تشرين الأول الحالي بأن «بقاء حلفاء الناتو وغيره من الشركاء لفترة طويلة في أفغانستان».. فهي إذاً معادلة وجود أميركي مقابل معادلة وجود متصاعد لروسيا شرق المتوسط ستفرغ اليد الأميركية المتحالفة مع الإرهاب من صناعة قرارات وتشكل مقايضة تنقذ تراجع نفوذها وتخرجها من منطقة تعيش إعادة تموضع لقوة جديدة تقف بمحاذاتها واشنطن في صراع للبقاء بحجة أفغانية لتجنّب آثار كارثية عكسية ربما تمتد يدها إلى العنق الأميركي قريباً.. فهل تستطيع واشنطن إدارة ما تبقى من مقومات…؟