هوية القامشلي… الثقافة التي تكسر جدار الانعزال

نظام مارديني

على ضوء الصراعات الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية الناتجة من الأزمة السورية، أصبح المثقفون السوريون عموماً ومثقفو القامشلي خصوصاً أمام حاجة تكريس مبدأ الحوار، بوصفه ضرورة حضارية تسهم في تحقيق وحدة الحياة وتعمل على تعزيز مفاهيم قبول الآخر واحترام رأيه من خلال الإقرار بالتنوع في المجتمع كسبيل مهم لتحقيق السلم المجتمعي والاعتراف بالآخر وقبوله لضمان مستقبل تضامني آمن يشترك ويحيا فيه الجميع بسلام وحرية.

ولكن ماذا بقي من صورة المثقف «القامشلاوي» بعد التحولات الجذرية التي بدأت تعيشها سورية؟

تنهال الأسئلة غير رحيمة. ونحن في هذه اللحظة، مجتمع تسوقه الذاكرة التاريخية كعصبيات تنتج عصبويات عضوية تنفي الآخر، لتؤسس للاستعباد واستبعاد الآخر شريك الأرض والمصلحة والمستقبل ولذلك ليس من الصعوبة أن ترى في القامشلي هذه الانقسامات الحادة بين من يرى القامشلي مدينة كردية أو مدينة سريانية أو مدينة عربية، ولكن المحزن هو أننا لا نعرف إلى أين ستمضي حكاية المدينة، أو أننا سنكون أفراد آخر الأجيال التي شهدت التنوّع الاجتماعي فيها، والسؤال هو هل حلّت القطيعة بين الجماعات وأصبحت المدينة أقساماً؟

وهل يعبّر الخوف من العجز السياسي في جوهره الراهن عن عجز ثقافي مريع، وعن تعويم لما يتركه انقسام الجماعات من كوارث ومن آثار على العقل الثقافي، إذ بدا أن هذه الانقسامات وكأنها تؤسس في الفراغ، وأنها عاطلة عن إجراء أي فعل حقيقي؟

الشاعر، الروائي، القاص، التشكيلي، المسرحي، الباحث. تشكل هذه التصنيفات جزءاً من عملية تشكيل هوية القامشلي الثقافية. فهوية القامشلي الثقافية ليست شخصية معنوية جامدة ومتوقفة، بل لطالما كانت الحركة سمتها الأبرز.

في مقابل ذلك، هناك عناصر ثقافية أخرى ذات طبيعة مختلفة. من أهمها تلك المرتبطة بالهويات الثانوية، المذاهب الدينية والشرائح الاجتماعية والإثنية والمجموعات الفئوية. حيث تنتج ثقافتها أو تأثيراتها في الواقع الثقافي، لتلعب بالهوية. اختلافها يكمن في أنها هويات متفرعة صرفة. ليست ثقافات، ولا منجزاً نقدياً، إنما ظواهر وجود تميل للنزاع والاستعداء مع الطرف الآخر. هي تتطور أيضاً، لكن ليس بموجب ما يمليه الجامع المشترك بينها وبين سواها، إنما بعيداً، ثم تفرض نفسها على الوطن.

تبدأ الثقافةُ بالانتشار حين يكون هناك وعيٌ بأهمية الحراك الثقافي، بل إن الوعي هو الشعور بأهمية أن تكون الثقافة منطلقاً لبناء الإنسان من خلال تماسك العقل في نقطة العاطفة، لأن الكثير من الحراك الذي تحاول الشعوب بناء أسسه ينطلقُ من أساسٍ عاطفيٍّ ومن ثمَّ لا تترتّب عليه أي منظومةٍ قابلةٍ للثبات.

لا وعي بلا ثقافةٍ ولا ثقافةَ بلا حرية ومجتمع قادر على إنتاج الحوار الثقافي. بمعنى أن هناك مقدماتٍ كثيرة لكي يكون الفعلُ الثقافي فعلاً مغيِّراً لجمودِ العقل والوعي، وفعلاً منتجاً لتحريك المجتمع نحو ماهيةِ الوعي المنطلق من أساس تحرير العقل من هيمنة الآخر العاطفي.

إن الثقافةَ لا تعني إنتاجاً أدبياً فحسب، بل هي نتاج تجاربَ عميقةٍ في الوعي. لذا فإن محنة الثقافة هي غيابُ الوعيُ ومحنةُ الوعي هي غيابُ الثقافةُ عن منهجة المجتمع الذي ينطلق أساساً من جماعات تقود الوعي بعقلية التقدم لا بعقليةِ استغلال العقلِ وإخماد جذوته.

تفكّك هوية المثقف هذا بحاجة مستمرة إلى مراجعات جذرية ذات طابع نقدي وآخر بنائي، للمساهمة بإدخالها ضمن الجامع المشترك لأن الانتماءات الثانوية تتمرد على أي وجود يشذّب خصوصيتها… هنا يأتي دور المراجعة عبر الفعل النقدي، وتحديداً عبر الأدوات الثقافية ذات الصلة بإنتاج المعرفة، والمراجعات يفترض أن تمسّ بدرجة رئيسة، العناصر الأساسية المفكّكِة لتلك الهوية، والتي يمكن أن تصبح تنوّعاً منسجماً، ولعل القطاع الثقافي في القامشلي سيكون له دور كبير في إعادة التواصل بين مكوّنات هذه المدينة التي يعاني مثقفوها من قصور شديد في فهم بعضهم ثقافياً.

فالمثقف السوري، وابن القامشلي على وجه الخصوص، نتاج ما تراكم من صور للمثقف في العالم العربي ونتاج تجاربه الوطنية في دمشق وبغداد وبيروت والقدس ومصر والدول المغربية وغيرها من أقطار. فهو «ثوري» أو «مؤدلج» أو «ملتزم» أو «عضوي» على خط المواجهة مع السلطات.

من هنا، فقد تشكّل المثقف بكونه كياناً رمزياً متخيَّلاً أحياناً كثيرة ـ مثل الهوية ـ من مكوّنات ارتبطت ببعضها هرمياً ولكن المثقف لا يدرك نسبيته هنا، فهو ينتمي إلى قيم الحداثة وما بعدها. فهو ليس وصياً على عقول الناس بقدر ما هو متخصص في حقل المعرفة.

هناك شرائح أخرى في صورة المثقف لا بدّ من وصول الحَفْر إليها لتبيّن جذور ظاهرة النكوص. نتبيّن في واحدة منها سقوط المثقف في فخّ هويّته مقابل الآخر. وليس صدفة أن يبدو بعض المثقفين في القامشلي غرباء عن زمانهم ومكانهم، فتكشف التحوّلات والأحداث جمودهم العقائدي ودوغمائيتهم العمياء. ولذلك فإن البحث يدفعنا إلى الحفر في دلالة مفهوم المثقف والنظر إلى شخصية المثقف الاجتماعية، ولا بد أن يصدمنا بازدواجية شخصيته في المجتمع الذي يحيا فيه.

في ضوء ذلك، فإن الحوار الثقافي عبر الندوات واللقاءات والكتابة، هو ذلك الذي يتعالى على الاختلافات القائمة، ولعله هنا يأتي دور المثقف في القامشلي الذاخرة بأسماء ثقافية كبيرة، في الرواية والقصة والشعر والمسرح والفنون التشكيلية ومن السهل اكتشاف أسماء كبيرة ولها دور في تشكيل هوية المدينة الثقافية ومنهم الروائي العالمي سليم بركات، وليد حاج عبد القادر.

في مجال البحث الفكري: إبراهيم محمود، تركي علي الربيعو، محمد السموري، حواس محمود، عبد الواحد علواني.

شعراء: جكر خوين، طه خليل، محمد المطرود، علي الكعود، أديب حسن، إبراهيم اليوسف، موفق حمو مردوك الشامي ، أحمد حيدر، إبراهيم حسو، عيسى الشيخ حسن، مروان علي، جوزيف كورية وجكو محمد، وحسين بن حمزة، ومن القدامى ظهر جورج سعدو ويعقوب عبو.

قصة: محمد نديم، أفرام اسكندر شعر وقصة ، ملكون ملكون، أنطوان أبرط وحسين سباهي قصة وشعر .

ومن المسرحيين: أحمد شويش، سمير ايشوع، جمال جمعة، عدنان عبد الجليل، وليد عمر، حنا عيسى، فواز محمود وأحمد إسماعيل إسماعيل كاتب مسرحي .

ومن الإعلاميين ظهر أحمد مارديني، مسعود عكو وهوشنك أوسي و كميل سهدو.

وفي الغناء والموسيقى، برز سعيد يوسف، محمد شيخو، جان كارات، عبود فؤاد، إيفلين داوود، أشور يونادام وعزيز صليبا.

نعم، المدينة تحتاج إلى أعلامها للحوار وإعادة إنتاج نفسها بعد الأزمة والحرب التي تعاني منها سورية. ففي المجتمعات المتنوعة تنوعاً لا يصل إلى حدّ الانقسام والشقاق، لا حاجة للحوار الداخلي، لأن التنوع المكوّن للهوية يفرض انسجاماً عفوياً. أما في تلك التي يصل تنوعها إلى الانقسام، وتكون تعدديتها مأزقاً، فإن الخطوة الأولى هي حوار داخلي بين العناصر الرئيسة التي تسببت أيضاً بصناعة المأزق. في أحد جوانب الحوار هناك فعل سياسي وحزبي… لكن في الجانب الآخر، حراك ثقافي، فكري، معرفي… يلامس الأسباب والسبل والنتائج. غلبة الثاني على الأول هو ما يحمي ديمومة الجامع المشترك.

والمنهجية كي تبقى مغايرة، يجب أن تفرض حواراً تتحكم بمساراته نخب مثقفة، معرفية، نقدية… تقرّ المشكلات كما هي، وتبحث في تفصيلات تعدد الأشكال المتعارضة والمتضادة الموجودة «شكلاً» داخل الهوية الواحدة، ربما تجد فرصة صناعة التنوع ضمن جوامع مشتركة.

وهذا ما يجعلنا نؤكد أن الإصلاح الثقافي قضية لا تقل أهمية بأي شكل من الأشكال عن قضايا الإصلاح الاقتصادي والسياسي . بل إنه يمكن القول بأن أي إصلاح اقتصادي أو سياسي لن يضرب بجذوره في المجتمع، إلا إذا أصبح جزءاً من الثقافة السائدة لدى الشعب، ومن وعي غالبية المواطنين به وسعيهم لتحقيقه بخاصة إذا ما كان هو خيارهم المبني عن قناعات وإيمان لا خيار ضرورات .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى