الشباب الفلسطيني: رسائل من ميادين المقاومة الشعبية!

نصار إبراهيم

لم يتوقع الكثيرون ردّ فعل الشعب الفلسطيني على الممارسات والسياسات «الإسرائيلية» تجاه القدس، كان التحرك حيوياً وشجاعاً وشاملاً، كان العنوان الدفاع عن القدس كنقطة تقاطع وطني، سياسياً ودينياً ورمزياً ومعنوياً وأخلاقياً، تجاوز الشباب الفلسطينيون الحدود في الضفة الغربية والقدس، في غزة وفي مناطق عام 48، تجاوزوا الجغرافيا واعتمدوا فلسطين كما يؤمنون بها، تجاوزوا الانقسام المهين ووجهوا بوصلتهم نحو وجهتها الصحيحة، تجاوزوا السقوف السياسية والضوابط التنظيمية، تجاوزوا شعارات «العقلانية»، وذهبوا حيث يأخذهم وعيهم الوطني وقناعاتهم العميقة.

هم الشباب الفلسطيني، جيل ما بعد أوسلو يتقدّمون ميادين المقاومة الشعبية، يقاومون ويستشهدون بشجاعة، وتلك بذاتها رسالة الرسائل لمن يفهم أبعادها جيداً.

وفي الوقت الذي كان يشعل فيه الشباب الفلسطيني ميادين المواجهة ونقاط المواجهة مع قوات الاحتلال على امتداد فلسطين التاريخية، انشغل الكثيرون بأسئلة تعكس، في كثير من الأحيان، عدم القدرة على إدراك مضامين هذا النهوض الشعبي الفلسطيني العارم والجريء. فراحوا يتساءلون هل هي انتفاضة ثالثة؟ هل هي هبّة جماهيرية؟ وهل ستستمرّ، وإلى متى؟ وهل… وهل…؟

في الواقع، إنّ طرح مثل هذه الأسئلة وفي هذا السياق لا جدوى منه، فسواء كانت انتفاضة ثالثة أو هبّة أو ردّ فعل أو اندفاعة شعبية، وسواء ستستمرّ طويلاً أم لبعض الوقت أم لا، فالفلسطيني العادي والشباب المندفع نحو المواجهات ليس مشغولاً بمثل هذه الأسئلة التي لا يرى فيها أيّ فائدة… ذلك أنّ حركة الشعب الفلسطيني الراهنة ما هي إلا ردّ فعل طبيعي على تحدّيات الواقع، هي حالة مواجهة أو نهوض تلقائي للمقاومة، لم يتوجه الشباب إلى ميادين المواجهة بناء على خطة استراتيجية، ما يحرّكهم الآن هو الردّ على سياسات الاحتلال واستفزازاته وقهره مهما كان الثمن.

في الحقيقة، الأسئلة أعلاه يجب أن تشغل بال القوى السياسية والقيادات الفلسطينية، كونها هي التي تقدّم نفسها كصاحبة رؤية ومشروع واستراتيجية وطنية كما تقول، أو كما هو مفترض، منطقياً ووطنياً، أن تكون…

على أهمية طرح الأسئلة الواضحة والدقيقة على القوى السياسية، فإنه لا يقلّ أهمية عن ذلك تقديم القراءة العميقة للدروس والرسائل الأساسية التي يعلنها الشعب الفلسطيني من خلال مقاومته الشعبية وما تعبّر عنه من مضامين وأبعاد لمن يملكون القرار، أو لا يملكونه، سواء كان من يملك القرار هو القوى السياسية الفلسطينية، أو دولة الاحتلال الكولونيالي، أو الشعوب العربية أو العالم.

بالنسبة إلى القوى السياسية الفلسطينية وبمختلف أطيافها، عليها أن تقرأ هبّة الشباب الفلسطيني بعمق، فقد لوحظ أنّ الجيل الذي يتحرك في الميدان ويواجه ويضحّي هو جيل ما بعد «أوسلو»، هذا الجيل الذي يندفع بجرأة للمقاومة والتضحية تحت أحد عناوين النضال الوطني الفلسطيني الجامعة: القدس…

ومع أهمية هذا العنوان الوطني والرمزي، أيّ القدس، فإنه لمن الخطأ الفادح التعامل مع هذه الحالة الشعبية من منطلق عاطفي أو ديني فقط، فالقدس هي مجرد عنوان ومدخل لقضايا وسياسات أكثر اتساعاً، هي فقط رأس جبل الجليد، ذلك أنّ حركة بهذا الزخم وبهذا العنفوان تتجاوز البعد العاطفي بما تعبّر عنه من أبعاد يجب وعيها بدقة، فعدم إدراكها يعكس سذاجة وضحالة سياسية، سواء كان ذلك مقصوداً أو غير مقصود، سيّان… أو ربما قد تكون محاولة للهروب من استحقاقات الصراع الكبرى.

لقد راهن البعض، داخلياً وخارجياً، على أنّ البنى وعملية التحطيم التي ترتبت على سياسات وقيود اتفاقات أوسلو، الأمنية والاقتصادية والثقافية وتراجع القوى السياسية وفقدانها – نسبياً – لثقة الأجيال الفلسطينية الشابة، إلى جانب الانحباس السياسي، سيخلق جيلاً فلسطينياً محبطاً ليس لديه أيّ طموح أو قدرة على المبادرة، غير أنّ الهبّة الجماهيرية العاصفة التي نشهدها تتناقض مع هذا التحليل وهذه التوقعات القاصرة.

أولى الرسائل التي يعلنها الشباب الفلسطيني من ميادين المواجهة هي أنّ ردود فعل الشعب الفلسطيني لا يمكن تقييدها أو ضبطها أو السيطرة عليها عندما يتمّ المساس بأحد ركائز قضيته وحقوقه الأساسية الراسخة في وعيه الجمعي، كالقدس مثلا أو الأسرى، هنا تتوحّد الإرادة الجمعية وتتجاوز كلّ الحسابات، إنها رسالة عميقة وحاسمة بأنّ هناك قضايا يشكل المساس بها استفزازاً عميقاً للوعي والكرامة الوطنية والشخصية أيضاً، ولهذا جاء ردّ الشعب الفلسطيني مباشراً وشمولياً إلى حدّ بعيد.

ومع ذلك، وبقدر ما أنّ انتفاضة الشباب الفلسطيني الحالية موجهة ضدّ الاحتلال، فإنها أيضاً تحمل في أعماقها غضباً واضحاً تجاه الأداء السياسي الفلسطيني بسبب عجزه وانحداره في مواجهة مخططات وسياسات الاحتلال…

في هذا الإطار كانت رسالة الشباب المنتفض المباشرة والواضحة: لقد وصلنا إلى نقطة لم نعد نحتمل أو نتفهّم معها هذا العبث ببديهيات قضيتنا وحقوقنا الوطنية والإنسانية، إنها رسالة موجهة ضدّ الخطاب والأداء الفلسطيني السياسي العاجز والضعيف، الذي لا يتناسب ولا ينسجم مع واقع الشعب الفلسطيني وحقوقه وتضحياته وقدرته واستعداده للمقاومة والتضحية.

الرسالة الواضحة الثانية للقوى والقيادات السياسية الفلسطينية هي رفض الانقسام وإدانة عجز القوى السياسية عن تجاوزه، لقد ملّ الشعب الفلسطيني وسئم تماماً هذا التهاون تجاه قضية بديهية واضحة عنوانها الوحدة الوطنية، بحيث تحوّلت من شرط بديهي للنضال الوطني إلى مجرد عنوان لسجالات ومناورات عقيمة تدور حول تقاسم السلطة والصلاحيات والوظائف، وكلّ ذلك تحت سقف الاحتلال، فيما الوحدة الوطنية في وعي الشعب الفلسطيني هي قضية حياة أو موت، إنها ركيزة حركته التحرّرية الوطنية الثابتة، وهي أيضاً الركيزة لثقافة المقاومة والارتقاء للتحديات التي تجابه الشعب الفلسطيني، لقد كانت هذه الرسالة في ميادين المواجهات الدامي شديدة الوضوح: فالشعب الفلسطيني بكلّ أطيافه وأماكن تواجده توحّد في الميدان حول حقوقه وقضيته الوطنية، فلماذا كلّ هذه المماطلة والنفاق والعبث بالوحدة الوطنية الفلسطينية؟ بهذا المعنى فإنّ الشباب الفلسطيني من جميع الأطياف السياسية والاجتماعية، والذي توحد في ميدان المقاومة، يحمّل مباشرة كلّ القوى السياسية الفلسطينية المسؤولية عن هذا الإخفاق المريع.

استنفاد «الاتفاقيات»

المسألة الثانية، لقد تبلورت وتراكمت منذ اتفاقيات أوسلو وحتى اليوم قناعة عميقة عند غالبية قطاعات وفئات الشعب الفلسطيني بأنّ هذه الاتفاقيات قد استنفذت تماماً، وفي النهاية كانت ربحاً صافياً للاحتلال، وبالتالي فإنّ الرهان عليها لم يعد مجدياً، فالمستفيد الأكبر منها هو الاحتلال الذي استعملها ببراعة ليفرض المزيد من الوقائع والحقائق الجديدة على الأرض، لقد نجحت اتفاقيات أوسلو في كلّ شيء ما عدا تحقيق مصالح الشعب الفلسطيني، لقد نجحت في تكبيله بمختلف أنواع القيود في الوقت الذي أطلقت فيه أيدي الاحتلال حتى النهاية… لقد نجحت في ربط الاقتصاد الفلسطيني باقتصاد الاحتلال وفق شروطه وشروط الدول المانحة والبنك الدولي، كما نجحت في فرض النموذج الاقتصادي النيوليبرالي على المواطن الفلسطيني لتضاعف من معاناته إلى جانب ما يعانيه من الاحتلال، مما زاد من صعوبة الظروف المعيشية والفقر والبطالة، وكبّل المواطن بالقروض والضرائب والوظائف التي تعتمد على التمويل المشروط.

الرسالة الأخرى التي لا تقلّ أهمية هي سقوط استراتيجية التفاوض والعمل الديبلوماسي كخيار وحيد، ففصل التفاوض عن سياقاته الوطنية والتاريخية وعن تجربة الشعب الفلسطيني، حول العملية التفاوضية إلى استراتيجية قاصرة وفاشلة، تفتقر إلى روح المبادرة والحيوية ولا تتناسب مع طاقة وقدرات الشعب الفلسطيني، والأهمّ أنها لا تتناسب مع طبيعة الاحتلال الكولونيالي وحقيقة مشروعه الاقتلاعي، وما ينفذه من سياسات بدأب وإصرار ضدّ الشعب الفلسطيني وحقوقه القومية.

بل إنّ حصر الاستراتيجية الفلسطينية تحت سقف التفاوض كخيار وحيد، شكل غطاء سياسياً لدعاية الاحتلال التي نجحت في إلصاق صفة الإرهاب بكلّ عمل أو تنظيم فلسطيني مقاوم بما في ذلك المقاومة بالحجر، من هنا جاءت الهبّة لتعيد الاعتبار للمقاومة الشعبية الإيجابية الفعّالة المسنودة بكافة أشكال المقاومة التي تكفلها القوانين الدولية وتؤكد عليها تجارب الشعوب المناضلة من أجل حريتها منذ فجر التاريخ.

هذه الحقيقة تفرض على القوى السياسية الفلسطينية الانتقال فوراً إلى استراتيجية جديدة أساسها وركيزتها إرادة الشعب الفلسطيني واستثمار قدراته في الصبر والمقاومة والمبادرة، هدفها انتزاع الحقوق الوطنية وفرضها بقوة الشعب والحق والمقاومة.

في هذا السياق كان على القوى والقيادات الفلسطينية التحرك الفوري والحاسم من أجل استثمار الهبّة الشعبية الفلسطينية وصياغة أهداف سياسية مباشرة لها كجزء من استراتيجية وطنية أشمل، والدفع باتجاه تحقيقها بفعل تضحيات وبسالة وإصرار الحركة الشعبية في الميدان، على سبيل المثال:

ـ عدم المساس بالمقدّسات وإسقاط مخطط تقسيم المسجد الأقصى الزماني والمكاني، وقف كلّ أنواع الحفريات أو دخول المستوطنين للأماكن المقدسة. وحق المواطنين الفلسطينيين في الوصول إلى أماكنهم المقدّسة في القدس بحرية.

ـ وضع حدّ للاستيطان واعتداءات المستوطنين ضدّ الشعب الفلسطيني بصورة فورية وشاملة.

ـ إزالة الحواجز بين المدن الفلسطينية والتوقف عن إهانة واستفزاز المواطنين الفلسطينيين.

ـ حق المواطنين الفلسطينيين في الوصول إلى أراضيهم وحقولهم بحرية بما في ذلك تلك التي تقع وراء جدار الفصل.

بطبيعة الحال هذه الأهداف التكتيكية ضرورية من أجل توجيه الفعل الشعبي نحو أهداف محدّدة وتحقيق انتصارات ولو جزئية، وبالتالي فهي ليست بديلاً عن الاستراتيجية الوطنية البعيدة المدى التي تتعامل مع قضايا الصراع الأساسية انطلاقاً من التمسك بخيارات المقاومة وبكافة الأشكال على قاعدة التمسك بالحقوق الوطنية الثابتة: حق العودة، القدس، إزالة المستوطنات، المياه، حق تقرير المصير، الانسحاب الكامل حتى حدود الرابع من حزيران.

إذن لقد كان على القيادات والقوى السياسية الفلسطينية التقاط اللحظة بدلاً من الارتباك أو الدفع نحو التهدئة بلا مقابل مما يريح الاحتلال، كان عليها توجيه المقاومة الشعبية نحو أهداف محدّدة ولو تكتيكية، بما يلتقي مع تضحيات الشعب وروحه المتحفزة للنضال.

أما الرسائل التي وجهتها الهبّة للاحتلال الاستعماري «الإسرائيلي» فقد كانت أيضاً شديدة القوة والوضوح، وأهمّها أنّ أجيال الشعب الفلسطيني مسكونة بقضيتها وحقوقها، وأنّ وهم قهر الشعب الفلسطيني والرهان على تعبه وإحباطه هو رهان فاشل تماماً…

في هذا السياق تأتي الرسالة الثانية وهي أنّ العبث بوعي الشعب الفلسطيني والمساس برموزه العميقة كالقدس والمقدّسات والأسرى سيواجَه بمقاومة شديدة وشاملة، الأمر الذي يؤشر إلى عمق الوعي الجمعي والمقاومة كحالة ثقافية وسلوكية عند المواطن الفلسطيني، ذلك أنّ الشعب الفلسطيني لا يخوض المواجهات وفق معادلات سطحية تتعامل مع موازين القوى بالمعنى الكمّي أو النوعي المباشر، بل يذهب إلى المواجهة وفق معادلة ترتكز إلى ثقل الشعب الفلسطيني بكامله وليس مجرد نخب أو مجموعات مقاومة صغيرة يمكن عزلها وتشتيتها، في هذا السياق يمكن القول إنّ كلّ مواطن فلسطيني هو مقاوم أو مشروع مقاوم باستثناء فئة قليلة جداً، وبالتالي فإنه قادر على تهديد الأمن «الإسرائيلي» في العمق، بهذا المعنى أسقط الشباب الفلسطيني المنتفض وبضربة واحدة أكذوبة جدار الفصل كجدار أمني، فانكشفت وظيفته الحقيقية كجدار فصل عنصري سياسي ثقافي لا أكثر.

هذه الحقائق والدروس تعني في أحد أبعادها الأساسية أنّ ما يقوم به الاحتلال وما يفرضه من حقائق ميدانية مصادرة الأراضي والاستيطان، التضييق على الفلسطينيين وقهرهم، عزل القدس سياسياً واجتماعياً وإنسانياً… بقدر ما أنها تزيد من معاناة الشعب الفلسطيني، إلا أنها في ذات الوقت تضاعف من غضبه وشدّة ردّ فعله، وبالتالي فإن العقوبات الجماعية والضغط النفسي والاقتصادي، لم ولن تنجح في إخضاع الفلسطينيين بل ستدفعهم نحو تصعيد المقاومة بصورة نوعية.

لا تفكير استراتيجياً

ما تقدّم يكشف ضحالة التفكير الاستراتيجي عند الاحتلال الكولونيالي «الإسرائيلي»، الذي بقدر ما استثمر في اتفاقيات أوسلو سياسياً واقتصادياً وأمنياً لفرض رؤيته على الأرض، ومحاولة تكريس ما فرضه من وقائع باعتبارها مكتسبات ثابتة، إلا أنّ المقاومة الشعبية الفلسطينية جاءت لتؤكد رفض الشعب الفلسطيني لكلّ هذه الإجراءات واستعداده لمقاومتها وتجاوزها وبكلّ أشكال المقاومة،

هذه الخلاصة بقدر ما تتعلق بالاحتلال، فإنها أيضاً توجه رسالة عميقة للقيادات الفلسطينية جوهرها أنّ سياساتها واستراتيجيتها في المرونة والمساومة على قاعدة الوقائع التي يفرضها الاحتلال هي استراتيجية فاشلة وعقيمة تماماً… فالمعادلة التي تحكم الوعي الفلسطيني تجاه نضاله الوطني التحرّري هي إنهاء الاحتلال والتحرّر الوطني كاملاً، فحقوق الشعب الفلسطيني ليست أوراقاً للمساومة، وبالتالي فإنّ على أيّ عملية سياسية أن تنضبط لسياقات الاستراتيجية الوطنية التي تستهدف إنهاء الاحتلال وتطبيق قرارات الشرعية الدولية، وليس المساومة على الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.

أما الرسالة الأساسية التي وجهها الشعب الفلسطيني بدمه وإصراره وعناده للأمة العربية المقصود هنا الشعوب العربية وليس الحكام والطبقات المهيمنة فهي أنّ قضية فلسطين تبقى جوهر الصراع، وبالتالي لا يمكن تجاوزها، وعليه فإنّ ما تتعرض له الشعوب العربية من تدمير وقتل منهجي منظم من قبل القوى الاستعمارية العالمية وقوى الرجعية العربية وأدواتهما الإرهابية القاتلة والمتخلفة، تكمن أحد أهدافه العميقة في تصفية القضية الفلسطينية، لهذا ومهما انشغلت الشعوب العربية بقضاياها عليها أن لا تنسى أنّ نجاحها في إسقاط مشاريع الهيمنة والرجعية والتخلف والتقسيم يرتبط بمدى تمسكها بقضية فلسطين.

هذه الحقيقة الهامّة من غير المقبول أو المسموح التعامل معها بردّ فعل، فممارسات وخيارات بعض القوى السياسية الفلسطينية، واستخدامها للقضية الفلسطينية من أجل تعزيز خياراتها المناقضة لمصالح الشعب الفلسطيني، أيّ بما يتناقض مع السياقات الوطنية والتاريخية والقومية للقضية الفلسطينية، بقدر ما أنه خيار خاطئ ومدمّر لقضية الشعب الفلسطيني، فإنه يعكس أيضاً بؤساً في الوعي السياسي، كما يعبّر عن انتهازية سياسية خطيرة، هذا ما حصل في ضوء تدخل حركة حماس ضدّ الدولة والجيش والشعب السوري خدمة لحركة «الإخوان المسلمين»، وهذا ما حصل أيضاً حين اصطفت السلطة الفلسطينية في رام الله مع قوى العدوان السعودي ضدّ شعب اليمن الباسل، إنّ هذا السلوك والممارسة السياسية يعبّران عن إخفاق كبير لتلك القوى، ومع ذلك يجب أن لا يقود سلوك هذه القوى إلى ردّ فعل نقيض، أيّ تخلي الشعوب العربية عن قضيتها المركزية، بل عليها التمسك أكثر بتلك القضية، وبهذا تحفظ اتجاه البوصلة وتحافظ على وحدة قوى المواجهة ووحدة قضايا الأمة.

على الصعيد العالمي، وجهت الحركة الشعبية الفلسطينية رسالة واضحة لما يُسمّى المجتمع الدولي، وهي أنّ كلّ محاولات الدفع باتجاه التعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها مجرد مسألة إنسانية وليست قضية تحرّر وطني بالدرجة الأولى هي مقاربة فقيرة وسطحية، وبالتالي فإنّ قبول العديد من القوى العالمية والحكومات بالادّعاءات «الإسرائيلية» التي تصف نضالات ومقاومة الشعب الفلسطيني باعتبارها إرهاباً، مقابل وصف ما تقوم به «إسرائيل» من عدوان وقتل واعتقال وحروب وتدمير بوصفه «دفاعاً عن النفس»، إنما يشكل غطاء لممارسات الاحتلال من جانب، ويطيل معاناة الشعب الفلسطيني من جانب آخر، وعليه فإنّ هبّة الشعب الفلسطيني بعنفوانها ووضوحها تكشف ضحالة هذه المقاربة، وتبرهن في الميدان أنّ الشعب الفلسطيني لا يلتفت كثيراً إلى هذه المقاربات المنحازة، وبالتالي فهو يمضي نحو خياراته الوطنية بثبات، وعلى هذا الأساس فهو يمارس حقه في المقاومة سواء بصورة عفوية أو منظمة، وفي هذا السياق لا يهمّه كثيراً كيف ينظر إليه الإعلام المستباح والمنحناز للاحتلال وممارساته.

هذا الواقع يعني أنّ المجتمع الدولي، الذي فقد ثقة الشعب الفلسطيني، ولكي يستعيد بعضاً من الاحترام ليس أمامه سوى خيار واحد: تجاوز المقاربات القاصرة والعقيمة، والتخلي عن النفاق السياسي والخطاب الأخلاقي الإنسانوي المجرد، والتعامل مع نضالات الشعب الفلسطيني باعتبارها حقاً طبيعياً له في مقاومة الاحتلال من أجل نيل حريته واستقلاله،

الترجمة السياسية والعملية لهذه النقطة تعني توجيه الضغط بالكامل نحو الاحتلال بهدف إجباره على الانصياع لقرارات الشرعية الدولية من دون مراوغة، وتبنّي قضية ونضالات الشعب الفلسطيني كقضية تحرّر وطني من الطراز الأو ل، وعليه يكون التضامن وتقديم الدعم للشعب الفلسطيني انطلاقاً من هذه الثوابت والبديهيات وليس انطلاقاً من مقاربات إنسانية لم تعد لوحدها تجدي نفعاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى