«التصوير الشعريّ» كتاباً لعدنان قاسم… دور المخيّلة والخيال في بناء الجماليّة الشعريّة
ألف الناس العاديون، وربما المثقفون أيضاً، التمييز، أو لنقل الفصل التعسفي، بين الخيال والعقل كأنهما مجرتان بعيدتان الواحدة عن الأخرى ملايين السنوات الضوئية، لكن الدراسة تكشف لنا عما يناقض تماماً هذا الزعم.
في كتابه «التصوير الشعري»، الصادر عن «الدار العربية للنشر والتوزيع»، يخصص الباحث عدنان حسين قاسم جزءاً كبيراً منه لدور المخيلة والخيال في بناء العوالم الشعرية، مبرزاً أن كلاً منهما قوة «تعمل على استثارة الرصيد الثقافي»، وعلى «استرجاع الحالة الشعورية التي انبعثت عن التجربة وصاحبتها»، وفضلاً عن ذلك، فإن الخيال «يقوم بخلق نوع من العلاقات الخاصة بين الأشياء الخارجية وينتقي الحوادث، ويختار المواقف و»ينسقها» في صور جديدة، إلى جانب توفير «الأشكال الفنية وصبها في صور مترابطة ومنسجمة». قبل عرض بعض الأفكار حول دور الخيال والمخيلة في الفكر والفنون ينبغي التذكير بأن الشاعر التونسي الشابي 1909 ـ 1934 كتب قبل عقود عديدة في ريعان شبابه كتابه «الخيال الشعري عند العرب»، مقارنة بين الخيال الشعري لدى الشعراء العرب والخيال لدى الشعراء الغربيين، ولكن جهد الشاعر الشابي بقي يتيماً إذ لم يستكمل ويطوّر في النقد العربي المعاصر بدراسات متخصصة لها ركائز مؤسسة على علم جمال إنتاج المخيلة.
فضلاً عن ذلك لا نجد أعمالاً فلسفية عربية معاصرة نسقية ومتكاملة مكرسة لبناء نظريات حول دور المخيلة والخيال في الفن الشعري وجماليات المعمار، وفي المجالات الحيوية كلها في مجتمعاتنا، بما في ذلك التخيّل الجمالي السياسي. ففي الفلسفة الغربية والفلسفة الإسلامية القديمة ثمة اهتمام كبير بدور الخيال والمخيلة في إنتاج المعرفة وبناء التجربة الشعرية. لدينا في هذا السياق بعض أفكار الفلاسفة والنقاد على النحو الآتي: يعتبر إيمانويل كانط 1724 ـ 1804 أن المخيلة ليست ملكة مستقلة عن ملكات العقل الأخرى بل هي مكملة لملكات الفاهمة والحساسية والتخطيطية.
يتمثل دور المخيلة ضمن إطار عمل العقل في تعاونها مع الفاهمة لتأليف «المجتمع الحسي» وجعله موضوعاً مفرداً قابلاً للتعيين المفهومي بحسب تحليل كانط، على ما يوضح الباحث الفلاحي في رصده التناقص بين الإمام الغزالي وكانط حول مكانة المخيلة ضمن عمارة العقل البشري. نعرف أن الأنا التي تفكر لا تفكر في العدم، بل تفكر في الرسوم الذهنية التي تقيمها الذات عبر المخيلة لخلق وسائط بين المفاهيم القبلية والتمثيلات الحسية، بحسب الباحث عبد الحق منصف في معرض دراسته لنظرية كانط حول مفهوم العقل البشري الكوني وعمله بالمقارنة مع الإمام الغزالي. هكذا ندرك أن ملكة الفهم لدى الإنسان تعتمد على المخيلة في تعقل ما تقدمه الحساسية الخارجية وإدراكه وتصنيفه، فندرك أن المخيلة تنتمي إلى مجال الحس الداخلي للإنسان ومن دونها لا يمكن إنجاز أو تحقق المعرفة أو الإبداع الشعري والفني.
يميز كانط في نظريته الجمالية بين «الجميل» و»الجليل» أو «الجلال»، كما يرصد علاقة كل منهما بالمخيلة ويوضح وفقاً لشروح الباحث زكريا إبراهيم أن «المتعة التي يولدها لدينا الجميل نجدها قائمة على التوافق الانسجامي بين المخيلة والفهم». أما جمالية «الجليل» في الإبداع الفني والشعري منه خاصة فهي ذات وضع مختلف تماماً ويوضح الدارس أن الجليل أو «الجلال الحقيقي لا يمكن في الطبيعة، بل في الذهن. ونطلق لفظ الجليل على ذلك الشيء الذي يبدو كل ما عداه بالنسبة إليه صغيراً أو ضئيلاً. لكن المحيط الهائل الذي تثور فيه العواصف ليس في حد ذاته جليلاً إنما هو بالنسبة إلينا مجرد مناسبة لتنشيط مخيلتنا، ودفعها إلى تصور اللامتناهي».
نظر إلى مركزية الخيال والمخيلة في العملية الإبداعية والمعرفية يولي الشاعر والناقد الإنكليزي المشهور صمويل تايلور كولردج أيضاً أهمية حيوية جداً لملكة المخيلة في الإبداع الشعري، خصّص الدارس العربي عدنان حسين قاسم مساحة مهمة في كتابه المذكور أعلاه، يبرز فيها النظرية الرومانتيكية قائلاً: «الخيال الشعري يمكن أن يفعل فعله في المادة التي يجمعها».
وفقاً لتحليل الدارس عدنان حسين قاسم في كتابه «الخيال التصويري» فإن الخيال بحسب نظرية كولردج «ينقسم إلى نوعين: القسم الأول منه يقوم بوظيفة الإدراك والجمع، أما القسم الثاني فيقوم بوظيفة التحليل والنشر والتجزيء لكي يخلق من جديد». أما الناقدة إليزابيث درو فترى أن مهمة المخيلة الشعرية تتمثل في «تنسيق الواقع وجزئياته في صور فنية جديدة». ففي التراث الفلسفي الإسلامي نجد اهتماماً بالمخيلة والخيال لدى ابن سينا وابن رشد والفارابي وسواهم. فابن رشد يميز على سبيل المثال بين «قوة المخيلة وبين قوة الظن والحس الخارجي الذي يتمثل في نشاط الحواس الخمس». المخيلة تشتغل على المستوى الباطني، ولهذا السبب يخلص هيوم إلى استنتاج مفاده أن الخيال يؤثر في العواطف. في هذا السياق يرى أن المخيلة «ليست مركبة من كلا الظن والحس»، وفي الوقت نفسه يؤكد على الصلة بين الحس والتخيل. فالتخيل لدى ابن رشد وبحسب استنتاج الدارس ماجد فخري «لا يوجد منفصلاً عن الحس، بينما قد يوجد الحس منفصلاً عن التخيل في الحيوانات الدنيا».
أما ابن سينا فله رأي مهمّ وطريف في الكيفية التي يدرك بها التخيّل، بعد تمييزه عن إدراك الوهم، وإدراك الحس وإدراك العقل. بعد القيام بهذا التمييز بين هذه الأركان الثلاثة فإننا نجده يبرز بوضوح أن إدراك الحس يكون عندما «يأخذ الحس الصورة عن المادة بحيث لا يحتاج في وجودها فيه إلى وجود المادة، وإن غابت أو بطلت، فإن الصورة تكون ثابتة الوجود في الخيال، إلاّ أنها لا تكون مجردة من اللواحق المادية».
جهد الشابي بقي يتيماً إذ لم يتطور في النقد العربي المعاصر بدراسات متخصصة. كما نلاحظ أيضاً أن ابن سينا يفصل الخيال عن العقل خلافاً للفيلسوف الألماني كانط، ومع ذلك فإنه يسلم بدوره الأساسي في إنتاج المعرفة المخالفة تماماً لإدراكات الوهم، فالوهم كما يقول ابن سينا لا يتعامل إلا مع «المعاني التي ليست هي في ذاتها مادية».
على ضوء ما تقدم فإن المخيلة تشتغل على المستوى الباطني، وربما لهذا السبب يخلص الفيلسوف ديفيد هيوم 1711 ـ 1776 في كتابه «في الطبيعة البشرية» إلى استنتاج مفاده أن الخيال يؤثر في العواطف، وأن كليهما، أي الخيال والعاطفة معاً، يتأثران بما يحدث لأيّ منهما، بسبب علاقة الوحدة الرابطة عن قرب بينهما.