نحن سوريون فلا تنتظروا منا رفع الرايات البيضاء…

جمال العفلق

كلما اقترب الحلّ السياسي، خرج علينا من يهدّدنا وينذرنا بحرب مقبلة، وكلما ضاق الخناق على العصابات الإرهابية والمرتزقة، تتصدّر عبارات التهديد تصريحات المسؤولين الغربيين وموظفيهم من العرب، هي الحرب التي فرضت على الواقع السوري ولكن هل يُفرض على السوريين الاستسلام؟

معركة السوريين اليوم متعدّدة الوجوه وعلى كلّ الجبهات، ولا أعتقد أنّ وصف الحرب الكونية على الشعب السوري هو وصف مبالغ فيه، فهذا الحصار الطويل على السوريين والذي اشتركت فيه أكثر الدول الإقليمية والمجتمع الدولي بحجة تنفيذ قرارات مجلس الأمن هو بالنتيجة لا يختلف عن حصار ما يسمى «إسرائيل» للشعب الفلسطيني أو عن الحصار الأميركي لكوبا، وإن اختلفت الأهداف.

وفي الواقع إنّ الدول التي تحاصر سورية هي المُحاصرة اليوم بإرادة الشعب السوري وصموده، وللحكاية بداية قديمة تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي حيث دعمت نفس الدول أو عدد منها عصابة «الإخوان المسلمين» بالسلاح ومعسكرات التدريب والمال، ولم تتردّد تلك الدول في حينها بالانضمام إلى الغرب الذي اتهم سورية بالإرهاب وبدعم الفدائيين، فكان الحصار الاقتصادي الدولي والعربي، في وقت كان الصراع على أشدّه في لبنان بين المقاومة وبين المرحّبين بالدبابات «الإسرائيلية» في بيروت، ولأنّ سورية كانت وما زالت الرقم الصعب في المنطقة، ولأنّ السوريين كانوا دائماً يجدون الطرق لكسر الطوق الاقتصادي أو السياسي المحاصر لهم، فكان لا بدّ من إعلان الحرب المباشرة عليهم حتى وإنْ كانت حرب خاسرة، ولكن كان على أصحاب مشروع الحقد على سورية من المحاولة.

تخلى العرب عن أنفسهم ولكن السوريين لم يتخلوا عن العرب، وفي أول شقاق عربي وقع بين الكويت والعراق سارع الجميع الى دمشق فعند أهل الشام العزم السياسي والإرادة لحماية الأشقاء من شرّ أنفسهم، واعترف من كان يدعم الحصار على سورية بأنه كان على خطأ، ولكن التجربة تعاد اليوم وتحت اسم دعم الديمقراطية و»الربيع العربي»!

فهل ينتظر هؤلاء أن يرفع السوريون الرايات البيضاء؟

قد تكون العودة إلى التاريخ مفيدة، ولكن الغرق فيه قد لا يفيد اليوم، فيكفي البحث في السنوات الخمس الأخيرة لنفهم ماذا يريد أعداء سورية منها. فعلى رأس أولوية مشروع العدوان على سورية أمن ما يسمى «إسرائيل»، حيث لم يتردّد أصدقاء الشعب السوري في الاشتراك مع الكيان الصهيوني في غرف العمليات التي تدير الحرب على سورية وشعبها في عمّان وفي تركيا، ولم يفكر الأصدقاء المزعومون للشعب السوري بعد تدخل «إسرائيل» المباشر في الحرب على سورية بإعلان بيان ولو على مستوى المندوبين في الجامعة العربية يدين هذا التدخل أو ينتقده ولو بشكل دبلوماسي مخفف، بل على العكس روّج إعلامهم للأمر وكأنه طبيعي وأن ما يسمّى «إسرائيل» تقوم بحماية حدودها.

وكان تدمير التراث السوري والتاريخ القديم لسورية من ضمن أهداف المشروع، فالتزام أعداء سورية الصمت أمام جرائم داعش وإغفال إعلامهم تلك الجرائم بحق الإنسان السوري أولا وبحق التراث الإنساني ثانياً، فكان من الطبيعي أن يحوّل هذا الإعلام أنظار متابعيه الى قضايا أخرى، وفي كثير من الأحيان كان هذا الإعلام هو من يصنع تلك القضايا ويروّجها على أنها حقائق وواقع، فصنعوا ما يسمّى «المرصد السوري المعارض لحقوق الإنسان» فكان ذلك المرصد لا يرى ولا يسمع بجرائم داعش والنصرة والتنظيمات الإرهابية الأخرى، بل كان يغطي تلك التنظيمات بأخباره عندما تتلقى ضربات موجعة من الجيش فيبدأ العويل والبكاء على المرتزقة.

ولو قدر لأهل الاعلام والاقتصاد حصر كميات الأخبار والأموال التي دفعت على الحرب النفسية التي شنّها أعداء سورية على الشعب السوري لعلم «العالم الحرّ» كم تحمّل هذا الشعب السوري خلال هذه السنوات الخمس، فكم مرة أسقطوا دمشق؟ وكم مرة شقوا الجيش السوري؟ وكم مرة قالوا نحن على أبواب الجامع الأموي في دمشق؟ ويعلم المتابعون أنّ حلم الصلاة في مسجد بني أمية الكبير تحوّل الى تصريحات محدّدة في المواعيد والمواقيت.

فمشروعهم كان وعلى لسانهم سينتهي في ستة أشهر، ثم مدّد لعام والعام انقضى وبقيت المواعيد تتجدّد، حتى انفرط عقد المناصرين لهم وانكشفت العيوب، فصارت أخبار صراعاتهم الداخلية على المال المخصّص لتدمير سورية أكثر بكثير من أخبار الانتصارات الوهمية التي أعلنوا عنها.

ليأتي فصل جديد من هذا العبث بتهديد شخص يقولون إنه وزير خارجية لشيء اسمه دولة! ويهدّد بدخول سورية عسكرياً ليثبت للعالم أن هؤلاء الناس لا يتعظون من التاريخ ولا يقدّرون الواقع ويعيشون حلم الانتصار عبر شاشات الإعلام فقط.

نعم إنهم السوريون، الذين لا يقيسون الانتصار بأمتار على الأرض يخسرونها هنا أو يكسبونها هناك… إنما يفهمون الانتصار على أنه حرية وكرامة ويفهمون الانتصار معركة النصر فيها صبر ساعة وهم قادرون على الصبر لعقود، فهذه الحرب التي فرضت عليهم هي واقع ولكن هزيمتهم هي الخيال، جرّبوا اختراق الجنوب مراراً، وجربوا أن يغزوا دمشق ولكن الأسوار ردّتهم، تلك الأسوار مبنية بإرادة الوطنيين السوريين الذين لم ولن يتردّدوا في السعي الى الشهادة والموت من أجل الوطن.

هذا ليس خطاباً جماهيرياً ولا شعارات نطلقها نحن السوريين في المناسبات، إنما هذه هي عقيدتنا، من يدعم المقاومة الشريفة لا يخون وطناً، ومن لا يعترف بالكيان الصهيوني لا يخون الوطن، ومن يصفح ويعفو لا يخون الوطن. فمفهوم الوطن لدى السوريين ليس أرضاً يعيشون عليها إنما هناك تاريخ وارث نضالي طويل جداً، فهل بعد هذا تنتظرون منا رفع الرايات البيضاء ما كنا لنفعلها وما فعلها من قبلنا أجدادنا، سيطول انتظاركم فاحجزوا أماكنكم في تلك الجزر النائية كما حجز من بدأ الحرب علينا مكاناً له فيها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى