«خطأ النادل» لزياد خداش: بين السهلَيْن الممتنعَيْن… اللغة والمعنى

مبروكة علي

«خطأ النادل»، كتاب جديد صدر عن «دار الأهلية» للكاتب الفلسطيني زياد خداش، وهو إضافة إلى المكتبة الفلسطينية، يحفل بنصوص سردية قصيرة في مجملها، تتوزع على مئة وثمانية وثلاثين نصّاً، تلتقي كلها عند نقطة واحدة وهي فلسطين، لتتفرع من جديد عبر الخطوط المكانية بين مدن فلسطين رام الله، عكا، غزة، يافا… والمخيم ذلك الوطن الساكن داخل الوطن، والخط السردي الذي اتخذه الكاتب، المراوح بين الغموض والبساطة، وكأنهُ يكتبُ مرثيتهُ، تغريبته التي هي التغريبة الفلسطينية المداومة.

نصوص خداش فيها مراوحة لذيذة بين السرد والشعر، هذه المراوحة ربما هي تقنية يتبعها زياد من أجل المحافظة على جمالية النص، من حيث توفير أبعاد التخيل المعتمدة من إيقاع وصور ومن حيث إمساكه بواقعه ورفعه إلى قلب اللغة، لغة مكتنزة بالكثير من الرمزية، رمزية تعود بالقارئ للأصول، تبحث معه في ما فقد وما لم يفقد بعد في محاولة للنهوض بذاكرة كاملة تسمى: فلسطين. هذه المراوحة التي لا تعترف بتجنيس معين للنص في الحقيقة قد تبدو وقحة، خصوصاً لمن لا يعترفون بالتمازج الكتابي، فالكتابة عند زياد تبدو «متاهة»، على رغم هذه البساطة اللغوية الظاهرة، وكذلك استهلاكه المقصود والمكثف لليومي وتوظيفه لتغدو الصورة الإبداعية متكاملة.

نصوص زياد خداش كلها تقريباً، إضافة إلى «خطأ النادل» وفية لليومي كثيراً، تلتقط واقعها ومن ثم تعيد صوغ عبر هذه المراوحة بين السرد والشعر، هذا الاقتراب من الحياة عبر التقاط التفاصيل الصغيرة من مشهد التلاميذ في الشارع إلى حادثة قديمة وقعت في حياته أو مشاهدة عابرة في مقهى ما، يبدو كما لو أنه إصرار خفي من زياد للقول: «أنا فلسطيني… وهذه حياتنا».

شخصية زياد ككاتب مثقف وقارئ جيد ونرجسي يحاول بشتى الطرق جعل قارئه يخرج بما أراد له أن يخرج تتغطى لتضيف بعدا آخر للنصوص، ليبدو القارئ أمام تحدّي اكتشاف هذا الكاتب واقتحام عوالمه اللغوية والنفسية والوجدانية. وهو يعطي قارئه ورقة وقلماً ويقول له ارسم طريق خروجك من هنا إن أردت. ولكن في الحقيقة هذا يبدو محض وهم، فزياد من يرسم لا القارئ، هذه اللعبة الخفية التي تتطلب قارئاً جيداً مقابل كاتب جيد تماماً كلعبة الشطرنج، تقنية يتبعها الخداش لتوفر له مساحات شاشعة من القول، على رغم التقصد المتعمد في اللغة، بما أراد لها أن تنقله طريقته لرسم جنونه وعبثه وفكره القريب الغريب أحياناً.

زياد يفرغ الأشياء من معناها الأصلي ليعيد ملأها بمعانٍ جديدة توفر للقارئ مساحات من الجمال اللغوي عبر جملة من التخيلات والمحسوسات، «انتما لستما أنتما، أنتما ضحتان مبلولتان لامرأتين خائفتين متنكرتين في زي شجرتين في حقل، أرغب في عائلة من شجر أيضاً».

هكذا يتحول معنى البقاء ليعانق قامات الأشجار الراسخة والمتشبثة بالأرض، معنى ينمو في قلب الشاعر ليمتد نحو اللغة ويتشكل وفق رمزية تحيل إلى فلسطين ولا شيء غير فلسطين. عبر كتاباته يحاول زياد خداش التشبث بهويته الفلسطينية بتفاصيلها المتعددة والكثيرة، يحاول ألا يجعل الأشياء تموت، يسقي ذاكرته وذاكرة الآخر كي لا ينسى، يبصق مرارة اللاوطن أو لنقل الوطن المنهوب. «ذهبت إلى البنك لغرض أخذ قرض صغير، سلمني الموظف طلبا لتعبئته، حين هممت بكتابة اسمي فوجئت بأني نسيته هناك، لم يصدقني الموظف حين قلت له إنني نسيت اسمي قرب موجة على شاطئ عكا أمس، ظنني مجنوناً».

يعيد الخداش للمكان ذاكرته وهويته التي هي من هويته هو، يرسم تفاصيله الداخلية والوجدانية سامحاً لقارئه بالغوص داخل متاهاته الكثيرة. خطأ النادل قد يكون خطأ الموت الذي لم يصب الشاعر في طريقه لحصد الأرواح!

كاتبة تونسية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى