من الرومانية إلى الفرنكوفونية الحروب تسقط دولاً وحضارات…
سعدالله الخليل
رغم تعدّد النظريات التي حاولت أن تقدّم تفسيراً لسقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية أواخر القرن الرابع، بعد ما يقارب 500 عام من التربع على عرش القوة في العالم، ثمة إجماع على الدور الكبير للفشل العسكري والاقتصادي في سقوطها، بالإضافة لصعود شق الإمبراطورية الشرقي في أواخر القرن الثالث على حساب النصف الغربي، حيث نمت ثروة القسطنطينية بالتزامن مع انحدار الشطر الغربي عقب الأزمة الاقتصادية، ومما سرع في سقوط روما، حيث تزامن تعرّضها للهجوم من القوى الخارجية مع أزمة مالية حادّة سبّبتها الحروب المستمرة والإسراف في الإنفاق اللذين أفرغا خزائن الإمبراطورية، ما دفعها إلى فرض الضرائب الجائرة، الأمر الذي وسّع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وافقد الامبراطورية الأيدي العاملة لاعتماد اقتصادها على العبيد الذين تستجلبهم الحملات العسكرية وغزو الشعوب.
ولأنّ التاريخ يعيد ذاته… فقد استقبل العالم تسعينيات القرن الماضي بسقوط الاتحاد السوفياتي بعد الفشل في الحفاظ على التوازن العسكري مع الولايات المتحدة، واليد الأميركية الخفية في إسقاطه، سواء عبر حروب أفغانستان والعراق، أو تهيئة واشنطن لجملة من العوامل الاقتصادية المواتية لتفريغ إمبراطورية الاتحاد السوفياتي من الداخل، وتغيّر موازين القوى الدولية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، فتفرّدت واشنطن بسياسات العالم، وألحقت دول الغرب بنسب متفاوتة بسياساتها، مع التركيز على التبعية الاقتصادية لدول أوروبا التي تباينت مفاعيل الدور الأميركي بين التقسيم والتبعية المعلنة، كحال فرنسا، فبعد عقود من التغنّي بالفرنكوفونية كنهج ثقافي يتجاوز تقاسم اللغة، إلى الاشتراك في القيم الإنسانية الفرنسية، فكانت فرنسا ديغول تتحوّل إلى شركة استثمارات سعودية يديرها البلاط السعودي في عهد شيراك وساركوزي، قبل أن تتحوّل إلى الحظيرة القطرية في عهد هولاند، بعد انضمام الدوحة عام 2012 إلى منظمة الدول الفرنكوفونية بصفة «دولة شريكة» من دون المرور بمرحلة «العضو المراقب»، وما أثار دخولها من جدل كونها ليست دولة فرنوكفونية، ولعل تفسير الرئيس الفرنسي بأنّ الفرنكوفونية لا تقتصر على اللغة، بل تعني احترام حقوق الإنسان، كذلك يثير من الجدل أضعاف ما أثارته الخطوة بحدّ ذاتها نظراً لسجل الدوحة الحافل بغياب أدنى معايير احترام حقوق الإنسان العالمية.
لم يجرؤ هولاند على الاعتراف بأنّ الانضمام غطاء لصفقة لا تمتّ إلى الحضارة والثقافة وحقوق الإنسان بصلة، بل مشروع يتجاوز مخاوف الأعضاء في المنظمة من رعاية قطرية لمدارس دينية ويصل إلى التورّط في مشاريع إسقاط دول تتجاوز حدود سورية وليبيا والعراق واليمن لتصل إلى مالي والجزائر.
تورّطت سياسة فرنسا بالمشاريع السعودية القطرية، ورهنت سياساتها لأموال الدولتين، وخاضت حروباً بالوكالة في ليبيا وسورية، ما أفقدها دورها القيادي وتحوّلت الدولة العظمى إلى تابع خليجي وهو ما قرأته موسكو جيداً وعملت على إظهاره واستثماره في الحراك السياسي المتعلق بسورية، فكانت الدعوة والموافقة المتأخرة لحضور اجتماع فيينا بعد ضمان موسكو مشاركة إيران ومصر، وبعد الحضور الهزيل لعشاء عمل باريس الذي أعلن وزير الخارجية الروسي عدم علمه به أو تلقيه أيّ دعوة.
تراجع الدور السياسي يرافقه تراجع اقتصادي، فقد حذر مركز البحوث الاقتصادية والأعمال فرنسا من تراجع اقتصادها بحلول عام 2016 ليحتلّ المرتبة التاسعة في قائمة الدول الاقتصادية العشرة الكبرى في العالم بدلاً من المركز الخامس الذي تحتله حالياً مقابل صعود الاقتصاد الروسي بحلول عام 2020 ليحتلّ المركز الرابع، من حيث الشكل تتشابه الظروف التي تواجهها باريس بما مرّت به روما قبل قرون، فهل يصيب الصعود السياسي والعسكري والاقتصادي الروسي الآتي من الشرق في مقتل المستقبل الفرنسي، وتردّ دمشق إلى باريس الصاع صاعين، فالأرض التي جعلت من فرنسا دولة غازية يسطر أبناؤها ملاحم نصرهم الحديث ويقرأون الفاتحة على مستقبل أحفاد غورو… من الرومانية إلى الفرنكوفونية الحروب تسقط دولاً وحضارات.
«توب نيوز»