المعارضة السورية بين الوطنية والتبعية
د. محمد أشرف البيومي
يعاتبني بعض المصريين لما يشعرون بأنه اهتمام زائد بالشأن السوري، وينتقدني بعض السوريين بما يعتبرونه تدخلاً في شؤون بلدهم. من الواضح أنّ الفئة الأولى لديها قصور شديد بأهمية مستقبل سورية علي مصر والأمن القومي المشترك، أما الفئة الثانية فموقفها يثير الدهشة العارمة فهم يقبلون تدخل عنان والابراهيمي والجبير وكيري وفورد وأوباما وهولاند وكاميرون وأردوغان، بل إنّ بعضهم ينادي، دون خجل، بالتدخل الأجنبي والحماية الدولية، والبعض الآخر يتعاون مع الكيان الصهيوني. أقول بالبلدي «اشمعنى»؟
على أية حال فإنّ مساهمتي ليست تدخلاً بل مشاركة واجبة في شأن يخصّ مباشرة كلّ مصري وسوري وعربي ملتزم، إنْ كنتم لا تعلمون! وحتى علي المستوى الفردي نجد أنّ حريقاً في منزل مجاور يستدعي فوراً مساعدة الجيران، ليس فقط حماية لهم، بل لدرء الخطر عن النفس، فما بال الأمر عندما يكون متعلقاً بمصالح شعب ومستقبل أمة!
وفي الوقت الذي تتعرّض فيه سورية لعدوان قوي الرجعية العربية والتكفيرية والصهيونية بقيادة الامبريالية العالمية فمن القصور الذهني الشديد والجهل العميق عدم التمسك بمنهج الرؤية الشاملة الواعية بالأبعاد الجغرافية والتاريخية والتنموية والثقافية في إطار علاقات القوى العالمية.
المعارضات الٍسياسية وأنواعها
ليس غريباً أن تكون هناك ألوان وأطياف مختلفة بين معارضين للسلطة في أيّ مكان وأيّ زمان، والمعارضة السورية الحالية لا تتميّز عن معارضات أخرى في هذا الأمر. وعلينا أن نتذكّر على سبيل المثال ما حدث إبان الغزو الثلاثي علي مصر عام 1956 عندما استعدّت عناصر معادية لنظام عبد الناصر لتسلّم الحكم، أما «الإخوان المسلمون» فلم يخف بعض عناصرهم فرحتهم بقرب وصول المنقذ الأجنبي. وهل ننسى عندما أعلن الشيخ الشعراوي صلاته شكراً لله على هزيمة 1967. عندما نقول إنّ هذا التصرفات متوقعة من قبل عناصر لا تكترث بالوطن وكرهها العميق لقيادات الدولة تؤدّي إلى انحرافها، إلا أنّ هذا لا يمنعنا من الشعور بالاشمئزاز العميق والاحتقار الشديد لأصحابها.
عندما نعطي أيّ معارضة صفة الوطنية أوغير الوطنية، لا بدّ إنْ أردنا الموضوعية أن نحدّد مقاييس واضحة وثابتة لما هو وطني أو غير وطني. إنّ أهمّ هذه المعايير أنه إذا واجه الوطن خطراً داهماً كعدوان خارجي أو إرهاب مدمّر، يتحتم على المعارضين الوطنيين تنحية كلّ الخلافات جانباً موقتاً حتي يزول الخطر، وعدم إعطاء أية فرصة للمعتدي أن يستغلّ أياً من هذه الخلافات لمصلحته. ولا يمكن اعتبار من يكسر أو يتخلى عن هذا المبدأ الراسخ شعبياً عبر العصور معارضاً وطنياً.
المعارضة التابعة
تعلّمنا أنّ أوقات الشدّة سواء على المستوى الشخصي أو الوطني تفرز ما هو أصيل وما هو زائف. فعندما بشرت قوى العدوان أنّ النظام السوري على وشك الانهيار سارعت شخصيات معارضة لإعلان مواقفها الانتهازية تحت رداء الحماس المخادع «للديمقراطية» و«الحرية» دون اكتراث بمصير الوطن أو الأهداف المدمّرة التي سعى المعتدون إلى تحقيقها. رأينا البعض ينادي بالحماية الدولية والبعض الآخر يشجع ضباط وجنود الجيش الوطني للتمرّد أو الانشقاق بل تبنّى البعض علماً استخدم أيام الانتداب الفرنسي بدلاً من علم الجمهورية العربية المتحدة. وقابل البعض السفير الأميركي فورد، رمز العدوان والتآمر. هل طلب الحماية من أطراف مارست العدوان والنهب والاحتلال على الأمة العربية مثل أميركا أو دول أوروبية عاتية في الاستعمار، حتى لو كانت مرتدية الثوب الدولي، وهيئة الأمم، هل يكون هذا عمل وطني؟ والمهم انّ هناك نماذج حديثة أمامنا لمثل هذا التدخل الأممي في العراق وليبيا ويوغسلافيا، والتخريب الهائل الذي لحق بهذه الدول وشعوبها.
ورغم تطوّر الأمور ووضوح طبيعة ما تتعرّض له سورية، ما زالت تطلّ علينا عبر التلفزيون نماذج مختلفة من المعارضة السورية، فمنهم من يردّد نفس مقولات ومصطلحات الأعداء مما يجعل من الصعوبة التمييز بين مواقفهم وبين مواقف العدو المتربّص. وهناك من يخفي منطلقاته العنصرية والمذهبية فيجيء خطابه متسماً بالبلاهة والعته. وهناك من يغيّر مواقفه فيفقد احترام الجميع لانتهازيته الفجة. مشهد جنوني، هزلي يشبه مسرحيات اللامعقول. عندما يقول أحدهم إنّ الحلّ السياسي لا بدّ أن يسبق الحلّ العسكري، وهو لا يملك أيّ تواجد في الواقع، فالأجدر به أن يقول صراحة «على السلطة أن تستسلم لإرهابيّي النصرة وأحرار الشام وجيش الفتح وداعش إلخ…»
تعويذة «بشار لازم يرحل»
لماذا يصرّ كيري وفورد وهولاند واردوغان وغيرهم على رحيل الاسد؟ وكما عبّر مواطن مصري في مقهى شعبي «مال أهلكم»، ما شأن هؤلاء؟ هل هم مواطنون سوريون؟ فإنّ هذا الأمر تحديداً يخصّ السوريين وحدهم، أصبحت هذه المقولة بمثابة تعويذة للقيادات الأميركية وتوابعها من العرب تردّد كلّ صباح ومساء قبل الأكل وبعده… «لا بدّ من رحيل الأسد»… «الأسد قاتل لشعبه»… «الأسد دكتاتور لا بدّ من إزاحته»… مقولات تردّد من دون وعي أو منطق كأيّ إعلان لمنتج أميركي! فكيف أنّ رحيل الاسد سيجلب الرخاء والنعيم للشعب السوري؟ وهل أصبحت سعادة الشعب السوري شغلكم الشاغل فجأة؟ إنّ إحدى ألاعيب قوى الهيمنة هي اختزال شعب ودولة ومؤسساتها وتاريخها في شخص ثم تصويره كأنه صاحب كلّ المصائب، وبذلك لا بدّ من إزاحته، وهذا يتطلب بالضرورة حملة لتسويق واسعة. أعطى هذا الأسلوب غطاء للتآمر والعدوان والاحتلال في أماكن عديدة مثل العراق وليبيا ورومانيا وبنما وكوبا… لم تستعمل تعويذة الرحيل في حالات أخرى مثل حكم آل سعود والكيان الصهيوني والسفاح بينوشيه في تشيلي وساليزار في البرتغال وغيرهم الكثيرون من أتباع الإمبريالية. لن ينجح هذا الأسلوب في الحالة السورية لأسباب موضوعية أهمّها صمود الشعب وجيشه الوطني.
الوجه المضيء والمشرّف للمعارضة الوطنية
هناك وجه آخر يستدعي الإشادة الكبيرة به، أصحابه معارضون ملتزمون بوطنيتهم رغم اختلافاتهم القوية مع النظام. هذه العناصر تعطي نموذجاً رائعاً لماهية المعارضة الوطنية. فالمبدأ الأساسي الذي يرقى إلى مستوى القانون هو: «عندما تقع الدولة ومؤسساتها ومستقبلها تحت تهديد مباشر من أعدائها يصطفّ المعارضون الوطنيون وراء النظام وتؤجل الخلافات من دون تناسيها لحماية الوطن». أعرف أحد هؤلاء المعارضين السوريين الذي قال: «أعارض النظام بشدة ولكني مستعدّ للتضحية بحياتي لحمايته»، إنّ مثل هذه الشخصيات هي التي تشكل حماية قوية للوطن كما أنها تمثل عنصراً أساسياً للصمود، وبعد ذلك الانتصار، يذكّرني هذا الموقف لمساجين سياسيين حبسهم عبد الناصر عندما بكوا بحرقة عند علمهم بوفاته.
من المنطقي إذاً أن نجد على الساحة السورية مواقف واضحة ومعلنة من قبل معارضين سوريين يقفون مع النظام في مواجهته للإرهاب وأعداء الامة كأولوية تمليها المخاطر المحدقة من دون تناسي أو التخلي عن طموحاتهم من أجل بناء مجتمع سوري أكثر عدلاً وحرية ونهضة تشمل تقدّماً علمياً وتكنولوجياً. لا نستبعد بل نتوقع مواقف جماعية معلنة في هذا الوقت تحديداً لأصحاب هذا التوجه. سيمثل هذا الموقف دعماً قوياً للجبهة المناوئة للإرهاب والقوى المساندة له. إنّ إعلان هذا الموقف المساند للدولة في هذا التوقيت تحديداً، ستكون له أهمية بالغة لعزل المعارضين الانتهازيين وإغلاق الباب على النهج الطائفي والمذهبي للحفاظ على سيادة الوطن واستقلالية قراراته.
أستاذ الكيمياء الفيزيائية في جامعة الإسكندرية وجامعة ولاية ميشغان سابقاً