رحلة شهيد
شاب في ربيع العمر سمع نداءً يقول له: «اترك كلّ شيء واتبعني». لم يدرك من أين أتاه ذلك الصوت، لكن جلّ ما عرفه أن هذا الصوت الحنون يحبّه ويعشقه ولديه استعداد كي يبيع الدنيا بما فيها ليبقى صاحبه بخير.
لبّى النداء وترك بيته وأرضه وعاف أهله ورحل. كان يعلم أنّ رحلته هذه تحمل من الشقاء ما يكفي، لكنه رحل.
لا يحمل معه سوى بعضٍ من الذكريات الجميلة. لم تكن كثيرة لكنها كافية لتكون زوّادة يومه حين يباغته جوع الحنين في ساحات القتال. فالصوت كان صوت وطنه الذي علا مستنجداً به ليقف في وجه الطغاة.
رحلته وبُعده عن بيته وأهله لم يكونا طويلين إذ عاد. لكن مرغماً لا مخيّراً. عاد حاملاً معه هذه المرة بين كفّيه بندقية. ممدّداً على الأكفّ معطّراً بدمه. متأملاً السماء بصفائها. مسترجعاً كل ما مرّ به وكأنه شريط سينمائي.
مرتبكاً من فاجعة اللقاء. وهو من كان يتلهّف للحظة لقائه مع من أحبّ. لكن كيف سيلتقي أمه؟ ماذا سيقول لها؟ أخته أخاه أباه وجيرانه. وسلمى حبيبته السمراء النقية. كان يخشى عليها من الفاجعة.
وصل إلى حدود بيته فرأى الشوارع المحيطة وقد زيّنت بالشرائط البيضاء، لاستقبال العريس المنتظر. اقترب من البيت وإذ بالزغاريد تعلو ممزوجة بآهات اللوعة وحرقة القلب. لا يُطفِئ لهيبها سيل من الدموع الزارفة حزناً وفرحاً. دخل البيت. اعتلاه الصمت لا يدري ما يقول ولمن يقول.
فدموع أمه أخجلته. كان يودّ لو يستطيع أن يمسح دموعها التي غسلت صدره حين ارتمت عليه وكأنها تريد سماع صوت روحه لتحدّثه معاتبة. وأخته التي أمسكت يديه تقبلهما بصمت. وأبوه الذي جلس عند قدميه وراح يحدّثه بحرقة عن سنوات مضت حين كان صغيراً يداعبه وأخيه.
جال بعينيه يبحث عن سلمى باللهفة ذاتها عندما كان يبحث عنها قبلاً. فوجدها تجلس في زاوية البيت تتأمّله بصمت تجول بعينيها على جسده الممدّد. لكن هذه المرّة كان الحزن يلفّ وجنتيها.
ساد صمت مطبق إلى أن أتت ساعة رحيله الأبديّ عن كل أحبائه. الذين كسروا الصمت بأصوات العويل والأهازيج والرايات وحبّات الأرزّ والورود.
في تلك اللحظة، كان يودّ لو أنه استطاع أن يحضنهم جميعاً ويخفّف من حزنهم. فخاطبهم بصوت ملأ الدنيا وكأنه غناء طير مهاجر: «نعم، رحلت عنكم جسداً لكنني باقٍ بروحي معكم. فأنا الشهيد. أنا العريس من دون عروس. أنا من ترك كل شيء وتبع وطنه».
ربى الشلهوب