من جنيف إلى فيينا بين إيران والسعودية
ناصر قنديل
– يخطئ كثيراً قراء لقاءات فيينا الخاصة بالحلّ السياسي في سورية عندما يتلهّون بقشرة المباحثات التي أراد اللاعبون الكبار طرحها في التداول، وهي فوق قدرة الذين جرت دعوتهم للمشاركة في اللقاء، فهل يتخيّل أحد أنّ دعوة دول مثل إيطاليا والإمارات العربية المتحدة وقطر والأردن ولبنان والعراق سوف تجعل اللقاء منتدى للبحث في مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد، الذي يشكل أقوى الرؤساء والملوك والقادة العرب، بعد صموده خمس سنوات في وجه أعتى الحروب وإسقاطه لمشروع المئة دولة ومئة جهاز مخابرات ومئة فتوى ومئة مليار دولار. والتذكير ببعض الدول المشاركة التي لا حول ولا طول لها في قرار بهذا الحجم ليس انتقاصاً منها، بل للقول إنّ المؤتمرات واختصاصاتها تكون على قياس أصغرها وأقلها شأناً، فأميركا وروسيا في المؤتمر متساويتان بالقدرة على المناقشة وموضوعاتها مع لبنان وقطر والأردن، ومثلهما الباقون.
– سعت السعودية منذ بدء الحرب على سورية أن تكون هي الطرف المقرّر الذي يرسم مستقبل سورية ويموّل ويحشد القوى، ويسلس له المشاركون في حلف الحرب المسمّى آنذاك «أصدقاء سورية»، وتغاضت عن دور قطر لهذا الاعتبار يوم كان لـ«الجزيرة» فعل وحول وطول، وكان «الإخوان المسلمون» يحكمون مصر، ولأجل ذلك أيضاً وظفت السعودية مالاً في تركيا وفي فرنسا وفي اللوبيات «الإسرائيلية» المؤثرة في أميركا، ورمت بثقلها بالتعاون مع «إسرائيل» لإحباط مساعي التفاهم النووي مع إيران، على الأقلّ قبل حسم السيطرة على سورية. ولما جاءت الأساطيل الأميركية وعادت من دون حرب على سورية كان الغضب السعودي والحَرَد بالامتناع عن قبول عضوية عابرة في مجلس الأمن الدولي والخطاب العالي السقف ضدّ واشنطن بلسان سعود الفيصل.
– وصلت السعودية إلى التسليم بعد ذلك بأنّ عليها كي تُطاع أن تطلب المستطاع، فراهنت على ثنائية حربها في اليمن، ومغرياتها وتهديداتها لروسيا، وكانت النتيجة وبالاً مرتين، وخسرت بدل الرهان الرهانين، وصارت طرفة للتداول والتندّر كلمات المصدر السعودي عن فذلكة قبول اللقاء الذي جمع وزير الدفاع السعودي محمد بن سلمان برئيس مجلس الأمن الوطني السوري اللواء علي المملوك، بوصف اللقاء بالفرصة لفك التحالف الروسي السوري وإذ صارت القوات الروسية في حالة حرب جنباً إلى جنب مع الجيش السوري، وصارت كلمات الرئيس الروسي عن الرئيس السوري محفوظة عن ظهر قلب، وقبلت السعودية شراكة تركية معها في فيينا الأول، ثم اكتشفت أنّ حشد حلفائها في التوازنات الجديدة لتمييع الشراكة الإيرانية التي كان منعها قضية السعودية في مؤتمري جنيف، تمييعاً لحجم السعودية نفسها، التي تدرك اليوم أنّ حجمها في معادلة فيينا من حجم أيّ دولة مشاركة، وأنّ الحشد التمييعي لمنع تحوّل فيينا إلى ملاقاة الصيغة الروسية المقترحة بحصر اللقاء بثنائي روسي أميركي دولياً ورباعي إقليمي تركي سعودي إيراني مصري، جعل الحجم السعودي أصغر لكنه لم يمنع تحوّل فيينا إلى مناسبة احتفالية بالشراكة الإيرانية.
– حدث فيينا قياساً بجنيف هو حضور إيران، والصحافة الغربية لا ترى في فيينا حدثاً إلا الشراكة الإيرانية، اعترافاً بها كلاعب لا يمكن تفاديه على مسرح الشرق الأوسط. والحدث الثاني هو حضور مصر من خارج النادي التقليدي للذين شاركوا في لقاءات باريس كحلفاء للسعودية، والثنائي الإيراني المصري قبلة الأنظار كمشروع نواة لنظام إقليمي، بعد ظهور مصر كدولة وحيدة بين دول الأغلبيات الإسلامية الموازية لإيران، تحمل نقيضاً ثقافياً لنمو التطرف، وتظهر قدرة على اتخاذ قرارات تتصل بأمنها القومي بحسابات موضوعية عقلانية لا مكان للأوهام التركية ولا للجنون السعودي فيها.
– يظهر ثلاثي روسي مصري إيراني سيصوغ المعادلات، مقابل ثلاثي الجنون السعودي التركي الفرنسي، وثلاثي الوسط البريطاني الإماراتي الإيطالي، وثلاثي المشجّعين العراقي اللبناني الأردني، وتقف قطر يتيمة تندب حظها، بينما أميركا تتفرّج في الكواليس تستعدّ للدور الجديد وفهم المعادلات الجديدة وشعارها «رابح رابح»، أو خسارة ما ليس من الرأسمال ليس خسارة، لتكون فيينا فرصة للتعرّف على الأحجام الجديدة للدول التي سينهض على أكتافها نظام إقليمي جديد، قبل أن تكون فرصة للحلّ السياسي في سورية، حلّ يعرف الجميع أنّ صياغته تتمّ في الميدان، وأنّ ملهاة التفاوض الراهن تشغيل للعاطلين عن العمل حتى تقول الوقائع ما يجب أن يسمعوه جيداً وما يمكن أن يُبنى عليه.