عن الإئتمان… وأشياء أخرى
لمياء عاصي
تطور الاقتصاد العالمي بشكل كبير خلال المئة عام الأخيرة وحقق قفزات كبيرة في كلّ القطاعات، وخصوصاً الصناعة والزراعة والخدمات وكان الحامل الأكبر لهذا التقدّم هو التكنولوجيا وثورة المعلومات والاتصالات، التي أضافت الكثير من النشاطات والمنتجات إلى الاقتصاديات المحلية والعالمية، وغيّرت منظومات الإنتاج والتسويق والتوزيع بشكل كامل، بالطبع ترافق هذا التقدّم التقني الاقتصادي الهائل بتطوّر ممائل في القطاع المصرفي وإدارة حركة الأموال أو السياسات النقدية، ومن خلال نظم الائتمان استطاعت المصارف أن تزيد سرعة حركة رؤوس الأموال وأن تسهم كثيراً في الحياة الاقتصادية.
وقد لخص الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر في كتابه نظرية التنمية الاقتصادية «the theory of economic development « الذي أصدره في بداية القرن العشرين، أهمّ متطلبات التنمية الاقتصادية وهي إمكانية الحصول على المال الإئتمان بكلفة رخيصة وبطرق ممكنة.
لا يمكن الحديث عن نمو اقتصادي بدون وجود نظام مصرفي قوي يقوم بتسريع وتيرة حركة العمليات الاقتصادية ويسهّل إجراء العمليات التجارية والصناعية من خلال تقديم السيولة المالية اللازمة عن طريق الخدمات الائتمانية التي باتت تباع على شكل منتجات لها مواصفات وأسعار معينة، ولأنها تموّل معظم الأصول العقارية والآلات الصناعية ووسائل النقل باتت تشكل البنوك الدعامة الرئيسية للاقتصاد، كما يقاس تطور البيئة الاستثمارية والاقتصادية بإمكانية وسهولة الوصول إلى رأس المال.
في سياق الإصلاح الاقتصادي الهام الذي حصل في القطاع المصرفي في سورية مع بداية الألفية الثالثة تمّ السماح بدخول البنوك الخاصة إلى القطاع المصرفي الذي كان محصوراً لعقود خلت بالمصارف العامة المملوكة للدولة فقط، نستطيع القول نظرياً، إنّ دخول منافسين جدد إلى القطاع كان يجب ان يؤدّي إلى تطوره، ولكن واقعياً، لم يحصل تطوّر كبير في المصارف العامة بسبب نقاط الضعف البنيوية في هيكليتها المؤسساتية والبيئة التشريعية، والتي لم تتمكّن من تجاوزها فعلياً، واليوم تواجه مشاكل جدية لعلّ أولها الانخفاض الشديد في القيمة الفعلية لموجودات هذه المصارف، ثم الكثير من القروض المتعثرة والضمانات الوهمية للقروض، حيث أنّ الضمانات في بعض القروض لا تكفي لسداد 10 من المبالغ المستحقة، إضافة إلى أنّ عملية الحصول على القروض في الكثير من الأحيان يغلّفها الكثير من الفساد.
في معظم الدول التي تملك نظاماً مصرفياً متطوراً، تمّ تأسيس «مكتب الإئتمان الوطني»، ليكون بمثابة صلة الوصل بين جميع الجهات المقرضة في البلد، هذا المكتب الذي ترتبط به كلّ المصارف والمؤسسات التي تمنح قروضاً أو سلعاً بطريقة ائتمانية، لديه تفاصيل الحالة الائتمانية لكلّ شخص، وكلّ المعلومات المتعلقة بالقروض التي حصل عليها وسداده للقروض والالتزامات المتوجبة عليه والدخول الشهرية أو السنوية التي يحصل عليها، وما إذا سبق له أن تعثر أو امتنع عن السداد، أو كانت لديه أي مشكلة، كما تتضمّن معلومات عن الضمانات العقارية المعطاة لكلّ من هذه البنوك، وبالطبع، لا يمكن لأيّ شخص الحصول على قرض من أيّ مصرف ما لم يحصل على ورقة من مكتب الائتمان الوطني، مثل هذه الخدمة من شأنها أن تحمي المصارف العامة والخاصة من الوقوع ضحية شخص أو مؤسسة تقترض مبالغ تفوق قدرتها على السداد، ومن أكثر من مصرف، ثم تعلن إفلاسها أو تعاني مشاكل فلا تتمكن من السداد مستقبلاً، كلنا نتذكر، المصرف الصناعي وتعثره في نهاية التسعينات وبداية الألفية الثالثة، كلّ ما حصل هو أنّ الجهات المعنية قامت بتغيير الإدارة وبدلاً عن فلان جاءت بعلان وبقيت الأنظمة على ما هي عليه، فتكرّرت نفس القصص والإخفاقات، فلم تساهم القروض في تحسين الصناعة، وهذا كان الهدف الأساسي لتأسيس البنك الصناعي، ولم يتوقف مسلسل الاقتراض والتعثر في السداد، وكما هو معروف أنّ الكثير من الأموال ذهبت إلى جيوب بعض الفاسدين من الإدارات المتعاقبة واللجان التي كانت تقوم بتقييم الرهون العقارية ومدى حاجة المقترض الصناعي إلى قرضه، وكذلك المصرف العقاري الذي لعب دوراً هاماً في تأمين سكن بالتعاون مع الجمعيات التعاونية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، لديه اليوم قضايا تعثر كثيرة لا أحد يستطيع التكهّن بمصيرها. السؤال الآن، ماذا كانت ستكون كلفة تأسيس مكتب للائتمان في سورية؟ مهما كانت الكلفة فإنها لن تتجاوز نسبة ضئيلة جداً من الخسائر التي حدثت… وما زالت تحدث جراء حالات الاحتيال والفساد، المكتب الائتماني سيكون فعّالاً، خصوصاً إذا ما زوّد بالتطبيقات الحاسوبية المناسبة والربط الشبكي مع البنوك والمؤسسات المالية الأخرى، ودائماً الحلول التكنولوجية تكون أبسط وأرخص الحلول وأكثرها فعالية.
أذكر أنه حدث أكثر من مرة، تزوير شيكات صادرة عن الخزينة المركزية… وتمّ صرفها من البنك المركزي، أثيرت المشكلة وعقد اجتماع في وزارة المالية… وكانت الحلول بمجملها تدور حول تعقيد شكل الشيك الصادر عن الخزينة المركزية… بينما اقترح لهم المسؤولين عن النظام المعلوماتي، ربط البنك المركزي بالخزينة المركزية بكابل وحاسوب… وبرنامج صغير جداً، وانتهت المشكلة، ولم يعد في إمكان أيّ أحد أن يزوّر أيّ شيك أو معلومة صادرة عن الخزينة المركزية من دون الحاجة إلى المزيد من الإجراءات التي لا تحلّ المشكلة فعلياً.
نظامنا المصرفي وخصوصاً القطاع العام المملوك للدولة، يعاني عدة مشاكل جوهرية…
أولاً: لم تستطع هذه المصارف تجاوز ضعف الاعتماد على التكنولوجيا مما قلل من كفاءة العمليات في هذه البنوك وزاد وعمق مشاكلها.
ثانياً: بقيت هذه المصارف خاضعة لعدد من القوانين التي تحكم سائر الجهات العامة مثل القانون رقم 2 الذي يحكم عمل المؤسسات المملوكة للدولة وهو قانون مرتبك وفيه تدخل كبير من جهات متعدّدة في عمل المصارف التي تحتاج إلى الكثير من المرونة والكفاءة التي تتجاوز ما هو موجود في القطاعات الإدارية العادية وغير ذلك.
ثالثاً: تبعية المصارف لعدد من الجهات المختلفة، فهي تتبع المصرف المركزي بما يخصّ القضايا الفنية وسعر الفائدة والخصم وغيرها من التفاصيل المالية، ومن النواحي الإدارية تتبع لوزارة المالية، وقبل ذلك كانت تتبع وزارة الاقتصاد دون أن يعرف أحد ما هي القيمة المضافة في تبعية المصارف لجهة دون أخرى، ويبدو أنّ الملكية العامة لهذه المصارف جعلتها تشعر بأنها في مأمن من مخاطر المنافسة والمصاعب الأخرى، فلم تتطور البنية المؤسساتية او القانونية فيها أو آليات عملها، فبقيت تعاني كما الكثير من مؤسسات القطاع العام، والدليل على ضعف القطاع المصرفي في سورية عدم تمكن هذه المصارف من التعامل باحترافية في سنوات الأزمة التي عصفت بسورية، وخصوصاً في ما يتعلق بسعر الفائدة والتحوّط، حيث أنّ سعر الفائدة لم يساير بشكل حقيقي سعر الصرف والتوقعات حوله، بل أنّ التوقع بانخفاض سعر العملة الوطنية أدّى إلى انخفاض الإيداعات بشكل كبير وانخفاض القيمة الحقيقية لموجودات المصارف وبسبب عدم حصول عمليات تحوّط واضحة فقد مُنيت البلد بخسائر كبيرة في الثروة الوطنية.
أخيراً، إنّ أيّ تطوير حقيقي للمصارف العامة ورفع كفاءة الإدارة لا يمكن أن تتمّ إلا من خلال تطوير البيئة المؤسساتية وتحديث القوانين التي تحكم عمل هذه المصارف، ومن ثم تطبيق الحلول الحاسوبية المتطورة والربط الشبكي وإحداث مكتب للإئتمان، ولا بدّ من العودة إلى ما قاله شومبيتر حيث لخص المسألة التنموية بأنها الحصول على المال بطريقة ممكنة وبكلفة رخيصة.