الحلقات المفرغة في بيان فيينا 1 وإعادة إنتاج الصراع!!
سومر صالح
لم يستفق المحور المعادي لسورية من صدمة الدخول الروسي إلى سورية في أسبوعه الأول حتى دخل في غيبوبة الصدمة الثانية باستخدام صواريخ «كاليبر» الروسية في مطلع الأسبوع الثاني من الغارات في رسائل موجهة إلى دول بعينها مفادها أن لا حدود في استخدام القوة العسكرية الروسية لفرض وقائع الانتصار السوري على الأرض، ولم تتأخر الصدمة الثالثة بتكثيف العمليات الجوية والأرضية في سورية، وتحت وقع الانتصارات الميدانية المتتالية للجيش العربي السوري بغطاء جوي ولوجستي روسي، وخصوصاً في ريفي حلب ودرعا، بدا أنّ المشروع الإقليمي التركي السعودي بغطاء أميركي قاب قوسين أو أدنى من السقوط في سورية، وسقوط المشروع في سورية بهذه الطريقة يعني حكماً ارتداده إلى دوله المصدّرة خصوصاً تركيا والأردن، هذا التصعيد الميداني ولّد قناعة دولية أصبحت راسخة بأنّ القيادة الروسية جادّة في تغيير قواعد ونتائج الاشتباك في سورية أفقياً من حيث الانتشار وعمودياً من حيث النتائج، وفي ظلّ انعدام الخيارات العسكرية لدول المحور التركي الخليجي على الأرض السورية في مواجهة روسيا، وعدم رغبة إدارة اوباما بتصعيد جيبوليتكي مع روسيا انطلاقاً من الأزمة السورية، وعدم رغبة روسيا أيضاً بتوسيع إطار المواجهة مع الدول الداعمة للإرهاب والتي على ما يبدو اتخذت خيارات تصعيدية مجهولة العواقب في مواجهة روسيا في سورية والبلطيق ولاحقاً القوقاز، أتى مؤتمر فيينا الرباعي بتاريخ 23/10/2015، لبحث مخارج المأزق في سورية، هذا المأزق الذي فرضه محور أعداء سورية تجاوز في طبيعته حدود المخطط له، وهو إسقاط الدولة السورية وفرض الإرادة «الاخوانية» على سورية، ليصبح كلّ تفصيل في الحلّ السوري يعكس توازناً إقليمياً ودولياً، ستحدّد بموجبه توازنات القوى في منطقة الشرق الأوسط، والتي ستضاف إلى توازنات جيو إستراتيجية في بحر البلطيق بين روسيا وحلف الأطلسي، وتوازنات في بحر الصين الجنوبي بين الولايات المتحدة والصين… لتشكل بمجموعها ترتيباً جديداً للنسق الدولي إنْ بقيت الأمور من دون إشعال فتيل حروب جديدة، من هنا أتت أهمية اجتماعات فيينا المكثفة الثلاثية والرباعية ومن ثمّ الموسعة، فعلى ما يبدو فإنّ الفاعلِين الدوليين اقتنعوا بضرورة ترتيب النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط منعاً من تدهور الأمور عسكرياً وخصوصاً بعد نبرة الحلّ العسكري السعودي والقطري كلّ على حدة والردّ الإيراني الذي لم يتأخر بقدرة المواجهة وعدم التلكؤ بها، فتمت دعوة جميع الأطراف الإقليمية لبحث التسوية التاريخية في سورية بما فيها دعوة إيران ومصر، فأهمية المؤتمر إذاً هو في انعقاده لا في مضمونه، فالمضمون أتى سردياً ومكرّراً وفضفاضاً، بل وعلى العكس حمل في طياته معضلات تشكّل بحيثياتها جوهر الصراع على سورية، وبالتالي ترتيبات الحلّ هي أهمّ من تفاصيل الحلّ ذاته، فالترتيبات تعكس بدقة حجم التوازنات الإقليمية والدولية المطلوب ضبطها بين روسيا والولايات المتحدة، ومن هنا جاء القرار الروسي الأميركي أولاً بإشراك كلّ القوى الفاعلة في الشرق الأوسط، وثانياً بأن تكون فيينا عاصمة النمسا الدولة المحايدة دولياً والمكرّسة قانونياً هي أرض اللقاءات والمشاورات لوضع اللبنات الأولى للنظام الجديد في الشرق الأوسط، وبعد مفاوضات حامية كلامياً بين المشتركين، أتى البيان الختامي صارخاً في تناقضاته، ولا نبالغ إذا قلنا إنّ كلّ بند بين البنود المعلنة يحتاج إلى اتفاقية مشتركة لتوضيح المعنى، وهذا أمر قد يعتبره البعض طبيعياً في أول اجتماع جدّي وحقيقي لحلّ الأزمة السورية، وأنه قاعدة للحلّ يُبنى عليها، ولكن الأمر الغير متوقع أن يحمل البيان معضلات غير قابلة للتجاوز، وتمثل بذاتها جوهر الصراع على سورية ومنتجة بذلك حلقات مفرغة ستستمرّ وتعيد إنتاج نفسها، وتعيد الصراع بين القوى الدولية إلى قبيل مؤتمر جنيف 1 في العام 2012، فالمعضلة الأولى هي البند المتعلق بدعوة الأطراف السورية من ممثلي الحكومة والمعارضة السورية من أجل عملية سياسية تفضي إلى حكومة ذات صدقية، كاملة الصلاحيات… ويلحقها تعديل بالدستور وانتخابات على أساس بيان جنيف 1 والقرار 2118، والمعضلة هنا هي شرعية تلك الحكومة، فالاتفاق لا يمثل بذاته مصدراً للشرعية، لأنّ الشرعية مصدرها الشعب، ومكرّسة في الدستور السوري وفق تراتبية معينة خوّلها الدستور لمنصب رئيس الجمهورية، ومسؤولة أمامه بمقتضى المادة 97 من الدستور، وبالتالي هي عودة لنقطة الصفر في المفاوضات، باعتبار أنّ الرئيس الأسد هو من يُسمّي رئيس الحكومة، وهي مسؤولة أمامه، وهو جوهر الخلاف في بيان جينف1، ولو أراد أحد الالتفاف على هذه النقطة وطلب تعديل الدستور لتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية الدستورية بخصوص تشكيل الحكومة، فالأمر سيلاقي موقفاً حازماً من روسيا والدولة السورية لأنها ستمسّ بجوهر النظام السياسي في سورية، وعلى افتراض إعادة ترتيب الأولويات بتعديل الدستور أولاً ومن ثم تشكيل الحكومة ثم إجراء الانتخابات الرئاسية، فالأمر أيضاً سيتمّ بإشراف الحكومة الحالية وبمقتضى الدستور الحالي، إذا لم نقل أنه سيسقط بفعل الإرادة الشعبية السورية المؤيدة للدولة الوطنية السورية، وبالتالي هي تكريس لشرعية الدولة السورية وهو ما لا يريده المتآمرون… وفي كلا الحالتين هي حالة أشبه بحلقات مفرغة لا يمكن الخروج منها، وقد يقول قائل إنّ التوافق الدولي يمثل غطاء لتجاوز الدستور الحالي، ولكن هذا الكلام مردود على أصحابه باعتباره نكسة خطيرة تعيد إنتاج نظام الوصاية الدولي على الشعوب والدول، أما المعضلة الثانية هي تلك المتعلقة بهزيمة الإرهاب في سورية فـ«داعش» والمنظمات الإرهابية الأخرى المصنفة بواسطة مجلس الأمن وآخرون يتفق عليهم الحاضرون، يجب أن يُهزموا ، فمنذ بداية الأزمة السورية وجوهر الخلاف هو تعريف الإرهاب وتصنيفه، فيأتي البيان متجاهلاً هذا الخلاف الجوهري ويشير إلى آخرين يتفق عليهم المجتمعون ، فالجميع يدرك أنّ كلّ طرف مسلح على الأرض له داعموه الإقليميون، وأنّ القرار الدولي 2178 يجرّم من يدعم الإرهاب، لذلك فمن غير المتوقع أن يتمّ التوافق على طرف بأنه فصيل إرهابي وبالتالي سيرسل داعموه إلى مقصلة محكمة الجنايات الدولية، والجميع هنا متورّط من محور أعداء سورية، وبالتالي هنا العودة أيضاً إلى نقطة الصفر في المفاوضات من حيث تعريف «الإرهاب والاعتدال»، وبالانتقال إلى المعضلة الثالثة وهي المتعلقة بوقف إطلاق النار فالبيان أشار إلى أنّ الحاضرين مع الأمم المتحدة سيبحثون عن أساليب لضمان تحقيق وقف إطلاق نار عام ليعلن في يوم محدد بالتوازي مع العملية السياسية المتجددة ، الكلام هنا واضح أنّ شرط مباشرة العملية السياسية هو وقف إطلاق النار، والسؤال البسيط المطروح من يملك قدرة فرض وقف إطلاق النار على التنظيمات الإرهابية، والجواب بكلّ تأكيد أن لا أحد يملك تلك القدرة أو على الأقلّ يملك جرأة إعلانها، إذاً سيبقى الجيش العربي السوري مكملاً مهماته القتالية الوطنية في دحر الإرهاب، وأمام هذا الواقع كل الفصائل التي ستعلن وقف إطلاق النار ضدّ الحكومة ولن تحارب «داعش» والتنظيمات الإرهابية الأخرى هي خائنة لكلّ الشعب السوري لأنّ الإرهاب لا يميّز بين معارضة وموالاة، والإرهاب والخيانة الوطنية وجهان لعملة واحدة، وإذا ما قرّرت تلك الفصائل إعلان الحرب على حلفاء الأمس فهذا يعني أمرين… أولاً فشل مساعي وقف إطلاق النار، والثاني تمدّد تلك الفصائل إلى مناطق جديدة وفرض وقائع ميدانية لن تقبل بها الدولة الوطنية السورية، وبالتالي هي عودة الصراع مجدداً على من يملك الأرض بقوة السلاح غير الشرعي وبالنهاية كله إرهاب وإنْ لبس ثوباً غير اسلامويّ هذه المرة.
وبين تلك المعضلات الثلاث تلوح في الأفق إرهاصات فضيحة أخلاقية تنبثق من ثنايا بيان فيينا 1 تتجاوز في طبيعتها جرائم الحرب لترقى إلى جريمة ضدّ الإنسانية جمعاء، فإذا كان المجتمعون يملكون قدرة هزيمة الإرهاب كما يدّعون، وكانت الأمم المتحدة تمتلك قدرة فرض وقف شامل لإطلاق النار، فلماذا هذا التلكؤ إلى الآن، وهل الصراعات بداعي السياسة تبيح استمرار إراقة الدماء، فدماء الشعب السوري كلها بأعناق المتخاذلين، وأخيراً هناك بعض السذّج من قادة العالم ممن أوهمتهم البروباغندا الصهيونية بإمكانية التغير في سورية استناداً إلى إشراك النازحين في الانتخابات وكأنهم ضدّ الدولة السورية، فهم واهمون، لأن الحقيقة أنهم هجروا بفعل سياسات «داعش» وأخواتها لا بفعل سياسات الحكومة، والشعب السوري في المغترب لم ولن يبخل على دولته بصوته الانتخابي في أقسى مراحل الصراع وأشدّها على الدولة السورية وهو ما برهنت عليه طوابير المغتربين من عمق الانتماء للوطن والإيمان بقدرة الجيش العربي السوري عل سحق الإرهاب، وهو ما سيتجدّد في كلّ استحقاق انتخابي…