الثورة… الفهم والإشكالية
عصام الحسيني
«إني لن أرضى بأن أعيش تحت سقف أبي، سوف أستقلّ بواقع جديد، سوف أترك الأرض وأذهب إلى المدينة، سوف أعيش الحرية، سوف أثور».
إنّ فكرة الاستقلال والحرية، عُرفت في التاريخ، مع تكوّن العائلة الأولى الضيّقة، وكانت تراود الأبناء في التخلص من وصاية الآباء، حتى ولو كانت وصاية الآباء، هي الحاضنة الاجتماعية الأولى، الطبيعية والضرورية.
ولما كان المجتمع، مزيجاً من الحاضنات الاجتماعية المتطورة والمتلاحقة، بأطر مختلفة، كان دائماً هذا الإنسان يسعى إلى تحقيق ذاته، عبر الشعور بانتفاء حاجته إلى الآخر، وهو مفهوم نفسي، أكثر مما هو مفهوم واقعي، على اعتبار أننا في مجتمع، الكلّ يحتاج إلى الكلّ.
إنّ هذا المبدأ، سمح بتطور المجتمع، وانتقاله من حالة الارتباط العضوي، إلى مرحلة الانعتاق والانطلاق، وصولاً إلى التعدّدية الفكرية والثقافية والحضارية، ضمن مفهوم التكامل والتلاقي، وليس بمفهوم التصادم والتصارع.
وتطوّرت حاجة الإنسان السياسي، في حاجته إلى الحرية والاستقلال، الفردية والجماعية، وكانت تمرّ بحالات متعدّدة، في التعبير عن الرأي وعن المعتقد، في حركات اعتراضية، وصولاً إلى ترجمة هذه الاعتراضات إلى أعمال عنفيه، متعدّدة الأشكال والعناوين والأسماء.
أسماء ملتبسة…
وكانت تأخذ هذه الاعتراضات، أسماء ملتبسة في الفهم والتفسير، لطبيعة تداخلها وامتزاجها، وصعوبة تفسيرها الدقيق والمحدّد، ولعدم معرفة القواعد المنشئة لها، والمعيار المؤسّس للمفاهيم.
فمن مفهوم الحرية، إلى مفهوم الاستقلال السياسي والاقتصادي، إلى مفهوم التحرّر، إلى مفهوم الثورة، إلى مفهوم الانقلاب، إلى مفهوم الحرب الأهلية، إلى مفهوم الشغب والعنف، إلى مفهوم الإرهاب، إلى مفاهيم وتسميات أخرى، ظهر الالتباس فيها وحولها، لعدم التمييز في المعيار القانوني، وفي الفهم الاجتماعي، وفي التحليل السياسي.
وإنّ كان العمل العنفي، القاسم المشترك لهذه الظواهر الاجتماعية، غير أنّ جوهر هذا الحراك، يختلف في أكثر الحالات، اختلافاً في الأسباب الدافعة، واختلافاً في النتائج، واختلافاً في طبيعة القواعد الاجتماعية، المنشئة والحاضنة والداعمة لهذا الحراك.
من هنا كانت ضرورة دراسة هذه الظاهرة الإنسانية، لفهم حقيقة ما يدور في عالمنا المعاصر، ليس لأنها حاجة تثقفية فقط، إنما لأنها جزء من حياتنا اليومية، جزء من العيش والفهم والإدراك والسلوك.
لقد وردت مفردة «ثورة»، كإطار عام شامل، لمعظم أشكال الحركات العنفية، الشعبية المدنية، أو العسكرية، على اعتبار أنها مفردة تختزن وتعبّر عن طبيعة حراك شعبي أو جماهيري أو سلطوي، عنفي الطابع، يأتي رداً على ممارسات قهرية، بحق طبقة اجتماعية معينة، مما يؤدّي إلى تغيير في الوضع القائم.
اذاً في البعد الفلسفي للثورة، هي فعل وإرادة «التغيير»، وهذا ما عُبّرَ عنه بالتعريف التالي:
«الثورة هي تغيير جذري، عميق وعام، للبنى الاجتماعية لبلد ما أو لمجتمع ما، يترافق عموماً بحركات شعبية هامة، وينطوي غالباً على استعمال العنف».
وفي النظرية الماركسية، تعتبر الثورة، النمط الطبيعي في الاستيلاء على السلطة من قبل البروليتاريا، ومع ذلك، هناك بعض الأحزاب الشيوعية الغربية، تسلّم بإمكانية الوصول إلى السلطة بدون ثورة.
وبالتوسع في المفهوم، تدلّ كلمة «الثورة»، على كلّ تحوّل هامّ في ميدان محدّد مثل الثورة الصناعية، الثورة الخضراء، الثورة الاجتماعية، ثورة الاتصالات، ثورة ثقافية، ثورة مضادّة، وغيرها .
إنّ البعد الفلسفي للثورة، يختزن «التغيير» في أُسس عميقة وجوهرية، في البنى الاجتماعية لمجتمع ما، وهو ينتج بنى اجتماعية أخرى، تكون نقيضاً للبنى الأولى، أو على اختلاف معها.
وعنصر «التغيير» في البنى الاجتماعية، هو المعيار القانوني المنشئ لأيّ ثورة، حيث ينتج هذا التغيير البنيوي، سلطة سياسية أخرى، تتلاءم مع الوضع الجديد القائم، والمعبّر عنه بفلسفة اجتماعية أخرى، تكون نتاجاً لهذا المفهوم والتطور.
ولعل «الثورة الفرنسية»، التي قامت عام 1789 1799 هي من أول الثورات الاجتماعية في التاريخ، التي أنتجت بنى اجتماعية أخرى، مغايرة للبنى السابقة، ونقيضاً لها في الفكر والممارسة.
وحيث أنّ الثورة، تختزن فلسفة «التغيير» في جوهرها، فهي اذاً تقوم على أسس فكرية وفلسفية، منتجة ومؤسسة لفلسفة «التغيير»، وليست وليدة محض الصدفة، أو الارتجال في لحظة تاريخية ما.
إنّ «الثورة الفرنسية»، كانت نتاج «فلسفة الأنوار»، التي أتت بعد النهضة الصناعية في أوروبا، وما أبرزته البرجوازية، من مفاهيم مناقضة لنظام أوروبا الإقطاعية، بعد أن مزقه فك الارتباط، بين الإقطاع وبين الفلاحين الأقنان.
لقد أتت الثورة الفرنسية، على نظام اجتماعي آخر، في فلسفة إنسانية أخرى، وأنتجت مفاهيم عالمية في الحرية وحقوق الإنسان، وهو ما عبّر عنه في إعلان الثورة «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»، والذي يعتبر بمثابة مقدّمة دستورية عالمية، لا يمكن أن يخلو منها أيّ دستور وطني، لأنها رمز ومثال إنساني يُحتذى، ويجب العمل به.
إنّ «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»، هو نتاج فلاسفة عصر الأنوار، أمثال فولتير وروسو ومونتيسكيو ولوك، وهو رسالة إنسانية طبيعية، أفرزتها نتائج الثورة على النظام القائم، نظام لويس الرابع عشر ولويس السادس عشر، حيث يقول الأول: أنا هو القانون، والقانون هو أنا.
والثورة «البلشفية» التي قامت عام 1917 في روسيا القيصرية، والتي قامت تحت إمرة فلاديمير لينين، والتي أتت في ظروف مشابهة لظروف «الثورة الفرنسية»، من حيث الأسباب والنتائج.
لقد قامت فلسفة «الثورة البلشفية»، على أسس الفكر الفلسفي الماركسي، المؤسس للفكر التاريخي للاشتراكية العلمية، والتي تسعى إلى إنتاج عدالة اجتماعية طبقية، بمفاهيم إنسانية عالمية.
لقد نقلت «الثورة البلشفية»، المجتمع الإقطاعي الروسي، من حالة الفلاح الأقنان، إلى مجتمع العدالة والمساواة، في الاجتماع والاقتصاد، من حالة الرعية والأبوية، إلى حالة المواطنية في الحقوق والواجبات، من مجتمع أوروبا القرون الوسطى، إلى مجتمع أوروبا الحضارة والتطور.
وكان «البيان الشيوعي» بمثابة الإعلان الفلسفي المنشئ «للثورة البلشفية»، والذي يعدّ دستوراً اجتماعياً، لمعظم النظام الاشتراكي العالمي.
إذن المفهوم الفلسفي للثورة، هو مفهوم يتناول «التغيير» في الجوهر، وليس فقط في الشكل، حيث تصحّ حينها عليه تسميات أخرى مثل:
1 الشغب: وهو شكل من أشكال الاضطرابات المدنية، والذي تأتي على يد جماعات شعبية غير منظمة، المنتقدة للسلطة، بسبب قمعها أو سياستها الاجتماعية والاقتصادية، أو نتيجة صراعات بين الأعراق والأديان، أو لأيّ سبب أخر، يتناول موضوعاً حيوياً للمواطن.
وغالبا، ما ترافق أعمال الشغب، حالات عنفية ضدّ الأشخاص، أو الممتلكات العامة والخاصة.
2 الانقلاب: وهو إزاحة مفاجئة للحكومة، بفعل مجموعة أخرى، تنتمي إلى مؤسسة الدولة، وغالباً ما تكون من القوى المسلحة، وتنصيب سلطة غيرها، مدنية أو عسكرية.
أي أنّ الغاية الأساسية من الانقلاب، هي تغيير رئيس الدولة وحكومته، وليس ولادة نظام اجتماعي آخر، وبنى اجتماعية أخرى.
وخطورة الانقلاب في فشله، انه يمكن أن يتحوّل إلى حرب أهلية، كحالات العديد من دول العالم الثالث، والتي تتميّز بطول فترتها الزمنية، وبتكلفتها البشرية والمادية.
3 الحرب الأهلية: وتكون أسبابها سياسية، أو طبقية، أو دينية، أو عرقية، أو إقليمية، أو مزيج من هذه الحالات مجتمعة.
وهي حرب داخلية في بلد ما، يكون أطرافها جماعات غير مؤتلفة من السكان، تسعى إلى السيطرة على مقاليد الأمور، وممارسة السيادة.
وتتصف الحرب الأهلية بالضراوة والعنف، وبالنتائج الاقتصادية والاجتماعية المدمّرة على المدى القريب، والمؤثرة بعمق على المدى البعيد.
ومن أخطر نتائجها، تمزيق النسيج الاجتماعي الوطني، حيث أنها تفرّق بين الأهل والجيران، مما يعني حاجة المجتمع إلى عدة قرون من الزمن، لإعادة التوازن والوئام.
4 الإرهاب: هو استخدام العنف غير القانوني ضدّ المدنيين، أو التهديد به، بأشكاله المختلفة، كالاغتيال، أو التعذيب، أو الاغتصاب، أو الخطف، أو التخريب، أو التشويه، بغية الوصول إلى هدف سياسي معيّن، أو كوسيلة من وسائل الحصول على معلومات أو مال، وهو بكلام آخر: إخضاع طرف مناوئ لمشيئة الجهة الإرهابية.
وتتراوح أشكاله بين:
أ إرهاب تقوم به الدول.
ب إرهاب يقوم به الأفراد.
ج إرهاب تقوم به المنظمات الإرهابية.
إذا، إنّ إطلاق مفردة «ثورة»، على أيّ حراك شعبي، ليس بالضرورة أن يتلاءم مع حقيقة مفهوم الثورة، ولا مع فلسفتها أو جوهرها، وخاصة إذا لم ينتج أيّ تغييرات جذرية وعميقة للبنى الاجتماعية، بل تناول الحراك من حيث الشكل، ولم يصل إلى المضمون.
والقانون الدولي، لم يتناول مفردة الثورة، كمفهوم مستقلّ عن الحقوق الإنسانية العامة، بل جاء في سياق الاعتراف بهذه الحقوق، والمحافظة عليها، والعمل بها.
حق الشعوب في تقرير المصير
لقد أكد ميثاق الأمم المتحدة، في ديباجته ومواده، على إيمانه بالحقوق الأساسية للإنسان وبحريته، وبكرامته، وبمبدأ المساواة بين الشعوب.
لقد أكد الميثاق على حق الشعوب في تقرير المصير، وعلى حقها في اختيار النظام السياسي والاقتصادي الذي يلائمها، من دون فرض أو إكراه.
وكذلك، أكدت معظم الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية، على المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، الحقوق الطبيعية المقوننة في إطار مجتمعي، والمعبّر عنها في الدساتير والقوانين الوطنية والدولية.
لقد أصبحت مسألة حقوق الإنسان، في ظلّ الاهتمام العالمي بهذه الحقوق، تمثل منطقة وسطى بين الاختصاصين الداخلي الوطني والدولي، وبالتالي تعمّقت الصفة أو الطابع العالمي لهذه الحقوق، في صور مختلفة.
وتأتي الحرية في مقدّمة هذه الحقوق، الحرية بمختلف صورها، الحرية المسؤولة، الحرية المنظمة في القانون، حرية الفرد والجماعة، الحرية المدنية والسياسية، التي تتلاءم مع تطلعات وآمال الشعوب.
هذا من حيث الشكل. أما من حيث المضمون، فإنّ حرية اختيار الشعوب لأنظمتها المختلفة، وخاصة في دول العالم الثالث، من اجتماعية، إلى سياسية، إلى اقتصادية، تصطدم بعقبات وحواجز وموانع كثيرة، تأتي في مقدّمتها مصالح الاستعمار القديم والجديد.
لقد عمل الاستعمار، على ترسيخ مبدأ التبعية، عبر تنصيبه لطبقة حاكمة، تفتقر إلى الشرعية الشعبية، تعطيه امتيازات لسوق تجارته، ولاستغلال موارد البلاد الطبيعية، مقابل دعم بقاء هذه الطبقات الحاكمة في السلطة.
وينتج عن ذلك فساد في إدارة الدولة، وغياب كامل لعملية التنمية، وبروز طبقات اجتماعية متعارضة متناقضة، يفصل بينها هوة طبقية سحيقة، وتبرز مشاكل اقتصادية بنيوية، ومشاكل اجتماعية مستعصية على الحلّ، وكلّ ذلك يقود إلى حراك شعبي، قد ينتج ثورة، أو شكلاً آخر من أشكال الأعمال العنفية.
إنّ مشكلة معظم دول العالم الثالث، التي تعاني من الاستعمار المقنّع، عبر الطبقات الشكلية الحاكمة اللاوطنية، هي مشكلة مزدوجة، فهي:
أولاً: تناضل في سبيل التخلص من الاستعمار المقنّع وأدواته، في حركة التحرّر الوطني.
ثانيا: أنها تخوض في حال انتصارها، حرباً اقتصادية في التنمية، خاصة أنها تكون قد مرّت بحرب، أفقدتها الكثير من مقدراتها الاقتصادية، مما يجعل من اقتصادها، اقتصاداً هشاً وضعيفاً.
إشكالية «الربيع العربي»
وبالعودة إلى إشكاليه ما يعرف بـ»الربيع العربي»، والمثال الأبرز في هذا الحراك هو مصر، باعتبارها الدولة العربية الكبرى، والتي تمتلك أهمّ المقدرات الفكرية البشرية والاقتصادية، لنستعرض لما طرح من شعارات للحراك الشعبي، وما تحقق من نتائج، وما هو التوصيف القانوني له.
لقد طرح شعار في بداية الحراك الشعبي، «الشعب يريد إسقاط النظام»، وهو طرح ثوري، يعبّر عن الوضع الاجتماعي الوطني المأزوم، عن مشكلة في السياسة وفي الاقتصاد، والذي يعمل على محاولة إسقاطه، والخروج منه، واستبداله بنظام سياسي اجتماعي آخر، ينتج سلطة سياسية جديدة، وبرامج تنمية اقتصادية جديدة، تخرج البلاد من أزمتها البنيوية.
وبعد أن مرّ هذا الحراك بمراحل طبيعية متعددة، استقرّ المشهد المصري على النتائج التالية:
أولا: إنّ القواعد الاجتماعية المنتجة للنظام السياسي القديم، لم تتبدّل، فهي القواعد نفسها، في الزمان والمكان، قواعد تتبنى الفكر الليبرالي، معطوفاً على المفهوم المصري الوطني، المؤيّد لرمز المؤسسة العسكرية.
وهذا يعني أنّ الأحزاب الوطنية المصرية، من اشتراكية إلى قومية عربية، لم تستطع الوصول إلى السلطة، ولم تبدّل في المشهد الاجتماعي القديم، بل أنها وقفت عاجزة عن تغيير المشهد في لحظة تاريخية، أمام رفض المجتمع المصري بغالبيته، إرهاب بعض الجماعات الإسلامية التكفيرية.
ثانيا: إنّ القواعد الاجتماعية، المنتجة للنظام الاقتصادي، بدورها لم تتبدّل، ولم تقدّم أيّ طرح اقتصادي آخر، بديل للطرح الاقتصادي القديم الرأسمالي، المسبّب الرئيسي للأزمة المصرية، الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي بقيت مصر مع الرئيس الجديد، نفسها مصر مع الرئيس السابق، من حيث النظم الاقتصادية.
وبالتالي، ما هي القيمة الإضافية، التي قدّمها الحراك الشعبي المصري، على صعيد تركيبته البنيوية، في الاجتماع الاقتصاد والسياسة، وهل النتائج لهذا الحراك، تعبّر عن فهم حقيقي لمفهوم مفردة «الثورة»؟
من النتائج الأكيدة، أنّ هذا الحراك لم يسقط نظاماً، كما كان الشعار الشعبي المصري، بل أسقط رئيساً، وحافظ على قواعد النظام، في الاجتماع والاقتصاد والسياسة، وبقيت البنية المجتمعية كما هي، مفككة طبقياً وثقافياً.
ماذا تسمّى حالة الحراك الشعبي المصري؟ ثورة، انقلاباً عسكرياً، انقلاباً شعبياً، حرباً أهلية، شغباً، إرهاباً، أو شيئاً آخر؟
التاريخ سوف يجيب، لكن من المؤكد، أنه ليس «ثورة»، لأنه لم ينتج تغييراً جذرياً عميقاً وهاماً، في البنى الاجتماعية المصرية.
والمثال المصري، يعتبر من أفضل الأمثلة لما يعرف بـ»الربيع العربي»، قياساً على التجربة الليبية، التي تعتبر من التجارب المأساوية في التاريخ، والتي لم تكتمل فصولها بعد، والتي أعادت ليبيا إلى عصور الظلام.
الحراك كأداة خارجية…!
أما التجربة السورية، فهي الاستثناء في دراسة مفهوم «الثورة»، حيث صوّر الأمر في البداية على انه حراك شعبي، ما لبث أن ظهرت على حقيقته كونه تدخلاً دولياً غير مسبوق في تاريخ العلاقات الدولية.
لقد أقرّ الرئيس السوري بشار الأسد منذ بداية الأزمة بأحقية الحقوق الشعبية، ووعد بمعالجتها، وباشر بوضع أطر إصلاحية لها، في أكثر من جانب تشريعي وقانوني، بما يتلاءم مع مصلحة الدولة العليا، ودور سورية القومي والوطني في المنطقة.
لكن تلقف الحراك من دول خارجية، ولأسباب متعدّدة، تكتيكية واستراتيجية، قلب دور هذا الحراك، وجعله بطرق مختلفة، أداة صراع دولية، تستهدف محور الممانعة والمقاومة في المنطقة، في وجه المشروع الصهيو – اميركي، والتي تعتبر سورية فيه العمود الفقري.
لقد أقرّ النظام العربي الرجعي، تسويات تاريخية مع الغرب، تقضي بتقسيم وتجزئة الوطن العربي، ومنع قيام وحدته، والاعتراف بالكيان الصهيوني، ومنحه «وثيقة ولادة شرعية»، لقاء المحافظة على هذه الأنظمة، التي تفتقر إلى شرعية شعوبها، والى عدم قدرتها على العيش، بعيداً عن الارتباط العضوي بهذا الاستعمار.
وعليه، فهي في الأزمة السورية، تمارس الدور الذي رسمه وحدّده لها الاستعمار الغربي، من الاتصال والتجهيز والدعم والتمويل، للجماعات التي تقاتل النظام الشرعي القائم، والتي هي على صلة اتصال بها، بفعل الاستغلال الديني أو المذهبي، وهي تطرح شعارات مبهمة وغير مفهومة، مثل «منح الشعب السوري الحرية والديمقراطية»!
في الوقت الذي تحكم هي بنظام الملكية المطلقة، الملكية المستبدّة التي تستمدّ شرعيتها وسلطتها من الله، بحسب الفهم والفقه الديني الخاص بها، والتي تستند إلى النموذج الأوروبي في القرون الوسطى.
إنّ الحراك الشعبي السوري، تمّ استغلاله كحركة مطلبية، وتحويله إلى حرب كونية، على سورية وخطها النضالي، على أصدقاء وحلفاء سورية، وعلى أرض سورية العزة والكرامة.
وبرز الإرهاب التكفيري، الفردي والجماعي المنظم، والمدعوم من قوى الاستعمار، كوجه من وجوه الحركة العنفية في سورية، والتي تعنونت بـ»الثورة»، والتي تحمل فكر إلغاء الآخر، كاستراتيجية في عملها وممارساتها الإرهابية.
لقد تمّ الاعتداء على سيادة الدولة السورية، من دول محيطة بها، بعنوان دعم «الثورة»، وتمّ ارتكاب جرائم بحق الإنسانية، وبحق الشعب السوري، بعنوان دعم «الثورة»، وتمّ إسقاط كلّ القيم الإنسانية، وكلّ القيم الحضارية، بعنوان دعم «الثورة»، «ثورة الظلمة على النور»!
إنّ جوهر الثورة هو التغيير، وهذا التغيير هو فعل ونتاج المجتمع من تفاعله الداخلي، وليس بفعل إسقاطات خارجية، تفرض نمطاً معيّناً من العلاقات، الغريبة عن مخزونه الثقافي، وتكون في حالة غربة عن المكوّن الاجتماعي.
والمجتمع السوري هو مجتمع متحضّر، ساهم ويساهم في نشر الكلمة والثقافة، في كلّ ربوع المجتمعات الإنسانية، مجتمع متعدّد الثقافات، غني الحضارة، يعيش تحت سقف سورية الوطن، هذا المجتمع يرفض أن يموت من الجهل.
ما يحصل في سورية ليس «ثورة» بالتأكيد، إنه الإرهاب الأعمى، الإرهاب الذي يغتال الحضارات، كما يغتال الأطفال في مدارسها.
«الثورة» مفهوم حضاري، يرقى بالمجتمعات الإنسانية، ويعطيها المزيد من الحرية، هو تذكرة سفر الوعي، في التاريخ.