الميادين… أكثر من تضامن… إنّها قضية
تتعرّض قناة الميادين لهجمة شرسة منسّقة ومنظّمة لإسكاتها بعد فشل محاولات عزلها وتشويهها والنيل من صدقيتها. وهي القناة المولودة من رحم عمقٍ ثقافي وشعبي نخبوي عربي، عايش التحوّلات والإرهاصات التي مرّت على بلادنا خلال نصف قرن مضى، وحدّد الثوابت التي لا يجوز إعادة مناقشتها وفق المتغيّرات، بمندرجات ثلاثة: حقوق الأمة وحقوق الشعوب وحقوق المواطنين الأفراد. وتنحى عن الانحياز في ما عداها وأسماها، المتحوّلات مكتفياً بتركها مساحة تتقبّل الاجتهاد والاختلاف لترتضي المؤسسة الإعلامية المنبثقة من هذا المستند الفكري أن تكون ساحة حوار بين التيارات التي تتجاذب الرأي العام حولها.
في الثوابت، أقام مؤسّسو القناة مشروعهم الإعلامي على: التمسك بما سمّوه حقوق الأمة، وفي الطليعة التمّسك بكون فلسطين حقاً ثابتاً من حقوق الأمة. حقّ لا يملك أحد أن يضعه في ميزان التفاوض للمقايضة أو التنازل الجزئي أو الكلّي. والحق باعتبار المقاومة خياراً ثابتاً للأمة حتى تستردّ أرضها المحتلة وتستكمل حروب استقلالها من مشاريع الاستتباع والهمينة. أما الثابت الثاني، فتمثّل بحقوق الشعوب، وفي طليعتها حقّ تقرير شكل نظام الحكم الذي يدير شؤونها وملء المؤسسات الدستورية بمن يعبّرون عن الإرادة الحرّة للشعوب، وحق الاطّلاع والتواصل والتعبير وتشكيل الأطر الجامعة من مؤسسات المجتمع المدني إلى الأحزاب بأنواعها، وصولاً إلى ملء الميادين احتجاجاً أو تأييداً. ودائماً الحق بنظام حكم عادل في إدارة الثروة وتوزيعها، ومنظومة الخدمات، حكم يديره حكام لا مكان للفساد بينهم، خاضعون دائماً للمساءلة والمحاسبة. ويتصل الثابت الثالث بحقوق الأفراد بأن تُحترَم كرامتهم الإنسانية وحقهم بالعيش الكريم والسكن والطبابة والتعليم والوصول إلى المعلومات من دون قيود، والتعبير عن الآراء والأبحاث وممارسة الإبداع من دون قيود، سوى احترام الضوابط الاجتماعية والثقافية التي تمسّ الذوق العام والمقدّسات الدينية. والحق بالوقوف أمام مؤسسات الحكم وفقاً لصفة المواطَنة والحصول على الخدمات المستحقة على أساسها، وممارسة الواجبات الملزمة وفقاً لها، والتقاضي لاسترداد حقّ ضائع بتكافؤ في الخصومة مع أيّ مسؤول أو حاكم. وانتهاءَ بالحق بعدم انتهاك الخصوصيات والحرمات خارج نطاق الأصول القانونية والقضائية.
خارج هذه المنظومة، تسامحت الميادين مع الآراء التي تخالف مؤسّسيها الرأي، وفتحت لها نوافذ التعبير حتى نالت بعضاً من انتقادات أصدقائها، الذين أرادوها نسخة معاكسة تنتقم لهم ممّا يتعرضون له من قنوات منافسة مموّلة لخوض الحروب وفقاً لمنهجية البروباغندا والفبركة والأدلجة العدائية والتحريض. ولم يسجّل في تاريخ الميادين التعرّض بالإساءة لشخص أو حزب أو حاكم أو حكومة، ولا بمنع بثّ أو ظهور رأي أو مسؤول أو مثقّف أو إعلاميّ أو ممثل حزب أو حكم، طلب التوضيح والردّ مفترضاً أنه تعرّض لتشويه، أو أن أذى أُلحِق بسمعته، أو تشويهاً أصاب رأيه أو رؤيته.
حاولت منظومة النفط العربي الممسكة بالإعلام العربي المعاصر والحديث، بضخّها أموالاً طائلة بمليارات الدولارات لقيادة صحف وقنوات فضائية، نشر صورة مشوّهة للميادين، ومنظومة معادية بالتكوين للأصالة لما تدّعيه من تنوير ونشر للقيم السامية للحرّية والديمقراطية، وتلك قيم لا تولد في أنبوب نفط أو قصر ملك أو أمير. فيكفي لأجل تناقض النسب أن تسعى قنوات الأنابيب إلى تشويه قنوات الولادة الطبيعية من رحم الشعوب، والنيل من استقلالها وتصويرها مرّةً منبراً لإيران للقول إنها تخلت عن العروبة، وتارة بتطييفها للقول إنها آلة من آلات الاختراق المذهبي للساحة الإسلامية الأوسع انتشاراً في العالم العربي. لكن مواظبة الميادين على رسالتها بعيداً عن ردود الفعل والتورّط بالاستدراج إلى حروب جانبية، من جهة، ومثابرتها على التمسك بثوابتها والتصرّف بوحيها من جهة مقابلة، خصوصاً مع ما قدّمته المواجهات المتتالية التي شهدتها فلسطين منذ انطلاقة الميادين من فرص منحت المواطن العربي القدرة على المقارنة بين التزامات الميادين الثابتة، وبين القنوات والمنابر الأخرى التي اتّسمت بالاستخدام المصلحي والموسمي للقضية الفلسطينية، والتعامل التكتيكي والتوظيفي معها، وإخضاعها لمنظومة أولويات سياسية واستخبارية للمموّل الخليجي. وكذلك عُزّزَت مكانة الميادين وصدقيتها بالثبات على التمسك بحقوق الشعوب والمواطنين كأفراد، حيث تعرّضت لانتهاك أو كانت موضوعاً للتداول وعنواناً لحراك، حتى لو في ساحات يفترض أنها صديقة للميادين بقياس حقوق الأمة وعنوانَي فلسطين والمقاومة. فتجذرت مكانتها في وجدان المتابع العربي وصارت جزءاً من يوميات الكثيرين.
نضجت تجربة الميادين، ونجحت في أن تنتزع لقب قناة فلسطين والمقاومة، وأن تزيح عن عرش هذا اللقب القنوات التي تربّعت عليه طويلاً وصاغت مكانتها في الشارع العربي على أساسه. ونجحت الميادين في التمييز بين صفات القوى ذاتها عندما تكون في ساحات المقاومة عن صفاتها عندما تكون في ساحات أخرى، فلا تضيع حقوق بحقوق، ولا تحجب قضية قضية، ولا يسقط تميّز إيجابي بسبب السقوط في سلبية أو يعذر الوقوع في سلبية بذريعة تميّز إيجابي في ميدان آخر. بقيت الميادين تقيم الميادين معياراً منفصلاً لكشف حسابها مع الجميع. وصارت الميادين ضيفاً ثقيلاً مربكاً يستحيل بوجوده وتحوّله شريكاً لا يمكن تفاديه في سوق صناعة الأفكار والمواقف، أن تنجح حرب كسب العقول والقلوب من الآلات المهيمنة على الإعلام العربي والمموّلة من أنابيب النفط السوداء. فبدأت الإشارات العدائية تتنامى وتتصاعد من الحصار والمنع وتقييد الحركة والتواجد في ساحات الخبر، لتصل إلى السعي إلى إيقاف البثّ، وهو يبدأ اليوم من إنزال القناة عن القمر «عربسات»، الذي تملكه الدول العربية مجتمعة، ويصل حدّ مطالبة الحكومة اللبنانية وقف استضافتها قناة الميادين على أراضيها، والسماح لها بممارسة مهمتها الإعلامية الرفيعة، بينما تعجّ الفضاءات العربية بمئات القنوات المبتذلة والتافهة والمريضة، ثقافياً ودينياً وسلوكياً واجتماعياً. ويعتبرها القيّمون على الإعلام العربيّ وأقماره الصناعية إضافة ترفيهية أو تنويراً بالتعدّد ويضيق صدرهم بالميادين ورقيّها، لا لشيء، إلا لأنها فضحتهم.
المقلق هو مستوى التفكك والبلادة الذي يعيشه قطاع رجال الإعلام ونقاباته وأيضاً في العالم العربي. فبعدما كان التضامن دفاعاً عن حرّية منبر إعلامي مصدر تباهٍ من المنتمين للخط المخالف. صارت المجاهرة بالتخندق في متاريس الحرب تتم بلا وجل. وصار المؤمنون بصوابية التضامن ضحايا ثقافة شخصنة تنطلق من حساب تعامل الإعلام المستهدف مع أخبارهم أو نسبة منحهم بعضاً من مساحات تأثيرها، لا بصفتها قضية رأي عام. وصار جزء ثالث، ينطلق من الخشية على مصالحه وموقعه المهني بعدما تغوّلت وتواقحت آلات العقاب التي كانت أشدّ خجلاً وتسامحاً في الماضي.
القضية ليست الميادين، فهي لن تعدم الوسائل للحفاظ تقنياً على أعلى درجات التواصل مع جمهورها. وواهمون الذين يفترضون أن إجراءات المنع والملاحقة ينتج عنها ما هو أكثر من تنوير شرائح جديدة من الرأي العام على أهمية القناة. القضية هي قضية صنّاع الرأي العام في العالم العربي، وردّ الاعتبار إلى منظومة قيم تتصل بمسألتَي الحرية والديمقراطية. وقضية الميادين قضية الحرّية والديمقراطية بامتياز. فكيف لا يتّخذها كقضية بمعزل عن الموقف السياسي، أهل الزعم بأنهم أهل الحرّية والديمقراطية عنواناً للانتصار لقضيتهم ورفع منسوب التمسّك بقيم يفترض أنها رسالتهم كأولوية هتكوا آذاننا وهم يقولون بتقدّمها على قضية المقاومة وفلسطين. وكيف يقيسون بالسياسة قضية؟ وهل تبقى حرية وديمقراطية عندما يصير الانحياز مشروطاً بالتوافق؟ أم هي شروط أخلّ الدكتاتورية والشمولية؟
النداء لأهل الإعلام والحقوق في العالم العربي أن تحرّكوا واكتبوا واعتصموا وراسلوا العالم لأجلكم، ولأجل القيم السامية التي تمثّلون، لا لأجل الميادين، فقد منحتكم الميادين قضية…
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.