صباحات
في كلّ التراب، ينبت الزهر. لكن عطره يكون فوّاحاً عندما يجبل التراب بدماء الشهداء، لأن العطر بعض نور، والصباح بعض من نور وجوههم، والعطر كرامة والكرامة بعض من اكتمال دورة زمانهم، والشمس تغيب تواضعاً لتشرق هاماتهم… سيزداد عطر الياسمين في الشام فوحاً وبوحاً.
أصل المدن بحر، وأصل البحر ملح، ولما تلاقت المدينة الزاحفة أجزاء متناثرة من أعالي الجبال وأعماق الصحارى إلى البحر لتولد حاملة معها توابل الهند وحرف العرب وحكمة الإغريق وصبر صنّاع السجاد وحنكتهم، غسلت أقدامها بالملح وتوضأت بالنور، والتفتت إلى يسارها والبحر يمّم وجهها، وعبث بخصلة من شعرها وقالت: يا قدس، ستولدين هنا وسأكون لك أنا الوصيفة واسمي صور.
قابل الياسمين قطرة ندى فقالت له: لماذا تفتح أزرارك وبوح أسرارك وفوح عطرك على توقيت إطلالة الضوء وانعقاد قطرات الندى على نعس الليل؟ فهل من موعد يجمعنا؟
فقال لها: عاشقان تنتهي ليالي السهر بهما من عناقيد الندى ينتظران طلوع الصباح على عطر الياسمين، يرويان حكاية أننا زينة الليل والنهار. ويكون لنا يوم ضباب يخدع الندى بالعتمة أن الليل ممتد، ويخدع الياسمين ببعض ضوء يبشر بالنهار، فنلتقي على توقيت لم تكن لنا يد فيه، ونتعانق مرة في السنة… قيمة الناس والأشياء في حياتكم بدرجة حضورهم سبباً في ساعة توقيتكم.
بيني وبين بيروت حبّ قديم. فمن بحرها أطلق أشرعتي… لكن بيني وبين دمشق شغف يحكمه ضوع الياسمين وبوابات على حدائق التاريخ… أما القدس والقاهرة فلوعة الفراق.
ثمة زهرة أحبّها. ومن نحبهم بطريقتنا الصاخبة لا نشترط عليهم مبادلتنا أكثر من تقدير الاهتمام… نحبّهم وكفى.
اليوم أشرقت الشمس من حلب، وستدور الشمس هلالاً حول حلب حتى تشرق وتغيب منها، وتشرق وتغيب ويطلع البدر فوق بيوتها وأضرحة الشهداء.
لن تطاول أجنحة النور أهل الظلمة ولا أهل المال. وأهل الظلمة هم جماعة مؤنث الظلم وزوجته المخلصة، وأهل المال هم أهل التبدل والتحوّل. فكما مال الغصن مع الريح مالوا… وهم في كثير من الأحيان أتباع… وربما يكونون من جماعة الأردو وهي لغة الهود… لكن العرب والأتراك الذين يتقنونها جاؤوا من اسطبلات شيوخ الخليج عسساً وغلماناً، وهذا منشأ الأردو غان أو الأرداوي ويلفظ أحياناً بالقرضاوي تيمناً بالبنوك والقروض ولتشابه الحروف ربما القرود… الصباح لكم يا شرفاء البلاد ومقاوميها والمدافعين عن ثغورها، وللياسمين يشعّ عطراً ونوراً، والعشب المعربش والمخضوضر على أضرحة الشهداء.