محمد أحمد الروسان
علم فن إدارة الأزمات من العلوم التطبيقية حديثة النشأة والتطبيق. وعلم ما يسمّى بالإنذار المبكر من العلوم الاستقرائية والبحثية ذاتها حديثة النشأة. والاشتباك بتفاعل أيضاً وتفكيك المركّب وتركيب المفكّك. إنّه علم الفن وفن العلم، ضمن الاستقراء لأيّ تداعيات لأي حدث كان، وهو ليس أداة تجرح كما في علم الاستخبار.
إنّه علم يركّز بعمق على بؤرة الحدث، أي حدث، إن بفعل البشر أو بفعل الطبيعة، ويسعى إلى التعرف والتمحيص في مكوّنات تلك البؤرة وعمل أدائها السلوكي ومفاعيله وتفاعلاته، ثم التقاط موجات البث المنبعثة والمنطلقة وإشاراته، من نقطة المركز ومحاولات معرفة وقراءة وفك شيفرات هذه الموجات والإشارات، لسبر غور طبيعة السيناريو المقبل وشكله، أو SCENARIO BUILDING EXERCISES ، فالأخيرة مجرد احتمال، وإن لم يكن الاحتمال في السياسة يقيناً. لكن جل المسألة في علم الإنذار المبكر أنه يتيح وضع الاستعدادات والترتيبات اللازمة لاحتواء الأخطار وتعزيز الفرص.
وتعتبر أجهزة الاستخبار المتعدّدة، من أكثر المؤسسات في المجتمعات المكوّنة للشقّ الديمغرافي للدول استخداماً لهذا النوع من العلم والمعرفة، وإن يكن أول من استخدم هذه المعرفة وعلى الفطرة في التاريخ البشري معرفة الاستخبار والرصد والإنذار المبكر هو أحد ولدي آدم، حين رصد تحركات شقيقه لقتله !
صحيح أنّ السياسة تعني فن الممكن، لكنها الآن ونحن في الألفية الثالثة للميلاد تعني في المعنى الأدق فن إعادة إنتاج الضرورة بمفهومها الشامل: ضرورة أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وحتّى ثقافية فكرية. بعبارة أخرى، السياسة منتج أمني وسياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي فكري، ولم تعد فحسب فن الممكن.
الرهان في علم الرياضيات المعاصرة أيّاً يكن هو مجرد احتمال فحسب، والاحتمال في علم السياسة سواء كانت سياسة النخب أو السياسة «الشعبوية» ليس يقيناً.
حتّى السذّج في المجتمعات والذين تتمطّى رقابهم مثل العوام، ومن خلال الوقائع الميدانية كمؤشرات، باتوا يعرفون أنّ ما يحصل في سورية هو في الحقيقة عملية أخرى من العمليات السرية الاستخباريّة الدموية المدعومة أميركيا وبريطانيّاً وفرنسياً و«إسرائيلياً»، بالتحالف مع البعض العربي المتخاذل والمرتهن، وأضحى الأخير معروفاً للجميع، بغية إطاحة السلطة في سورية، قلب الشرق وعقله. والحقيقة أن الولايات المتحدة الأميركية هي بحكم الواقع إمبراطورية الشر العالمية، بلبوس ديمقراطي ليبرالي إنساني، وتحت شعار الحاكمية الرشيدة، مع كل ما تملك من قوّة وبنى تحتية ونفوذ، فهل من الصعب عليها أن تقوم بتصنيع «ثورة» في أي بلد وسورية نموذجاً؟ فلواشنطن شهوة عميقة شبقة إلى احتياطي الطاقة، عصب الصناعة الغربية، وهي الشهوة ذاتها التي يشتهيها خصومها من الطرف الآخر، والصراع على الاحتياطي الاستراتيجي للطاقة في منطقة الشرق الأوسط قد يشعل حرباً عالمية ضروساً وعميقة قد تنهي العالم!
المشتركات لدى جمهور الناس في العالم العربي تتموضع على ما أعتقد في الآتي: إنّ الغرب يسعى إلى الدفع بقوّة نحو تفكيك سورية وجعلها دولة فاشلة، ثم تفكيك لبنان والعراق، والآن عبر إصدار «داعش» النسخة المتقدمة من فيروس «القاعدة» نحو استنزاف عميق لإيران لشلّها والتغلغل بين مفاصلها، من خلال التلطي بمفاوضات 5 + 1 حول نوويّها لتفجيرها من الداخل وتصنيع ثورة جديدة فيها عبر الطبقة الوسطى التي يراهن عليها الغرب في إحداث حدث إيراني شبيه بالحدث السوري، وإثارة الفوضى في الأردن عبر اللعب على الحبل الديمغرافي لجهة المكوّنات الأردنية المختلفة، بما فيها النظام نفسه، وبعد ذلك وفقاً للرؤية الأميركية الصهيونية ستكون المحطة الأخيرة الفدرالية الروسية، الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي الخاصرة الضعيفة للفدرالية الروسية وهذا ما تدركه النواة الصلبة والدولة العميقة في روسيا الفدرالية ومحركها وضابط إيقاعها الرئيس فلاديمير بوتين وجهاز استخباراته النشط والديناميكي ذو المجال الجيوبولتيكي الأممي.
إنّ من يسيطر على سورية قلب الشرق، يسيطر على الممر الاستراتيجي لمعظم الشرق الأوسط، وبالتالي يتحكم في أوراسيا العظمى وأسيا الوسطى. الصراع في سورية وعليها، هو صراع على الشرق كلّه، وقلبه سورية بنسقها السياسي وموردها البشري، والفدرالية الروسية وبكين بجانب طهران، ومعظم دول البريكس تدرك ذلك جيداً.
في المعلومات والتحليل، يعتبر تنظيم «القاعدة» في مناطق الحدود الأفغانية الباكستانية من أبرز الأسباب الرئيسية التي شكلت الوقود المحفّز لقيام القوات الأميركية باستهداف أفغانستان من ناحية، ولتزايد الظهور المتواتر للحركات الأصولية المسلحة.
وتشير التطورات الميدانية الجارية، المعلنة وغير المعلنة في منطقة شبه القارة الهندية، وبخاصة في أفغانستان وباكستان وشمال غرب الهند، وإقليم جامو كشمير، إلى حقائق مذهلة رغم مقتل قائد هذا التنظيم الأممي قبل أكثر من عامين، إذ بلغ عدد الحركات الأصولية الإسلامية المسلحة في المنطقة أكثر من ثلاثمئة حركة، وبحسب خبراء متخصصين بدراسة هذا التنظيم. وأصبحت القوات الأميركية والباكستانية وقوات الناتو عاجزة عن تحقيق أي نجاح يمكن وصفه بالحاسم في المعركة الجارية ضد الحركات المسلحة الأصولية.
في مجرى الحرب السريّة والمعلنة أحياناً وتداعياتهما، أضحت الحركات الأصولية الإسلامية المسلحة تتمتع بدعم السكان المحليين، بخاصة في باكستان وأفغانستان والمناطق الإسلامية الهندية، وبسبب التزايد المطرد في عدد من التنظيمات الأصولية الإسلامية المسلحة وانخراط عدد كبير من السكان فيها ودعمها، بات تنظيم «القاعدة» أقل أهمية عمّا كان عليه قبل بضع سنوات، تحديداً لحظة دخول قوات الاحتلال الأميركية إلى أفغانستان.
بدأ يبرز التساؤل حول مستقبل تنظيم «القاعدة» أكثر فأكثر، متضمناً العديد من التساؤلات الفرعية. بكلمات أخرى، يمكن الإشارة إلى الإشكاليات المتعلقة بوجود «القاعدة» في شبه القارة الهندية:
الإشكالية الأولى: إنّ استمرار وجود تنظيم «القاعدة» في مناطق شبه القارة الهندية سيترتب عليه تآكل التنظيم، فالحركات الأصولية الإسلامية التي نشأت في المنطقة، باتت أقدر من تنظيم «القاعدة» على القيام بتنفيذ العمليات، فهي أولاً وقبل كل شيء تعتمد على أبناء المنطقة الذين يتمتعون بمعرفة الأرض والمجتمع، بينما لا يزال تنظيم «القاعدة» يعتمد بشكل رئيسي على العناصر العربية المهاجرة إلى أفغانستان وباكستان طلباً للجهاد، مع الهجرة المعاكسة منذ أكثر من سنتين إلى ساحات الخصوم، أي إلى محور واشنطن «تل أبيب» ومن ارتبط به من بعض العرب المتخاذل، فأشعلتها الاستخبارات الأميركية والغربية والصهيونية وبعض الاستخبارات العربية، تحت عناوين «الحريّة» و«حقوق الإنسان»، بفعل مفاعيل ما سمّي بـ«الربيع العربي» وما إلى ذلك.
الإشكالية الثانية: نشأت العديد من الفروع لتنظيم «القاعدة»، لكن بسبب الضغط العسكري الأمني المتزايد على قيادة تنظيم «القاعدة» المتمركزة في شبه القارة الهندية، فإنّ هذه القيادة لم تبق قادرة على السيطرة على فروعها.
الإشكالية الثالثة: بسبب ضعف الصلة بين فروع تنظيم «القاعدة» وقيادته، أضحى التنظيم يعاني ظاهرة فراغ القيادة المركزية، على نحو يرتب عليه إنتاج قادة وزعماء محليين، فأصبح كلٌّ من هذه الفروع بمثابة تنظيم «قاعدة» قائم بذاته.
الإشكالية الرابعة: إنّ استقلالية فروع «القاعدة» كتنظيم أدّت إلى ظهور تنظيم «القاعدة» في بلاد النهرين وتنظيم «القاعدة» في المغرب العربي وتنظيم «القاعدة» في الحجاز وتنظيم «القاعدة» في اليمن وتنظيم «القاعدة» في بلاد الشام تحديداً في سورية الآن منذ بدء حدثها الاحتجاجي السياسي والذي تحوّل بفعل الطرف الثالث إلى حرب كونية ضد الدولة الوطنية السورية ونسقها السياسي بفعل تسهيل دخول عناصره من قبل بعض استخبارات دول الجوار السوري العربي وغير العربي، بالاتفاق مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، فضلاً عن التورط المشترك لدولتين من دول الخليج السعودية وقطر وفي ما بعد الأمارات ، على نحو مشترك ومباشر في الشؤون السياديّة للدولة السورية بفعل الحدث السوري وتداعياته. وهنا يبرز سؤال جوهري: ألا يرتد هذا الإرهاب المدخل إلى الداخل السوري مرةً ثانيةً، إلى دول الجوار الدمشقي ؟!
الإشكالية الخامسة: اعترفت قيادة تنظيم «القاعدة» بالوضع المستقل لهذه الفروع، وأعلنت أنها تكتفي بمجرد التنسيق وإجراء المشاورات بين الحين والآخر، والواضح أن اعتراف قيادة تنظيم «القاعدة» باستقلالية الفروع تم رغماً عنها بسبب الضغوط الأمنية العسكرية، وبسبب عدم قدرة القيادة على تزويد الفروع الإمدادات والعتاد، إلخ.
تأسيساً على ذلك، كخلفية معلوماتية تحليلية، يبرز السؤال الرئيسي: هل سيبقى تنظيم «القاعدة» الذي يقوم بدور حمّالة الحطب، أو بالأحرى قيادة تنظيم «القاعدة» متمركزة في منطقة شبه القارة الهندية؟ وإذا بقيت هذه القيادة ما هو الدور الذي ستقوم به إذا أخذنا في الاعتبار أن منطقة شبه القارة الهندية باتت تعاني تضخماً واسعاً في التنظيمات المسلحة التي انتشرت في كل مدينة وقرية وأصبحت عناصرها تقوم بعمليات لا تعد ولا تحصى؟
أدّى نشوء الفروع الخارجية للتنظيم إلى تعدد مسارح عمليات تنظيم «القاعدة» ما أتاح للتنظيم، وإن تكن فروعه مستقلة عنه، هامس حركة ومناورة واسعاً وقدرةً على المبادرة: يستطيع تنظيم «القاعدة» تنفيذ الضربات الاستباقية ضد خصمه في العديد من أماكن العالم، وهو قادر على المفاجأة. يسعه مباغتة خصومه في الأماكن العامة التي لا يواجه فيها الملاحقة والمراقبة، فالأجهزة التي تلاحق عناصره لا تستطيع وضع المناطق كلها تحت الرقابة، فضلاً عن القدرة على تنويع مصادر الإمداد بسبب تنوع جنسيات العناصر وبسبب تعدد الفروع، إذ بات كلٌّ من هذه الفروع قادراً على تنمية موارده الذاتية.
يبدو بوضوح أن خيارات تنظيم «القاعدة» أو بالأحرى خيارات فصيل «القاعدة» الرئيسي إزاء البقاء أو عدم البقاء في منطقة شبه القارة الهندية، لا تزال غير واضحة والإجابة عنها تستلزم الانتظار ريثما يتحدد مصير العمليات العسكرية الجارية بواسطة القوات الباكستانية والطائرات من دون طيّار. وبكلمات أخرى، إذا نجحت القبائل الباكستانية كقبائل محلية في تحجيمه وإنهائه، لن يبقى أمام تنظيم «القاعدة» خيار أفضل سوى الهجرة، لمواصلة الجهاد المسلح في المسارح الأخرى. أما إذا فشلت حملات القوات الباكستانية فإن المسرح الباكستاني الأفغاني سيكون المكان الأفضل لجهة استمرار بقاء «القاعدة» في المنطقة.
السؤال المنطقي الآن، وبعد أكثر من ثلاث سنوات تقريباً على الحدث الاحتجاجي السوري: هل تحالفت مجتمعات الاستخبارات الأميركية والغربية وبعض مجتمعات الاستخبارات العربية وبعض الخليجية مع تنظيم «القاعدة» وفروعه على الساحة السورية كساحة خصوم لمحور واشنطن «تل أبيب»، لجعل سورية الوطن، بل سورية الطبيعية كلها، محرقة للتكفيريين وغيرهم؟! «داعش» وصل إلى لبنان عبر قوى 14 آذار، وبالتنسيق مع استخبارات الرياض زمن إدارة بندر بن سلطان لها قبل إقالته، وما زال لبنان يعجّ بالخلايا النائمة، والعملية الانتحارية التي وقعت في ضهر البيدر صباح الجمعة الفائت مؤشر قوي على ما نرمي إليه، إذ أكّد فرع الاستخبارات في الجيش اللبناني وصول «داعش» إلى لبنان وتحديداً إلى شمال لبنان قبل أكثر من عشر أشهر، وأكّدت استخبارات حزب الله هذا الوصول والغاية منه، لإثارة الفوضى على قاعدة سني ـ شيعي ـ مسيحي! فهل بات وصول «داعش» وإخوانه إلى الأردن عبر مختلف الحدود على الأبواب، خاصةً بعد تطورات المشهد العراقي الأخيرة؟ كذلك بعد الرفض الأردني الحقيقي المتمثل في رفض النواة الصلبة في الدولة مزيداً من التورط في الحدث السوري بعد القرار 2118 الذي فتح مروحة التسويات السياسية في المنطقة، وبعد اجتراح مقاربات سياسية واستخبارية أردنية حديثة، والأخيرة هذه لم تتضح مؤشرات نتائجها بعد، المقاربات الأردنية تتجه نحو الاعتراف بالواقعية السياسية الصادمة لمعظم الطرف الثالث في الحدث السوري، وبعد نتائج استحقاق الثالث من حزيران السوري الراهن، ما يقود المشهد الدولي والإقليمي إلى منظومات حكم مركبة ومعقدة، وإلى استحداث عمليات سياسية جديدة وتوافقية إن لجهة الدولي، أو الإقليمي، أو المحلي.
محام، عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية الأردنية
www.roussanlegal.0pi.com
mohd ahamd2003 yahoo.com