الساميّة بين المفهومين اللغوي والعرقي اللاسامية عصارة اللعنة اليهودية… سلاح ثقافي سامٌّ

في هذا العدد يتطرّق الكاتب وجدي المصري إلى موضوع اللاسامية من حيث أصبح سلاحاً سياسياً ثقافياً يهودياً، تستعمله اليهودية العالمية في وجه كل من يتجرّأ على معارضتها فيسلّط الضوء على الأصل اللغوي للمصطلح، إضافةً إلى أساسه العرقي والدور الذي رسمته له الصهيونية العالمية. إضافةً إلى شهادات عدة لكبار الرؤساء والكتّاب والمفكرين الأجانب الذين طالهم أذى هذا المصطلح بسبب معارضتهم «إسرائيل».

وجدي المصري

كثيراً ما نسمع قادة العدو «الإسرائيلي» يتّهمون، كلّ من ينتقد سياستهم والاعتداءات «الإسرائيلية» المتكرّرة على أبناء شعبنا في فلسطين باللاسامية، ويتهمون بها أيضاً كلّ سياسي، غربياً كان أم شرقياً، وكلّ جماعة، أو حزب، أو منظمة محلية أو إقليمية أو دولية، حتى ولو كانت منظمة الأمم المتحدة، فما هو مصدر كلمة سامي؟ وكيف أصبحت محصورة ببني «إسرائيل»؟ وعلى أي أساس يتم إطلاق تهمة اللاسامية يمنة ويسرة؟

لكي نجيب على هذه التساؤلات لا بدّ أن نعود إلى كتاب العهد القديم وتحديداً إلى سفر التكوين الذي اقتبس أسطورة الخلق عن الأساطير السومرية وخاصة أسطورة إينوما إيليش، حيث يذكر بأن الله خلق آدم ومن ثم حواء: «وجبل الرّب الإله آدم تراباً من الأرض» تكوين، الإصحاح الثاني. وهذا الكلام يتناقض مع ما جاء في سفر التكوين، الإصحاح الثاني في الصفة السابقة للكلام الوارد آنفاً، إذ نقرأ: «وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا… فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه. ذكراً وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض…». فهو عندما يقول هنا «خلقهم» يعني أنه قد خلق عدداً يتجاوز الاثنين، وعندما يكمل قائلاً: «وباركهم… أثمروا وأكثروا واملؤوا الأرض…». فهو يتوجه بالكلام إلى جمع من الناس بدليل قوله: «وقال لهم». والمسألة الثانية التي تلفت النظر هي ما أورده الكاتب عن أن الله قال: «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا… فخلق الله الإنسان على صورته»، إذ علينا أن نشير بأن الله عندما قال هذا القول لم يكن هناك من إنسان بعد، فمن سمع هذا القول لينقله لنا بعد آلاف السنين؟ وعندما يقول الكاتب على لسان الله بأنه سيخلق الإنسان على صورته فهذا إنّما يعني بأنّ الله له شكل، وبما أنه خلق الإنسان على شاكلته فهذا يعني أنّ شكل الله يشبه شكل الإنسان، وبالتالي ألا يعتبر هذا الكلام تجذيفاً بحقّ العزّة الإلهية إذ لا يمكن لأحد أن يكون قد رأى الله، أو أن يكون لله شكل. لأن الله ما هو إلا العقل الكلّي الذي لا يفيض عنه سوى المحبة والخير التسامح والغفران. وهذا الكلام يؤكّد لنا الطابع الأسطوري لما ورد في هذا السفر وبالتالي يِسقط عنه صفة القداسة والألوهية.

انكشاف «العهد القديم»

وإذا أكملنا رحلتنا مع كاتب العهد القديم لوجدناه يركّز على ولد ذكر واحد لاستمرار النسل بعد آدم، إلاّ في البداية حيث ولد لآدم قابيل وهابيل، وبسبب خلاف على القرابين قتل قايين أخاه هابيل، ثم يعود ليقول بأن آدم عرف امرأته أيضاً فولدت له ابنًا دعاه شيثا: «فكانت كلّ أيام آدم التي عاشها تسع مئة وثلاثين سنة ومات»؟ فهل يعقل بعد هذا العمر المديد أن لا ينجب آدم غير ثلاثة أبناء؟ هل كانوا يعرفون في ذلك الوقت بوسائل منع الحمل؟ وإذا كان آدم هو الوحيد الذي خلق وبعده حواء التي رزقت بداية بقابيل وهابيل، فمن أين استحصل قابيل على امرأته التي حبلت وولدت له حنوك؟ ولحنوك لم يذكر الكاتب سوى ذكر واحد هو عيراد وهكذا دواليك وصولاً إلى لامك الذي اتخذ لنفسه امرأتين. ثم ينتقل الكاتب إلى ذكر ذرية أنوش معدداً أيضاً ولداً ذكراً واحداً وصولاً إلى متوشالح الذي أطلق أيضاً على ولده اسم لامك الذي أسمى ولده بدوره نوحاً، وهو الذي حدث الطوفان في أيامه حسب الأسطورة التوراتية، وحدث في أيام أسماء أخرى حسب الأساطير السومرية والبابلية، وتقول عالمة الآثار ستيفاني دالي في الصفحة 24 من كتابها أساطير بلاد ما بين النهرين بأنه «يرجّح أيضاً أنّ اختصار أوتل نا إش تي كان يلفظ نوح في فلسطين منذ زمن بعيد». ونوح الذي تعتبره كلّ الأديان نبيّاً ولد ثلاثة ذكور: سام وحام ويافث، «هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح. ومن هؤلاء تشعّبت كلّ الأرض» تكوين 19:9. فإذا كان كلّ أهل الأرض هم من ذرية نوح فهذا يعني أنّ الطوفان الذي أحدثه الله لم يبق نسمة واحدة، أذكراً كان أم أنثى، فمن تزوج أبناء نوح لكي يملأوا الأرض بنسلهم. لم يأبه الكاتب على ذكر أية أنثى إذ قال: «وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساماً وحاماً ويافث. وحام هو أبو كنعان». تكوين 18:9. أمّا لماذا حدّد فقط أنّ حام هو أبو كنعان ولم يذكر شيئاً عن أبناء الولدين الآخرين فلأنه، على طريقة الأدباء الذين يكونون في طور كتابة قصتهم قد وضعوا تصميماً لها، قد وضع في تصوّره دوراً لكلّ ولد من أبناء نوح، وحفظ لسام مكانة فريدة لأنه قرّر أن يربط أصول العبرانيين «الإسرائيليين» اليهود بذريته، وقرّر أن يكون حام أباً لكنعان الذي يعتبر صاحب أرض كنعان الذي قرّر الكاتب أن يصدر على لسان الله فرماناً يلغي فيه كنعان ويبارك ساماً وصولاً إلى الوعد الذي أعطاه لإبراهيم، وجدده لاسحق ويعقوب والقاضي بطرد كلّ الشعوب التي كانت تقطن في أرض كنعان وإعطاء هذه الأرض لذرية إبراهيم أي إلى «الإسرائيليين». أمّا إذا قال قائل بأنّه لم تكن للمرأة قيمة في تلك الأيام لذلك تم تجاهلها وعدم ذكرها، نقول: ولماذا ذُكرت حواء. ولماذا بعدها ذكرت زوجة قايين ولماذا ذكر الكاتب امرأتي لامك بالاسم: «اسم الواحدة عادة واسم الأخرى صلّة» تكوين 19:4؟ وما هذا برأيي إلّا لأن الكاتب وقع بأخطاء كثيرة، مبالغات وتناقضات من شأنها أن تنفي كليّة أن تكون لله علاقة بما ورد في هذه الأسفار، بل هي كما تؤكد معظم الدراسات الحديثة بأنّها أساطير تأثّر بها أول وأهم كتبة التوراة عزرا الكاتب خلال وجوده في بابل في القرن الخامس قبل الميلاد فنسج على منوالها مغيّراً الأسماء وبعض التفاصيل لينسب لنفسه الإبداع ولكي تنطلق أكبر مؤامرة ضد الإنسانية والحضارة البشرية والتي استطاعت أن تفرض كتاب العهد القديم على أنّه كتاب الحضارة الخالد وهو الرحم الذي نمت فيه بقية الديانات.

وبالعودة إلى نوح يقول الكاتب بأنّه عاش تسعمئة وخمسين سنة، فهل يعقل أيضاً أن لا يلد إلّا هؤلاء الذكور الثلاثة. وإذا ما سلّمنا جدلاً مع ما أورده الكاتب نجد أنّه وفي الإصحاح العاشر قد ذكر ذريّة كلٍّ من سام وحام ويافث، وإذا ما جاريناه أيضاً بأنّ الله قد أنزل اللعنة على كنعان ابن حام لذنب لم يقترفه، فهذا يعني أنّ أهل الأرض الذين انحدروا من سام وحام ويافث هم الذين حملوا صفة الساميين نسبة لسام، والحاميين لحام، واليافثيين نسبة ليافث، وهم بالتالي أولاد عمومة، فلماذا هذا التركيز على ذرية سام فقط؟ ويأتيك الجواب عندما تقرأ في الإصحاح العاشر ما يلي: «وسام أبو كلّ بني عابر أخو يافث الكبير ولد له أيضاً بنون. بنو سام عيلام وأشور وأرفكشاد ولود وأرام».

فاعتبر الدارسون الصهاينة بأنّ بني عابر أبناء سام هم أصل العبرانيين، لكي يجدوا لهم صلة بسام. أمّا الحقيقة فهي أنّ الدارسين الموضوعيين لم يستطيعوا حتى الآن التأكد من هذه التسمية، فبالإضافة إلى بني عابر بعضهم يقول إنّها تعود إلى فعل عبر الذي دلّ إنما على عبور إبراهيم الخليل أحد الأنهر السورية وهو في طريقه إلى مصر فأطلقت هذه التسمية على ذريته، ومنهم من يقول بأنّها من الكلمة الكنعانية عابيرو أو خابيرو والتي كانت تطلق على قبائل من قطاع الطرق يقال إنّهم تمركزوا في فلسطين وكانوا يحاربون مع من يدفع لهم أكثر، ثم اختلطت التسمية فمن عبرانيين إلى «إسرائيليين» إلى يهود لتدل عل هذه القبائل البربرية التي تأثرت بنتاج الشعوب السابقة لها فقام بينهم بعض الكتبة ونسجوا على نمط أساطير الشعوب القديمة، واخترعوا لهم تاريخاً ربطوه ببداية الخليقة التي لا يعلم أحد عنها شيئاً سوى الخالق.

فإذا كان السّاميّون هم ذريّة سام استناداً إلى نظرية بعض الدارسين بأنّ ابن سام المدعو عابر هو جد العبريين اليهود، فهل هذا يسقط حقّ كلّ ذرية سام من أولاده الآخرين من الانتساب إلى الأقوام السامية؟ جاء في الصفحة 29 هامش رقم 2 من كتاب كمال الصليبي التوراة جاءت من جزيرة العرب ما يلي: «كان أ.ل. شلوزر هو أوّل من استخدم تعبير «الساميّة» لوصف الشعوب ذات العلاقة بالعبرايين ولغاتهم. والتعبير مأخوذ عن اسم سام شم بالعبريّة بن نوح، وهو الجدّ المزعوم للعبريين ولأقوام توراتية أخرى. تتحدث التوراة العبرية عن شعوب تحدّرت من سام دون أن تصفها بالسامية». هذا يعني أنّ التوراة وهي الكتاب الديني الأساس لليهود لم يقم علاقة بين اسم سام والشعوب التي خرجت من ذريته. ويعني أيضاً أنّ الصليبي بقوله «الجد المزعوم» قد وافق كلّ الدارسين الذين يعتبرون نوح وسام شخصيتين أسطوريتين وردتا في سفر الخليقة أي التكوين، كما ورد إسم زيوسودرا في أسطورة الطوفان السومري وأوتنابشتيم في اسطورة الطوفان البابلي. يقول الأب الدكتور سهيل فاشا في الصفحة 85 من كتابه التوراة البابلية : «والصورة التي رسمها العهد القديم للطوفان مأخوذة بحذافيرها من القصص السومرية القديمة والبابلية الحديثة». وهذا يؤكد أنّ كلّ الأسماء الواردة في الثوراة هي أسماء لأبطال القصة وهم لا علاقة لهم بالحقائق التاريخية، وبالتالي كلّ ما نتج من مفاعيل هذه الأحداث هو باطل لم يمت إلى الحقيقة الاجتماعية أيضاً بصلة. فسام شخصية أسطورية لم يرد ذكرها إلّا في التوراة، فكيف يمكن أن نبني عليها نظريات في علم الاجتماع لينسحب ذلك على السياسة بعد آلاف السنين؟ يقول إيلان هاليفي في الصفحة 56 من كتابه المسألة اليهودية : «إنّ التقسيم إلى الأنساب الثلاثة، سام وحام ويافث، الذي يُعتبر منذ أمد بعيد كتصنيف عرقي ألسني للأسرالبشرية قد أوحى بالعنصرية الرّقية لأوروبا ولأميركا… إنّ هذا التقسيم الخرافي الذي يجهل اتّساع العالم وتعددبة الشعوب والحضارات التي لم يدركها الشرق القديم لم تُؤيَّد لا بالتاريخ ولا بالألسنية» ويذكر الكاتب أيضاً في الصفحة 126 بأنّ تفسير تكوين الأمم على أساس عرقي هو شكل من الأشكال المبتذلة للعقلية العنصرية. إذن ليس من المعقول ونحن في القرن الحادي والعشرين أن نرجع جماعة دينية ما إلى جد واحد يعود وجودة الخيالي إلى ما يزيد عن عشرة آلاف سنة، قافزين فوق كلّ القوانين الاجتماعية والتاريخية التي تؤكد لنا عدم وجود عرق صافٍ نتيجة التزاوج بين الشعوب المختلفة والذي ينتج عن الحروب وما تبعها من انتصار وانكسار وسبايا، ونتيجة للاندماج الذي كان يتم في كلّ بيئة بين المقيمين والوافدين إليها والذي لا يزام يتم حتى يومنا هذا.

السامية والسموّ

أمّا إذا حاولنا فهم هذه المقولة من الناحية اللغوية لتوصّلنا إلى النتيجة ذاتها. فما هو متعارف عليه باللغات السامية ما هو إلّا تسمية أطلقها بعض الدارسين على اللغات القديمة التي تكلّمت بها شعوب تلك الأزمنة ومنهم من استند إلى الأساطير التوراتية معتبراً أنّها حقائق تاريخية. يقول الكاتب يوسف رشاد في الصفحة 121 من كتابه التوراة العدو اللدود للسامية : «السامية لغة معناها من السمو، والعلوّ، يُقال مقام سام: أي عال ورفيع، وتسامى القوم: أي تباروا وتفاخروا». أمّا من حيث المصطلح فيقول: «ينقسم معنى كلمة سامية إلى لغات وشعوب. «فاللغات السامية هي اللهجات التي يتكلّم بها سكان القسم الجنوبي من غرب آسيا من حدود الأرمن شمالاً إلى البحر العربي جنوباً، ومن الخليج شرقًا إلى البحر الأحمر غرباً، وهي منسوبة إلى سام بن نوح. والشعوب السامية هي التي تتكلّم بهذه اللهجات». فالكاتب هنا يربط لفظة السامية باللغات، فما علاقة اليهود بها إذن؟ هل لغتهم لغة سامية؟ يقول جودت السعد في الصفحة 13 من كتابه أوهام التاريخ العبري : «اللغة العبرية لغة حديثة نسبياً، لم يبدأ الحديث والكتابة بها قبل القرن الثاني قبل الميلاد، وقد بُدي بتطويرها من القرن الرابع ق.م. ولم تصبح لغة كاملة إلاّ بعد القرن السادس الميلادي». حتى أنّ التوراة لم تكتب بداية باللغة العبرية لأنّها كانت لجهة محليّة محدودة بل كتبت باللغة الآرمية المنتشرة في سورية الطبيعية في ذلك الوقت. ويقول ربيع داغر في الحاشية رقم 11 من الصفحة 25 في كتابه «إسرائيل» والصراع المستمر : «علماً بأنّه في عام 1905 كانت نسبة اليهود الذين يتكلمون اللغة العبرية حوالى 2 من يهود العالم». فما علاقة السامية التي تعود أسطورياً إلى آلاف السنين بهذه اللغة الحديثة؟ يقول لوسيان كافرو دومارس في الحاشية رقم 1 من الصفحة 318 في كتابه العار الصهيوني : «اللغة العبرية الربينية، التي ظهرت بعد التوراة التي أهملها الشعب الذي كان يتكلّم الآرامية واليونانية واللاتينية، أعادها الانتداب الإنكليزي الى التداول عام 1920 في فلسطين». إذن كان وراء ذلك أهداف سياسية لم تعد بخافية على أحد. إنّ الاضطهاد الذي لحق باليهود في أوروبا جعلهم يفتشّون عن مخرج علّه يخفف عنهم حدة هذا الاضطهاد الذي ساقوه لأنفسهم نتيجة انغلاقهم ورفضهم الإندماج بالمجتمعات التي حلّو فيها، ونتيجة أفكارهم الدينية التي لم يستطيع المسيحيون في تلك الأيام تقبلها، ونتيجة دسائسهم وتفجيرهم للثورات وقيامهم بالمذابح، فردّت لهم تلك المجتمعات الصاع صاعين. ولقد وجدوا بعد حين المخرج انطلاقًا من لجوئهم إلى كتابهم الديني الذي أقنعوا أصحاب الإيمان البريء بأنّ ما جاء فيه هو كلام الله وبالتالي كافر كلّ من لا يعمل على تحقيق مشيئة الله.

يقول الفيلسوف الفرنسي بول – هنري ديتريك جولباخ 1723 1783م ما يلي: «بسبب دينهم كان اليهود دائماً أعداء كلّ البشرية، وليس مدهشاً أن تقف البشرية جميعها ضدّهم». ثم يتابع: «إنّ سلوك اليهود خلق ضدّهم كره ومقت ولعنة كلّ الشعوب، وكانوا هم السبب في كلّ ذلك» نقلاً عن كتاب د. كارنييف: اليهود واليهودية في نظر شعوب العالم، ص 74 .

ولا بدّ لنا من إلقاء الضوء على مفهوم السامية عند أبي الصهيونية الحديثة تيودور هرتزل. ينقل كولن تشابمن في الصفحة 73 من كتابه أرض الميعاد لمن؟ هذا المقطع لهرتزل: «أفهم ما تعنيه اللاسامية. بقينا، نحن اليهود، ولو لم يكن هذا خطأنا نحن، جسماً غريباً بين الأمم المختلفة. واكتسبنا في الفيتو، عدداً من المميزات اللااجتماعية… اللاسامية هي نتيجة تحرّر اليهود. إنّ الشعوب التي حولنا، والتي ينقصها الفهم التاريخي لا تنظر إلينا كنتاج تاريخي… عندما خرجنا من الغيتو، لنا، في نظرهم «يهود الغيتو» وكان يجب أن نعطي بعض الوقت لنتكيّف مع الحرية. وحدها اللاسامية هي التي جعلت منا يهوداً». لقد حاول هرتزل بهذا الكلام أن يتنصل من مسؤولية اليهود تجاه المجتمعات التي عاشوا فيها، وألقى مسؤولية اضطهادهم على الآخرين نتيجة عدم فهمهم للتاريخ ولطبيعة وجود اليهود، وهذه كذبة أخرى من أكاذيبهم لأنّ تاريخ اليهود القديم والحديث يشهد على أنّهم اختاروا بإرادتهم العيش في غيتوات وذلك انطلاقاً من مفاهيمهم الدينية العنصرية التي ما زالوا متمسكين بها لغاية اليوم والتي تنشّئهم على أنّهم شعب الله الخاص وكل الآخرين حيوانات يجب أن تسخّر لخدمتهم. فإذا قالوا بأن الله هو من اختارهم نقول هذا كذبكم لأنّ كتبتكم اخترعوا لكم هذا الإله القبلي أسوة ببقية الشعوب القديمة التي كانت لها آلهتها، وقوّلوا هذا الإله بما يدعّم مخططهم الإرهابي القاضي بالسيطرة على أرض الآخرين بكل الوسائل. وعندما يقول بأنّ اللاسامية وحدها جعلت منهم يهوداً فهذا صحيح لأنّهم الوحيدون الذين استغلّوا هذه البدعة لابتزاز أوروبا بأجمعها لتدفيعها ثمن ما قامت به من اضطهاد لهم، وما زالوا لغاية الآن يستغلون تهمة اللاسامية برميها بوجه كلّ صوت يرتفع مندداً بإرهاب إسرائيل على مختلف الصعد. يصف المؤرخ البريطاني جايمس باركس اللاسامية بما يلي: «إنّ اللاسامية الحديثة سلاح سياسي تم اختراعه عن سابق تصوّر وتصميم، وطوّر، على نحو مصطنع، لأجل غايات لا تمتّ إلى الشعب اليهودي أو الديانة اليهودية بصلة». إذن نخلص إلى القول بأنّ السامية وهم أطلقه بعض الدراسين للغات القديمة انطلاقاً مما قرأوه في التوراة لا بعين العقل وإنما بعين الإيمان البدائي، وتلقفت الصهيونية الحديثة هذه المقولة معتبرة أنّها تعني فقط اليهود، ومن هذا التزوير الفاضح انطلق اللوبي اليهودي في العالم لكي يهدد كلّ صاحب ضمير حي، وكلّ صاحب رأي حرّ، وكل من ملك الشجاعة وواجه «إسرائيل» والصهيونية وفضح مؤامرتها الرامية إلى إلغاء شعب بكامله من الوجود، وبناء وجودهم العرقي الوهمي على أنقاضه، ثم تجاوزتا البناء العرقي الممجوج لدى الرأي العام العالمي للتركيز على البناء الديني الذي لقي أرضًا خصبة خاصة عند المسيحيين وهم المتضررون أكثر من غيرهم من هذا التزمت الديني الحرفي البغيض. وبالرغم من كلّ الإرهاب الذي مورس بحق المفكرين الذين ملكوا من الشجاعة ما لم يستطع أحد إسكاتهم، لم تستطع بالمقابل حناجرهم من وقف بدعة تهمة اللاسمية من التمادي بإرهاب ضعفاء النفوس. يقول السيناتور الأميركي بول فندلي الذي فضح الكثير من أسرار تدخل اللوبي اليهودي بالسياسة الأميركية مستعملاً تهمة اللاسمية: «وتنطلق صيحة اللاسامية المدوّية في مهلة قصيرة، وهذه التهمة هي التي تجبر الصحافيين على إعطاء «إسرائيل» أكثر من نصيبها في تغطية أحداث الشرق الأوسط». ويقول الصحافي هارولد ر. بايتي: «إنّ صيحة اللاسامية القبيحة هي العصا التي يستعملها الصهاينة لحمل غير اليهود على قبول وجهة النظر الصهيونية بشأن الأحداث العالمية أو التزام الصمت». إنّ ما يطلقون عليه تسمية الهولوكوست لوصف المذابح التي ارتكبتها بحقهم النازية، ما هو إلّا خدعة جديدة استطاعوا من خلالها ابتزاز أوروبا بدفعها لدعم احتلالهم لفلسطين من جهة، ولاستمرار التعويض المادي عليهم ما ساعدهم في دعم اقتصاد «إسرائيل» ومدها بالموارد المالية التي حققت لها نوعاً من الاستقرار الاقتصادي. ويكفي أن أعطي في هذه الدراسة المقتضبة مثالاً واحداً عن تهمة اللاسامية المعلبة سلفًا لإلصاقها بمن يعتبرونه عدواً لمصالحهم. الكلّ يعرف أنّ ما من مرشح لمنصب رئيس للولايات المتحدة إلّا ويتزلّف للوبي اليهودي لكي يؤمن الفوز. ويلاحقونه بعد الفوز فيبتزّونه بشكل سافل، كما حصل مع بيل كلينتون ومونيكا لوينسكي، لكي يضمنوا استمرار دعمه لـ»إسرائيل». يقول الرئيس السابق جيمي كارتر في الصفحة 17 من كتابه السلام ممكن في الأراضي المقدسة ، والذي تجرّأ على كتابته بعد انتهاء ولايته، ما يلي: «قلّة من المرشحين أو ممن يتبوأون المناصب الحكومية يجاهرون بأي انتقاد للسياسات الراهنة للحكومة «الإسرائيلية»». وبمجرد أنّ حاول أن يلفت النظر إلى حق الفلسطينيين بحياة طبيعية داخل دولة مستقلة، وعلى أثر إصدار كتابه سلام فلسطين وليس الفصل العنصري الذي صدر عام 2006، أصبح عرضة لهجوم عنيف من أبواق الصهيونية وصبّ عليه اللوبي اليهودي غضبه، وبالطبع كانت تهمه اللاسامية جاهزة لشهرها في وجهه. يقول في الصفحة 19 من مقدمة كتابه السلام ممكن… ما يلي: «إلاّ أنّني دُهشت وأصابني الكرب عندما اتّهمت بأنّني معادٍ للسامية، وخرف، وكاذب، ومنتحل، وعرقي، ولا عهد لي بالمنطقة، ومساند للإرهاب». أما عندما كان في سدّة الرئاسة يزوّد «إسرائيل» سنوياً بمليارات الدولارات وأطنان الأسلحة لتدمير مدننا وقتل شبابنا ونسائنا وأطفالنا فقد كان بنظر الصهاينة مثالاً للرئيس الديمقراطي المحب لـ»إسرائيل» والإنسانية.

إنّ هذه البدعة هي أخطر وسيلة بيد الصهاينة لاستمرارهم بإسكات الأصوات الحرّة المدافعة عن حقوق المقهورين والمظلومين. آن الأوان أن يتمّ التركيز في إعلامنا الذي يتلهى بالقشور على فضخ هذه الكذبة التاريخية، وتسليط الضوء على بطلانها على الصعد كافة، عرقياً ولغوياً ودينياً وسياسياً. وعلى المفكّرين العرب كافة، ولا أقول الحكّام لأنّ لا مصلحة لهم بواجهة التزوير اليهودي، أن يقوموا بدورهم من خلال التوعية لأجيالنا بداية على خطورة هذه البدعة من جهة، والسعي عبر صداقاتهم الفكرية والإعلامية العالمية لوقف هذه المهزلة التي لا تطال أمتنا فقط بل كلّ الأحرار في العالم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى