الأمن العام: عين ثلاثيّة الأبعاد
روزانا رمّال
منذ اندلاع أزمات «الربيع العربي»، وأجهزة الأمن الإقليمية والدولية واقعة تحت تأثير مفاعيل الأزمات المتدحرجة، بشكل دراماتيكي، نحو كلّ ما يمكن أن تكون له علاقة به أو يقع ضمن البلدان المستهدفة، فانعكست جاهزية تامة ومطلقة جعلت من الأحداث السياسية خبراً أولَّ لدى هذه الأجهزة تستشرف من خلالها الاستعدادات المطلوبة قبل وقوع أي طارئ لأنّ أي تهاون، في هذا الإطار، لن يفيد.
«إسرائيل» تتقدّم نحو دعم حركات التطرف، كحركات تدعم تكريس أجهزتها الأمنية والاستخبارية، بصفتها الأكثر تفوقاً في المنطقة، وليست الحرب القائمة اليوم إلا حرب تفكيك الجيوش وأجهزة الأمن والاستخبارات، قبل تغيير الأنظمة وهي غير قادرة على أن تتفاعل مع أي جديد إذا كانت هذه الأجهزة خاضعة لمنهجية خارجة عن المصلحة العامة.
لهذا السبب تحتاج كلّ الثورات والحركات الشعبية، مدعومة كانت أو عفوية، إلى مساندة أجهزة الأمن التي غالباً ما تقوم بواجبها ببسط السيطرة على الشارع كي لا يفلت زمام الأمور وتعمّ الفوضى، مع التشديد الأمني على مرافق الحدود كافة ونقاط التفتيش، كي لا يُفتح الباب على مصراعيه أمام استغلال أي طرف خارجي للفوضى.
تدخّل الحركات الإرهابية عموماً من بوابة الفوضى، هكذا تقول التجارب الليبية والسورية والعراقية، ومن دون الفوضى المدروسة لا يمكن لهذه الجماعات أن تُحدِث أي تقدم. وقد تجسّد الأمر في خروج آلاف المحتجّين للمطالبة بتحسين معيشتهم، فاندلعت مواجهات بين قوى الأمن وبينهم حتى تحقق التبرير المنشود لدخول حركات تدعم المتظاهرين، وبالتحديد «مظلومية» هؤلاء المتظاهرين، فتستخدم السلاح ليتطور المشهد فتوجّه رصاصاتها نحو الجسم الأمني مباشرة حتى يقع في صفوف عناصره بعض الرُّهاب فتتفكك جيوش وأجهزة أمنية ضمن هذه المعادلة. فكيف إذا كانت الأرض خصبة بالنزاعات الطائفية وواعدة بنجاح تكريس الفوضى؟
دخل تنظيم «داعش» كلاً من سورية والعراق على أنقاض الفوضى الحاصلة من اقتتال عشائري ومذهبي وخلافات مع السلطة. احتجاجات شعبية قادت إلى تدهور شديد فأحدث خروقاً وخيانات وسقطت أجهزة أمنية وسُلّمت محافظات، برمّتها، إلى التكفيريين.
إذاً، لا يمكن للإرهاب وضع يده على أي بقعة لا تزال فيها القبضة الأمنية مُحكمة وغير خاضعة لمخاطر الوقوع في ثغرات الخروق الاستخبارية، وهنا فإنّ دور الأجهزة الأمنية يكمن في رفع التشديد والحزم والجدية ومنسوب الوحدة الوطنية في صفوف عناصرها في لعبة أمنية خطيرة ترعاها العين «الإسرائيلية» بشكل جيد.
المشروع المتطرف في المنطقة يخدم «إسرائيل» بشكل كبير، لأنها تعاني من مخاطر نشوء حركات مقاومة تتقدم نحوها بنسبة كراهية شديدة الدقة لم تعد قادرة على مواجهة صعودها بحروب مفتوحة تأكل من لحمها الحي واقتصادها، فكان لا بدّ من إشغال الجيوش والأجهزة الأمنية بالفوضى الخلاقة وهي مشروع المحافظين الأميركيين الجدد الذي طرح منذ غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين الذي بدا أنه مشروع قابل للسيطرة وليس مشروعاً خارجاً عن الإرادة الأمنية الأميركية.
واليوم يقع المشروع نفسه، تحت السيطرة الأمنية الأميركية أيضاً ولا شيء في هذه المنطقة التي تُسمّى في الفكر السياسي «قلب العالم» خارج عن قدرة ضبط أطرافها له.
أثبتت الأجهزة الأمنية السورية وعيها ويقظتها وتنبّهها إلى وجود مخطط سيطيح بكلّ ما بُني من مؤسسات في الدولة، لذلك صمدت إلى حدّ كبير ومشهود، برغم وجود انشقاقات في بداية الأزمة، فلم يسقط النظام وتماسكت الدولة ولا تزال الأجهزة الأمنية فيها تمارس عملها بشكل طبيعي.
أما في مصر والعراق، فإنّ الأجهزة الأمنيّة والقيادات السياسية تحاول معاً، مواجهة مخاطر التفكيك والاستهداف، بالممكن والمتاح، رغم أنها وقعت أسيرة السياسات والتجاذبات التي كادت تطيح بها بعد سلسلة تفجيرات استهدفتها.
لبنان الغارق في أزماته يبدو أكثر البلدان دراية لكلّ هذه المخاطر ولكلّ ما يحدث حوله، علماً أنه شهد أقصى عمليات التفجير ومحاولات التقدّم نحو قراه الحدودية وعمليات انتحارية داخل بيروت وأماكن عدة أخرى، ولا يزال القلق يراود اللبنانيين عند كلّ استحقاق لكنّ المحاولات الخطيرة فشلت تباعاً، خصوصاً لدى ترهيب عناصره الأمنية بالخطف وبثّ الشقاق.
اللافت وسط هذا الواقع، جهاز الأمن العام اللبناني الذي يُظهر توازناً شديداً وجدية في التعاطي مع الأحداث المحيطة ما يعكس انسجامه التام مع الأجهزة الأمنية الأخرى ومتابعة بحثية وعلمية لمتغيرات المنطقة وانسجام مع كلّ ما يندرج في إطار حماية هوية لبنان وإبعاده عن مخاطر التفكك. وعلى هذا الأساس، تتوالى إنجازاته الأمنية بأبعاد ثلاثية المفاعيل، ويحمل كلّ إنجاز تفسيراً فالجهاز نجح أولاً في كشف خلايا تجسِّس «إسرائيلية» داخل البلاد وأحدثها في الجنوب. وثانياً، نجح في ملاحقة خلايا تكفيرية أبرزها عملية توقيف الإرهابي أحمد الأسير، إضافة إلى حزم حدودي مطلق من دون تهاون أو تراخٍ.
الأمن العام يكشف اليوم القلق «الإسرائيلي» المتزايد، إقليمياً، بازدياد الحركة النشطة لشبكات الإرهاب والتجسُّس، لكنّ الأهم أنّ الجهاز وضع نفسه في خانة مواجهة المخططات «الإسرائيلية» والتكفيرية بعنوان عريض جعل منه شريكاً للمقاومة في البلاد، مؤسساً لمعادلة أمنية جديدة مشتركة، على الرغم من محاولات البعض فضّ المعاهدات السابقة التي نشأت بينه وبين الجيش.