فرنسا تسعى لتعويض خيباتها الإقليمية بجائزة ترضية في لبنان وتراهن على علاقتها المستجدّة مع طهران
هتاف دهام
باتت فرنسا على هامش الملفات الإقليمية كلّها في المنطقة، ولا تملك أيّ خصوصية في أيّ ملفّ، بخاصة بعد أن ذهبت بعيداً في خياراتها المنحازة للمجموعات المسلحة الإرهابية إزاء ما يجري في سورية. وقفت عدوانياً تجاه حلف مقاومة «إسرائيل»، وجسّدت هذا الأمر بقوة في المفاوضات النووية التي أخذت فيها موقف الحليف لـ«إسرائيل» والمملكة السعودية، ولعبت دور المعرقل الدائم الذي يمثل وجهة النظر «الإسرائيلية» السعودية. شاركت فرنسا في مؤتمر فيينا الذي حضرته إلى الولايات المتحدة وروسيا وألمانيا وبريطانيا وإيران والسعودية وتركيا والأردن ولبنان، بعد أن شاركت في مؤتمري جنيف 1 وجنيف 2، لكنها فشلت بفرض نفسها كلاعب رئيسي في المشهد السوري، على عكس موسكو وطهران التي تبوأت نجومية المؤتمر.
احتضنت منطقة الشرق الأوسط التفكير السياسي الفرنسي منذ أمد بعيد، حيث شهدت المنطقة دخولاً فرنسياً قوياً إبان مرحلة الانتداب الفرنسي في لبنان وسورية، واستمرّ بعد استقلال دول المنطقة، فالمندوب السامي الفرنسي إلى لبنان الجنرال غورو هو مَن أنشأ دولة لبنان الكبير، وكان النفوذ الفرنسي حينها يعتمد على الموارنة، ما أدّى إلى تغذية الطائفية. لكن مع متغيّرات التطور الداخلي واستقالة الجنرال شارل ديغول غداة خسارته في الاستفتاء وانسحابه من الحياة السياسية وسقوطه في المسرح الفرنسي والدولي، بدأ النفوذ الفرنسي يتراجع شيئاً فشيئاً مقابل النفوذ القوي للولايات المتحدة الأميركية.
تغيير الأحصنة
كان ذلك أول صافرة إنذار لفرنسا أنها بدأت تخسر في الفضاءات الخارجية، لا سيما في لبنان مع بداية الحرب الأهلية مترافقة مع انهيار أمني كان موجهاً ضدّ «المارونية السياسية» التي كانت الرافعة الأساسية للسياسة الفرنسية التي أخفقت مبادراتها لوقف الحرب. ثم تلقت الصفعة الكبرى بتوقيع اتفاق الطائف الذي نقل الحكم من «المارونية السياسية» إلى «السنية السياسية»، وسارعت إلى انتهاج لعبة تغيير الأحصنة، ونقل رهاناتها من الموارنة إلى السنة، التي بدأت تنظر إليهم من خلال «زعامة» الرئيس الراحل رفيق الحريري، غير أنّ دور المندوب السامي تراجع وحلّ مكانه الدور الفرنسي الشريك في لبنان عبر «الحريرية السياسية» التي ورثت «المارونية السياسية»، وصولاً إلى الضربة القاضية في العام 2005 مع اغتيال الرئيس الحريري، فتصرّفت فرنسا الرئيس الأسبق جاك شيراك بذهنية انتقامية متهوّرة عبّرت عن خشية على مستقبلها في لبنان. فاحتضنت فريق 14 آذار بالشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية التي تعاظم نفوذها بشكل كبير في المنطقة بعد الحرب الباردة وتمثل بفرض هيمنتها وتدخلها في شؤون المنطقة بعد أحداث 11 أيلول 2001، وغزو العراق واحتلاله الذي عارضته فرنسا بشدة في البداية.
إنّ عدم الاستقرار في المنطقة بشكل عام منذ العام 2005 أدّى إلى تراجع «الحريرية السياسية» التي فقدت القدرة على إدارة لبنان، ما انعكس سلباً على الدور الفرنسي الذي أضاع الموارنة ولم يربح السنّة، في حين أنّ العلاقة مع الشيعة يشوبها الغموض والحذر، فلا تستطيع باريس أن تذهب بعيداً في عدائها مع المقاومة، وفي الوقت نفسه هي غير واثقة بأنّ علاقاتها مع الشيعة قد تكون مستقرّة وتحقق لها أهدافها.
والدليل الآخر على التراجع الفرنسي، هو دور «اليونيفيل» في لبنان فبعد أن كان عديد الكتيبة الفرنسية يقدّر بنحو 2000 جندي فرنسي العام 2006 تقلص العدد إلى أقلّ من 800، وباتت قيادة «اليونيفيل» محصورة مداورة بين الإيطاليين والإسبان، ليعيش الجنود الفرنسيون قوقعة عن أداء أيّ دور حيوي داخل أسوار دير كيفا. وهذا يعود إلى مجموعة مغامرات خاضها هؤلاء ضدّ أهالي الجنوب تمثلت بالتجسّس على المقاومة والأهالي، حيث جرى تأديبهم بمجموعة من الصدامات ضربت أحلامهم في ما يسمّى التدخل السريع داخل «اليونيفيل».
بدأ الدور الفرنسي يعود تدريجياً إلى لبنان مع وصول الرئيس نيكولا ساركوزي إلى الرئاسة الفرنسية، بعد أن أضحت السياسة الخارجية الفرنسية مهيأة لتحولات مهمّة، تدفع نحو الابتعاد وبشكل جليّ وواضح عن المواقف الفرنسية التقليدية المعروفة، من خلال تبنّي سياسات ومواقف تقرّبها أكثر من السياسات الخارجية الأميركية، فالاتهامات الفرنسية لحزب الله من سيد الاليزية ساركوزي باستهداف «اليونيفيل» في صيدا، وإدراج ما سُمّيَ «الجناح العسكري» لحزب الله في لائحة الإرهاب الأوروبية تحت ذريعة «تفجير بورغاس»، وإلصاق هذه التهمة وغيرها بالجناح العسكري… كان سبقها استقبال باريس وفداً رسمياً من حزب الله في إطار محاولتها حلّ الأزمة اللبنانية بخصوص الحكومة العام 2008، وأعقبتها دعوة النائب علي فياض إلى لقاءات في مركز التحليل والاستكشاف في الخارجية الفرنسية، بالتقاطع مع زيارات السفيرين السابقين دوني بييتون وباتريس باولي والسفير الحالي ايمانويل بون قياديّي ومسؤولي حزب الله في الضاحية الجنوبية. وإذا كانت هذه الزيارات إلى حزب الله معيارها البسيط تسليم فرنسي بمحورية دور المقاومة في المشهدين اللبناني والإقليمي، لا سيما بعد الأزمة السورية، فإنّ هذا النوع من التواصل يبقى محصوراً، من حيث الأهمية بالشكل، ما دامت سياسة الإدارة الفرنسية تحافظ على منطق الهروب إلى الأمام، وهذا ما أدّى إلى إفقاد فرنسا أيّ موقع وسيط يسمح لها بأداء أيّ أدوار إيجابية داخل لبنان وحتى في أزمات المنطقة.
تعيش فرنسا تخبّطاً في سياستها تجاه سورية بعد الاتفاق النووي بين إيران والسداسية الدولية وما أعقبه من تدخل جوي روسي في سوري ما يحتم على باريس التطلع نحو آفاق جديدة لا سيما في لبنان، وتتصوّر أنّ ترميم علاقاتها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد يمكّنها من تطبيع العلاقات مع حزب الله في لبنان، وتحفظ لها العلاقات المميّزة مع المملكة السعودية العلاقات مع تيار المستقبل، فيما «القوات» و«الكتائب» وحتى التيار الوطني الحرّ الموارنة محكومون بحسن العلاقة معها كما هي حالهم مع الفاتيكان. هذا التصوّر غير القائم على قواعد حاسمة وأكيدة يجعل فرنسا تأمل بمستقبل ما في لبنان وتعلقه على حسن العلاقة مع طهران، ولذلك تحاول أن تتودّد لإيران تحت سقف معيّن لا يُغضب «إسرائيل» ولا يُنفّر السعودية.
فشل المسعى الفرنسي لاختراق رئاسي
وإذا كانت فترة تقطيع الوقت اللبنانية تبدو طويلة جداً، فإنّ لبنان يعتبر دائماً بالنسبة إلى فرنسا آخر جائزة ترضية متبقية لها يتركها لها الأميركي على الطاولة، وأتت الرياض لتكرّس هذا الربط عبر ما سُمّي بصفقة الأسلحة للجيش. وكان الفرنسيون منذ حصر الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند لقاءاته، خلال الزيارة التي قام بها إلى لبنان بالرئيس السابق ميشال سليمان ورفضه حينها الاجتماع بأيّ مسؤول آخر سواء رئيس المجلس النيابي نبيه بري أو رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي في العام 2012، أخذوا على أنفسهم دعم الرئاسة الأولى فقط، علماً أنّ ميقاتي التقى هولاند بعد 5 أيام في الاليزيه.
شكلت تلك الزيارة الإشارة إلى الحرص الفرنسي على عدم زيارة لبنان في ظلّ الشغور الرئاسي، لكن أُعلن فجأة منذ شهرين عن زيارة هولاند إلى لبنان لتكسر هذه المعادلة في ظلّ الشغور الرئاسي غير أنّ السرّ وراء إعلان تأجيل هذه الزيارة التي ماتت قبل أن تولد، هو كون الزيارة الرئاسية الفرنسية تتويجاً له، بعدما سبق ذلك طرح وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس على وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف خلال زيارته إلى طهران منذ نحو ثلاثة أشهر العنوان اللبناني كعنوان أولّ، وطلب من الإيرانيين المساعدة في تحريك الملف الرئاسي، وجدّد فابيوس خلال لقائه الرئيس الإيراني حسن روحاني دعوته إلى بذل الجهود بهذا الشأن، إلا أنّ روحاني لم يتحدّث في الأزمة الرئاسية اللبنانية وإنما تحدّث بالعموميات وتداعيات الاتفاق النووي. وأثار هولاند مع روحاني على هامش الجمعية العامة ملفّ الانتخابات الرئاسية في لبنان وسمع الموقف الإيراني نفسه: إنّ القرار في الانتخابات الرئاسية اللبنانية يعود إلى اللبنانيين بشكل عام، وإلى المسيحيين بشكل خاص، غير أنّ هولاند أبلغ الرئيس تمام سلام أنّ ردّ روحاني كان أنهما سيقاربان الموضوع خلال زيارته إلى باريس منتصف تشرين الثاني المقبل استكمالاً لما باشراه في اجتماع نيويورك. ويأتي الكلام الفرنسي، بحسب مصادر مطلعة في إطار التلفيقات الفرنسية، وفي إطار محاولة باريس إحراج طهران عشية اللقاء المرتقَب بين روحاني وهولاند على هامش قمة المناخ في باريس، ومسارعة السفير بون عشية زيارة الرئيس الإيراني إلى فرنسا للقاء رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد.
تزامنت اللقاءات الفرنسية ـــ الإيرانية مع حركة مكوكية قادها السفير الفرنسي ورئيس دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية الفرنسية جان فرانسوا جيرو، إلى رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون، وتوجيه دعوة له لزيارة باريس ضمن معادلة كانت تبحث عن الثمن الذي يمكن أن يقبل به الجنرال ليقبل فتح الباب الرئاسي، أعقبها لقاء جمع رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي جيرار لارشيه بالنائب ألان عون في السفارة الفرنسية في قصر الصنوبر. وجرت محاولات لعرض أسماء لرئاسة الجمهورية يختار من بينها الجنرال، الذي بحلفه الوثيق مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله والرؤية الاستراتيجية بين الرجلين للواقع المحيط بلبنان والمنطقة. لكن أجهضت هذه المحاولة الفرنسية الخبيثة التي كانت تهدف إلى تمرير ما يُسمى بالرئيس التوافقي وطرحت بالمناورة مع السعودية اسمين محددين، هما اسم الوزير السابق جان عبيد الذي يلقى ترحيباً من رئيس مجلس النواب نبيه بري والنائب وليد جنبلاط واسم قائد الجيش العماد جان قهوجي الذي يحظى بدعم من الرئيس سعد الحريري، وصولاً إلى ما سُمّي بمبادرة الإغراء بطرح ثلاثة أسماء أقرب إلى 8 آذار ليست من الصف الأول إنما من الصف الثاني. لكن موقف الجنرال المبدئي بالتكامل والتضامن مع السيد نصر الله حول أحقية المرشح الأكثر تمثيلاً وطنياً ومسيحياً ومشرقياً، والأكثر عداوة للإرهاب في الشرق، والأكثر إصراراً على ضرورة التصدّي له، والمؤمن بمصيرية المعركة التي تخاض في سورية والعراق وعلى امتداد الساحات، والأكثر قرباً من المقاومة، والاقتناع الحاسم لعون بأنه لن يكرّر غلطة انتخاب الرئيس سليمان في 2008. لكلّ هذه الأسباب أُجهضت الأحلام الفرنسية المشتركة مع قوى لبنانية في المهد وألغيت زيارة هولاند واقتنع الفرنسيون بأنهم أعجز من أن يملكوا تأثيراً حقيقياً حتى في لبنان الصغير.
بين روسيا وفرنسا…
ومع تراجع الدور الفرنسي وحلول دول إقليمية وغربية مكانه في لبنان، ما هي أوجه التنافس بين الدورين الروسي والفرنسي في لبنان؟ يختلف ميدان كلّ من الطرفين عن الآخر انطلاقاً من مواقف الفرقاء من الأزمة السورية ومن الحريق العربي. فلا تستطيع فرنسا أن تكون حيث تتدخل روسيا وعلى رغم ذلك، يبدي الفرنسيون تخوّفاً مستجداً من حجم الحضور الروسي الاستراتيجي في شرق المتوسط والمياه الدافئة، باعتبار أنّ الروس لديهم شبكة علاقات جيدة في المنطقة ويشكلون صلة وصل بين كلّ الأطراف الخارجية والداخلية، بخاصة أنّ دفع المفاوضات في الملف السوري إلى الأمام في فيينا سيخوّله أن يخوض نجاحاً آخر في لبنان، وهذا ما جعل فرنسا هولاند تسارع إلى تعديل مكشوف لما يُسمّى الحرب على تنظيم «داعش» الإرهابي في سورية، فهي لم تنخرط أصلاً في تحالف محاربته، لتعلن فجأة عن حربها ضدّ هذا التنظيم ومشاركتها بـ 6 طائرات من طراز ميراج تتمركز في الأردن، و6 من طراز رافال تتمركز في الإمارات العربية المتحدة، في حين أنّ طائراتها لم تشن غير 3 غارات، وصولاً إلى إرسالها حاملة الطائرات شارل ديغول، التي كانت في ميناء الصيانة الفرنسي في تولون، للمشاركة في عمليات ضدّ التنظيم الإرهابي في سورية والعراق، برغم أنه ثبت منذ غزو مالي أن لم يبق لباريس قدرات عسكرية استراتيجية للتحرك في الخارج، والدليل أنّ الأميركيين نقلوا للفرنسيين قواتهم وقبضوا ثمن كلّ ساعة نقل 50 ألف دولار.
وعليه فإنّ الدور الفرنسي السياسي والعسكري في حالة انكفاء، والحراك الباريسي ليس إلا إدراك متأخر لسلة الأخطاء التي ارتكبتها الإليزيه منذ الخيار المعادي لسورية الأسد، بعد أن فشل الرئيس ساركوزي بما سُمّي إغواء الأسد ليكمل هولاند السياسة العدوانية. وليس سراً ما تكشف عن صراع أجهزة بين الاستخبارات الداخلية والخارجية ، فالأولى تقول بالتعاون مع الحكومة السورية لمحاربة الإرهاب، والثانية تضغط باتجاه البقاء في معاداة سورية.