الحريريّة
حسين حمّود
مرّ خبر خسارة مرشح تيار المستقبل للانتخابات الفرعية لمجلس نقابة المحامين في طرابلس التي أجريت يوم الأحد الماضي، وفوز مرشح الوزير السابق فيصل كرامي مدعوماً من بعض الحلفاء، مرور الكرام بالرغم من دلالاته العميقة ليس على مستوى النقابة فحسب، بل على صعيد الحريرية ومستقبلها.
طبعاً الحريرية لم تنتهِ، ولا تيّارها باتَ خارج المعادلة السياسية، لا في طرابلس والشمال ولا في غيرهما من المناطق. لكن نتائج الانتخاب والطابع الحادّ الذي اتخذته المعركة يؤشّران إلى أنّ التيار الأزرق ليس في أحسن حال، ولا حتى مستقراً، بل هو في تراجعٍ ملحوظ لأكثر من سبب في عهد الرئيس سعد الحريري.
فالحريرية في زمن الحريري الإبن، الوريث السياسي لمؤسّسها الراحل رفيق الحريري، اعتمدت على ثلاثة عوامل: الأول دم الحريري الأب عقب اغتياله الذي أدّى إلى التعاطف الشعبي والسياسي على نطاق واسع مع العائلة المفجوعة.
العامل الثاني، استثمار تيار المستقبل للاغتيال في الشحن المذهبي وتصويره أنّ الطائفة السنية هي المستهدفة من وراء جريمة اغتيال رفيق الحريري، الأمر الذي أدّى بدوره، إلى اتساع القاعدة الحريرية في أوساط مذهبه في المناطق اللبنانية كلّها، والاحتشاد خلف الحريري الشاب وقراراته مهما كانت ولأيّ هدف، حتى لو اقتضى الأمر الصدام مع الطرف الآخر، المختلِف معه سياسياً، وإنْ كان من المذهب نفسه.
ثالثاً، عنصر المال الذي استخدمه تيار المستقبل بكرم موصوف في مرحلة صعوده لكسب ودّ الشرائح الفقيرة في العاصمة والأرياف، العاطلين من العمل وذوي الدخل المحدود، كما طال كرمه الأثرياء أيضاً، العاملين في الأوساط السياسية والحزبية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وذلك لحشد الجميع وراء مشروعه السلطوي.
وبالفعل حقّق «المستقبل» ورئيسه الشاب، مبتغاه بالرغم من أنّ الأخير لم يكن يتمتّع بأيّ خبرة سياسية، ولم تكن له فيها أية تجربة في حياة والده، حتى وصل إلى رئاسة الحكومة، بعد سيطرته على الأغلبية النيابية.
لكن مع مرور الوقت بدأ التراجع، بسبب عوامل الصعود نفسها، المذكورة آنفاً لكن في شكلٍ عكسي.
فجريمة اغتيال الحريري الأب خفتَ وهجها، وما كان من مشاعر حزن وغضب عارمة، ورغبة في الانتقام من القتلة بأية طريقة، لدى جمهور الحريري، لم تعد كما كانت العام 2005، حين ارتكاب جريمة الاغتيال، بل أخذت تخفّ عاماً بعد عام، حتى أنّ الكثيرين من أبناء مذهبه لم تعد تعنيهم بالحرارة نفسها التي كانتها في السابق.
أما في ما يتعلّق بالخطاب المشحون والمتشنّج الذي اعتمدته الحريريّة كرافعة لها في بيئتها المذهبية، فقد جاء من يتسلقه غيرها، لا بل كان أشدّ تأثيراً لدى أبناء الطائفة من الحريرية التي ساهمت بشكلٍ مباشر أو غير مباشر في ظهور الخطاب الموازي. فلم يعد حتى صقور «المستقبل» قادرين على مجاراة أحمد الأسير وداعي الإسلام الشهّال وحتى «أبو طاقية»، وغيرهم كثر في الخطاب المذهبي. ما جعل قسماً من القاعدة الشعبية الحريريّة، المشحونة أصلاً بمواقف قياداتها بهذا الخطاب، يلتفّ حول «قادة» الشارع المذهبي الجدد.
أما الفئة المعتدلة الواعية فقد عادت إلى قادتها المتأصّلين في وجدانهم السياسي والعائلي والمجتمعي عموماً، وفي طليعة هؤلاء آل كرامي، بدءاَ برجل الاستقلال عبد الحميد كرامي، ونجله رشيد كرامي المعروف بمواقفه الوطنية والقومية وانتقالاً إلى شقيقه عمر الذي لا يختلف عنه وصولاً إلى فيصل الذي ينتهج نهج جدّه وعمّه وأبيه لذا كان من الطبيعي العودة إلى هذا البيت، كما غيره من البيوت الوطنية العريقة.
أما العامل الثالث الذي قامت عليه الحريريّة أيضاً، أي المال، فالكلّ باتَ يعلم بالأزمة المالية التي تعاني منها حتى داخل مؤسساتها العاملة على غير صعيد، وبالتالي أقفلت «حنفيات الدعم» عن القواعد الشعبية و المؤسسات الحزبية والسياسية والاقتصادية الحليفة.
أضف إلى كلّ ذلك غياب سعد الحريري نفسه عن الساحة السياسية والشعبية لأسباب غير معلومة أو مفهومة، وشغفه بالسفر الدائم والابتعاد عن لبنان، حتى عندما كان رئيساً للحكومة، وتفضيله إدارة الأمور عن بعد، أي على طريقة الـ»ريموت كونترول» أو الـ»بلاي ستايشن»!
وقد انعكس هذا النمط من تعاطي القائد مع قاعدته تململاً في أوساطها إلى درجة السخط والغضب، والبحث عن قيادات تستمع مباشرة إلى همومها وشكواها ومطالبها.