نحن وروسيا في مواجهة الإمبريالية

د. إبراهيم علوش

فكرة فرض عقوبات غربية على دولة نووية نفطية كبرى مثل روسيا، على نحو ما حصل في أزمة القرم، قد تثير هزء البعض وسخريته من الصلف الأميركي والأوروبي، إلا أنها تطرح أيضاً في أي قراءةٍ أكثر هدوءاً وتمعّناً تساؤلاتٍ جديةً حول طبيعة النظام الدولي الذي يتيح للدول الغربية أن تعاقب لا أقطاباً إقليمية مثل العراق وإيران وسورية ومصر فحسب، بل دولاً كبرى مثل روسيا أيضاً.


من البديهي أن العالم شهد صعوداً اقتصادياً وسياسياً خلال العقد الأخير لدول البريكس، وفي مقدمها الصين وروسيا، وأن ميزان القوى العالمي أخذ يميل ضد الإمبرياليات التقليدية في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان، وأن مركز ثقل الاقتصاد العالمي راح ينزاح شرقاً وجنوباً، وان ذلك ترافق مع تزايد حضور روسيا والصين سياسياً واقتصادياً في الساحة الدولية خلال السنوات الخمس الفائتة بخاصةً، وان ذلك هو الاتجاه الصاعد للتاريخ، وأن هيمنة الإمبرياليات التقليدية إلى أفول، وهذا ما ساهم في خلق أرضيةٍ دولية لصمود سورية ولصعود قوى إقليمية مثل إيران وفنزويلا.

لكن لا يجوز أن يعمينا ما سبق عن حقيقة أن ميزان القوى العالمي لا يزال يميل إلى مصلحة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان والمنظومة الإمبريالية حتى الآن، مع علامات تشديد عدة تحت «حتى الآن»، رغم التغير البطيء والثابت ضد مصلحة الإمبرياليات التقليدية، ورغم الاختراقات الحقيقية التي حققتها روسيا والصين ودول البريكس وبعض القوى الإقليمية الصاعدة.

على سبيل المثال، لا يزال الاقتصاد الأميركي هو الاقتصاد الأكبر حجماً في العالم، وبلغ ناتجه المحلي الإجمالي أكثر من 16 ترليون وربع ترليون دولار عام 2012، أما الاقتصاد الصيني الذي حل في المرتبة الثانية عالمياً محل اليابان عام 2010 عقب الأزمة المالية الدولية، فقد بلغ حجمه عام 2012 أكثر بقليل من نصف الاقتصاد الأميركي مع رقم 8 ترليون دولار ونيف. ولو جمعنا الناتج الإجمالي لدول الاتحاد الأوروبي مجتمعة لكان أكبر من الاقتصاد الأميركي نفسه، فيما لا تزال اليابان في المرتبة الثالثة عالمياً بناتج إجمالي مقداره نحو 6 ترليون دولار… ويحل الاقتصاد الروسي في المرتبة الثامنة عالمياً لناحية الحجم، بعد البرازيل.

نكرّر: الاتجاه التاريخي الصاعد هو انتقال مركز ثقل الاقتصاد العالمي شرقاً وجنوباً، لكن الصورة الراهنة هي هيمنة الدول الإمبريالية على الاقتصاد العالمي. ويمثل رأس المال المالي الدولي، المتمثل في المؤسسات المالية المصرفية وغير المصرفية، الحاكم غير المنتخب لأغلب الاقتصاد العالمي. فلو نظرنا إلى أكبر عشرين مصرفاً في العالم عام 2013 لناحية حجم الأصول لوجدنا أن اربعة عشر مصرفاً منها مسجلة في دول إمبريالية ومعها استراليا طبعاً ، وأن أربعة منها صينية، وواحداً روسي، وواحداً برازيلي.

يمثل ذلك تغيراً كبيراً عن العام 2007 مثلاً، قبل الأزمة المالية الدولية، عندما كان المصرف الصناعي والتجاري الصيني في المرتبة 19 بين أكبر عشرين مصرفاً في العالم، فيما كانت بقية المصارف الـ19 الأخرى مسجلة في الدول الغربية واليابان. اليوم أصبح المصرف الصناعي والتجاري الصيني الأكبر عالمياً، أي أنه قفز إلى المرتبة الأولى عالمياً، وللصين أربعة مصارف من أكبر عشرين مصرفاً عالمياً، كما سلف، لكن الصورة الإجمالية هي استمرار هيمنة المنظومة الإمبريالية على المصارف، وبالتالي على حركة رؤوس الأموال الدولية.

كذلك تنعكس حيوية الاقتصاد من خلال عدة مؤشرات، منها براءات الاختراع المسجلة في كل بلد، وهنا تتربع اليابان على رأس القائمة، تليها الولايات المتحدة، ثم الصين، ثم كوريا الجنوبية، ثم مكتب براءات الاختراع الأوروبي، ثم روسيا، كندا، استراليا، المانيا، المكسيك، ثم فرنسا وبريطانيا، إلخ. في اختصار، لا تزال معظم براءات الاختراع المسجلة عالمياً تسجل في دول المنظومة الإمبريالية، مع اختراقات حقيقية لدول البريكس ودول العالم الثالث، ولم تظهر أي دولة عربية في قائمة أول عشرين دولة في تسجيل براءات الاختراع الجديدة رغم كل خلطات الأرجيلة الجديدة وفيض فتاوى «جهاد النكاح» و»إرضاع الكبير» و»نكاح الوداع» وغيرها!

على الصعيد نفسه، يشار إلى أن الولايات المتحدة تملك ثمانية من أكبر عشر شركات إعلام في العالم، أما التاسعة والعاشرة فإحداهما ألمانية والأخرى بريطانية، ولا يزال الإعلام والأفلام وتكنولوجيا الاتصالات لعبة أميركية أساساً.

لا شك في أن الاقتصاد القوي هو أساس القوة العسكرية، فالاتحاد السوفياتي انهار بلا إطلاق طلقة واحدة جزئياً لأن رجليه الاقتصاديتين لم تتمكنا من حمل ذراعيه العسكريتين القويتين. عام 2013 انفقت الولايات المتحدة 39 في المئة من إجمالي النفقات العسكرية في العالم، ولديها اليوم أكثر من ألف قاعدة ومرفق عسكري لقواتها المسلحة خارج الولايات المتحدة، ولديها عشر حاملات طائرات نشطة، واثنتان احتياط، وثلاث قيد الإنشاء، تليها بريطانيا وإيطاليا والهند التي تملك كلٌ منها حاملتي طائرات، وتملك كل من روسيا والصين وفرنسا وإسبانيا والبرازيل حاملة طائرات واحدة لكل منها. ولا تزال الولايات المتحدة القوة البحرية الأكبر في العالم لناحية عدد السفن الحربية التي تمخر عباب المحيطات، مع صعود كبير للبحرية الصينية ثم الروسية.

كما لا تزال الولايات المتحدة تضع 2150 رأساً نووياً فعالاً تحت الخدمة حالياً من أصل 7700 راس نووي مخزن ، فيما تملك روسيا 1800 رأس نووي فعال من أصل 8500 ، وبريطانيا 160 رأساً من أصل 225 ، وفرنسا 290 من أصل 300 ، وتملك الصين 250 رأساً نووياً، وتملك كل من الهند والباكستان نحو مئة رأس نووي، وتملك كوريا الشمالية نحو عشرة، والكيان الصهيوني نحو مئتين ليست معروفة نسبة الموضوعة منها في الخدمة راهناً.

للحديث بقية حول الفرق بين مفهوم الإمبريالية ومفهوم الاستعمار، ولمَ روسيا والصين اليوم ليستا جزءاً عضوياً من المنظومة الإمبريالية التي تحاربنا وتعاديهما…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى