الواقع الجديد الذي فرضه الروس وخيارات الولايات المتحدة
رضا حرب
منذ انطلاق عملية التحديث للسلاح الروسي قبل أكثر من عقد من الزمن، كانت روسيا تجري عملية تقييم دقيقة للنزاعات والحروب في مجالها الحيوي، ومخاطر تمدّد الناتو على الأمن القومي الروسي وكيفية مواجهتها. العقيدة العسكرية لبوتين بعنوانها القصير واضحة، لا تحتاج الى تفسير ولا تخضع للتأويل «الحفاظ على السلام الدولي والاستقرار الاقليمي والاستعداد التامّ للذهاب الى الحرب عندما يكون الخيار العسكري ضروري». اول مرة استعرض بوتين جدية عقيدته العسكرية عام 2008 عندما تدخل لحماية اوسيتيا الجنوبية من الغزو الجورجي. وعام 2014 لم يتردّد في اتخاذ قرار ضمّ شبه جزيرة القرم إعادتها الى الوطن الأم ، واليوم المشاركة الروسية الفاعلة والمؤثرة في الحرب على الإرهاب جاءت ايضاً في سياق العقيدة العسكرية بكلّ أبعادها الجيوسياسية والجيوسيراتيجية.
في 26 كانون الاول 2014 وقَّع بوتين على العقيدة العسكرية الجديدة للجيش الروسي التي تنسجم كلياً مع عقيدته العسكرية. الوثيقة حدّدت انّ التهديدات للأمن القومي الروسي والأمن الدولي تشمل الإرهاب الدولي، في إشارة الى الإرهاب التكفيري الذي اجتاح سورية والعراق ومناطق أخرى من العالم. أهمّ ما جاء في الوثيقة انّ لروسيا الحق باستخدام السلاح النووي اذا تعرّضت وتعرّض ايّ من حلفائها لتهديد وجودي من خلال استخدام أسلحة الدمار الشامل، او حتى لو تعرّضت لهجوم بالأسلحة التقليدية.
عملاً بالعقيدة العسكرية لروسيا، بدأ التحرك الروسي بالتعاون والتنسيق مع الحلفاء، وُضعت استراتيجية متكاملة ليس لسورية فقط، بل لما هو أبعد في حال أساء رعاة الإرهاب التكفيري التقدير، وحُدّدت الأهداف والأدوات.
وكما كان متوقعاً، أساء رعاة الإرهاب التكفيري التقدير عندما ظنّوا انّ مشاكل روسيا الاقتصادية تمنعها من القيام بأيّ عمل عسكري في المنطقة لحماية مصالحها وحلفائها. وأساء نفس الفريق التقدير مرة أخرى عندما أوعز آل سعود لأصحاب الفكر التكفيري بتهديد روسيا بحرب دينية، واصفين روسيا بـ«الدولة الصليبية الكافرة». بعد 48 ساعة أرسل بوتين الردّ على متن 26 صاروخ كروز من نوع «كاليبر» من بحر قزوين. لم تقتصر المفاجأة على الردّ فقط بل على امتلاك روسيا لهذا النوع من الصواريخ التي لم يسبق لها الإعلان عنه. الآن يتساءل العالم ماذا لدى روسيا أيضاً؟ وهل فقدت الولايات المتحدة تفوّقها في الحرب التقليدية؟
في المقابل، استراتيجية «الأمن القومي الأميركي 2015» التي أطلقها اوباما تستعرض التحديات التي تواجه الولايات المتحدة وكيفية مواجهتها والإصرار على انها القوة الوحيدة المؤهلة على قيادة العالم رغم قرار الحدّ من استخدام القوة العسكرية والاعتماد على القوة الناعمة.
في اول تموز المنصرم أعلنت وزارة الدفاع الاميركية البنتاغون العقيدة العسكرية الجديدة التي تنصّ على مواجهة «الدول الرجعية»، كروسيا التي تنتهك المعايير الدولية من خلال استعدادها استخدام القوة لتحقيق أهدافها. والصين التي وُصفت بانها تتمتع بوضع خاص وانّ قوتها المتنامية واستراتيجيتها التي تقوم على عدم تحقيق الأهداف بالاعتماد على القوة العسكرية يمكن ان تتحوّل الى شريك للولايات المتحدة في قضايا الأمن الدولي، إلا أنها قد تشكل تهديداً للولايات المتحدة مستقبلاً خاصة تلك المتعلقة بنشاطاتها في «بحر جنوب الصين» غير آبهة بمناشدات الولايات المتحدة.
وفقاً للعقيدة العسكرية الجديدة، على القوات المسلحة الأميركية الاستعداد لمواجهة التهديدات والدعوة الى امتلاك الحلول العسكرية والعمل على وضع استراتيجية متكاملة استراتيجية كبرى Grand Strategy – لمواجهة الدول الرجعية والمنظمات الإرهابية والاستعداد التامّ للتعاطي مع المتغيّرات او التهديدات الناشئة، وهذا طبعاً يستدعي من القوات الاميركية الاستعداد والتجهيز عالي المستوى وعلى كافة المستويات.
هناك تشابه كبير في العقيدتين الروسية والاميركية، لكن عملياً على الأرض، مقابل التقدم الروسي هناك تراجع اميركي يعود لأسباب يمكن الاستفادة منها. مواقف روسيا ثابتة وخياراتها مُعلنة ولديها الإرادة والقدرة على المبادرة، بينما الولايات المتحدة تتخبّط بسبب الهزائم والخسائر والتكاليف الباهظة التي كلفت الخزينة الاميركية تريليونات الدولارات من جيوب دافعي الضرائب.
اليوم وبعد ان فقدت القدرة على المبادرة، وباتت كلّ خياراتها في الشرق الاوسط سيئة، ليس أمام أوباما من خيار سوى التسليم بالخطوة الروسية والاستفادة منها لتسريع العملية السياسية في سورية.
الوضع الآن كما يصفه محللون اميركيون: الولايات المتحدة عاجزة عن فعل أيّ شيء في وجه المشاركة الروسية في الحرب على الإرهاب الوهابي التكفيري، وكلّ مساعي المحافظين الجدد إقامة منطقة «حظر جوي» فوق سورية كأمر واقع لم ولن تتحقق، فيما «روسيا هي التي فرضت حظرا جويا كأمر واقع» كما يقول بول غريغ روبرتس في «واشنطن بوست».
صحيح انّ الوضع يبدو أشدّ تعقيداً وهناك مخاوف من احتمال توسع جغرافية المواجهات خارج حدود سورية والعراق واليمن، إلا انه بات واضحاً انّ الدخول الروسي المباشر في الحرب على الإرهاب يتخطى المُعلن ليصل الى إعادة رسم موازين القوى والتأسيس لنظام عالمي جديد ترتسم معالمه على رقعة الشطرنج السورية، وبالتالي الدول التي لا تمتلك الحدّ الأدنى من مقومات «الدولة القوية» ومقومات «الأمن القومي» ستفقد موقعها ويتعرّض وجودها للخطر لأنّ مظلة الحماية الاميركية تتراجع امام التقدّم الروسي.
المحلل السياسي او الباحث الاستراتيجي الذي يصرّ على أنه صراع إيراني سعودي او صراع سني شيعي على مناطق النفوذ ينقل صورة مغايرة تماماً لحقيقة ما يجري في المنطقة لأنه بوق من أبواق مملكة الفتنة. الحرب على سورية بدأت لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، فمن الطبيعي انّ نتائج الحرب تأخذ المنطقة في ذاك الاتجاه.
على العموم، يجب ان ندرك انّ تحوّلاً حاداً في ميزان القوى وتحولاً حاداً في العلاقات بين القوى الكبرى والعظمى قد حدث فعلاً، لكنه لم يُترجم سياسياً بعد. العالم الذي نعرفه قبل القدوم الروسي يواجه عملية تغيير حاسمة لا تقلّ أهمية عن التغيير الذي أحدثه سقوط الاتحاد السوفياتي قبل ربع قرن.
المركز الدولي للدراسات الامنية والجيوسياسية
www.cgsgs.com