الفتنة سلاح «إسرائيلي» لا يعطّله «ميزان الردع»
روزانا رمّال
تجيد الولايات المتحدة وحليفتها «إسرائيل» استثمار الخلافات التاريخية والعقائدية لشعوب منطقة الشرق الأوسط، وتستغلّ ثغراتها بشكل يجعلها تتسلّم إدارة الأمور تلقائياً، ما يتوّجها صمّام أمان لتلك البلدان التي تعاني من صراعات لا تنهيها إلا اليد الخارجية التي تأتي غالباً بعد معاهدات ومؤتمرات طارئة لشرعنة التدخل المدروس.
قرار السيطرة على مقدّرات المنطقة من موارد نفطية وتصفية مواردها البشرية الواعدة وحفظ أمن «إسرائيل» هي مسلّمات أميركية و«إسرائيلية»، والحديث عن اختلاف في التعاطي مع هذه الملفات باختلاف الإدارات الأميركية هو مجرد وهم أثبتته التجربة، وأحدثها تجربة الإدارة المحافظة لجورج بوش والتجربة الديمقراطية لباراك أوباما.
اجتاح جورج بوش العراق بسياسة معتمدة، كاستراتيجية خلاص، تقضي بشنّ الحروب العسكرية من أجل حفظ أمن الولايات المتحدة بعدما استطاع الإرهاب ضرب عمقها في 11 أيلول، فاتخذ القرار باجتياح العراق بعد تورّطه في حرب أفغانستان ودفع أثمان باهظة في الحالتين، من دون أن يكون الاجتياح مبرّراً. فصدام حسين المتهم بامتلاك أسلحة الدمار الشامل لا علاقة له بتلك العملية الإرهابية الكبرى في نيويورك، لكنّ العراق هو البداية والمدخل إلى العالم الإسلامي المتعدّد الطوائف.
استكمل باراك أوباما مخطط سلفه جورج بوش من دون الدخول مباشرة إلى أرض المواجهة العسكرية، فتعزيز أمن «إسرائيل» بالنسبة إلى أيّ إدارة أميركية يخضع لسلسلة تجارب تستحق المحاولة، وعليه وبعد فشل جورج بوش في الحرب المباشرة انتقلت إدارة أوباما إلى الخطة «ب» وهي الحرب بالوكالة، فكان التأسيس الممنهج لحركات إرهابية لها باع طويل في القتال تحت مسمّيات تنظيمات عديدة، أبرزها منبثق عن «القاعدة»، حتى ظهرت فجأة في سورية والعراق جماعات تحت الطلب كتنظيم «داعش» الذي برز كفزاعة في الشرق الأوسط في الجزء الثاني من الأزمة السورية.
القرار الأميركي ـــــ «الإسرائيلي» بحروب الوكالة اتخذ منذ فترة ولأسباب عدة: أولها اقتصادية تتعلق بأزمة مالية في واشنطن تنعكس مباشرة على تل أبيب، وثانيها صعوبة مواجهة الرأي العام الأميركي بحرب جديدة بعد الخسائر الأميركية الفادحة في العراق، وكذلك صعوبة توريط الجيش «الإسرائيلي» في حرب جديدة تؤسِّس نتائجها لمرحلة انهيار، كنتائج حرب تموز التي قدّرتها لجنة «فينوغراد» ببداية النهاية.
الحروب بالوكالة هي «الحروب الذكية»، وفي ما يتعلق باستغلال «الربيع العربي»، كثغرة لتمرير المخطط. يُعتبر الخلاف السني ــــ الشيعي في المنطقة أكثر ما يمكن التعويل عليه، كأساس لأرضية ناجحة لخلاف موجود أصلاً وبعيد المدى لن تحتاج واشنطن، ومعها تل أبيب، لضمان استعاره أو تفاقم حدّته لأنه موجود وهو خلاف تاريخي بين أكبر مذهبين إسلاميّين. وعلى هذا الأساس ارتضت «إسرائيل» بالفشل في عرقلة مرور ملف إيران النووي، لكنها تعرف أنّ هذا النجاح الذي يمثل «الشيعة» من دون تجميل للمشهد هو أرضية احتقان لدى «السنة» إذا لم تحصل ظروف للتقارب لذلك ستمنع «إسرائيل» أيّ تقارب مقبل لضمان استعار اللهب وتشنّج المنطقة لأنّ مشروع الفتنة السنية ــــ الشيعية لم ينته، وقد حاولت العام 2005 في لبنان تفعيله باغتيال الزعيم السني المعتدل الأبرز في المنطقة رفيق الحريري على يد «جبهة النصرة»، حيث نفّذت أول عملية انتحارية لها في ظهورها الأول، لكنّ لبنان تخطّى الأزمة التي كاد يقع فيها ومنع تمدُّدها إلى باقي الدول تباعاً.
لبنان تخطّاها موقتاً، أمّا الولايات المتحدة و«إسرائيل»، فلم تجدا مانعاً من محاولة تسعير الفتنة من مكان آخر، فكان ذلك على مدى سنوات في سورية والعراق، لكنها أيضاً لم تنجح جراء مواجهة الحلف الإيراني الذي يرفض الدخول في مثل هذا الاستنزاف ومثل هذه الحروب الخطيرة والمرفوضة. لكنّ لبنان الذي ردّ شبح الفتنة عاد ليعيشها اليوم، فهو، على ما يبدو، لا يزال على لائحة الاستهداف الخطير «إسرائيلياً»، وقد كشفت الأيام الماضية عمّا يُرسَم له بشكل فاضح بعدما ألقى الأمن العام القبض على شبكة تجسُّس تعمل لمصلحة «إسرائيل» مرتبطة بالمعارضة السورية من جهة، وتعمل ضمن المخطط نفسه للتنظيمات التكفيرية التي ترعاها من جهة أخرى، في تقاطع غير مسبوق يعتبر شاهداً على المصالح المشتركة بين «داعش» و«إسرائيل»، وفي هذه الحال يتأكد الارتباط والتنسيق.
الشبكة اعترفت بأنها كانت تجمع معلومات لاستهداف الزعيم السني الصيداوي أسامة سعد والشيخ ماهر حمود السني أيضاً، ما أثار الاهتمام لتطابق هذه الاعترافات مع اعترافات مسبقة لشبكات إرهابية تابعة لـ«داعش» بالأهداف والأسماء نفسها.
الأسماء هذه لأبناء مدينة رمز للطائفة السنية في لبنان هي مدينة صيدا والتي تحمل العديد من أسباب اعتبارها مادة دسمة لتسعير الفتنة المذهبية، بالإضافة إلى كونها تحتضن مخيم عين الحلوة وخصوصيته.
قد يتساءل كثيرون كيف سيُسهم اغتيال حمود وسعد بالفتنة، وهما شخصيتان معروفتان وأي استهداف يطالهما نابع من دعمهما لخيار المقاومة ولن يكون ممكناً توجيه الاتهام لحزب الله، باعتباره المتضرّر الرئيس من تغييبهما كحليفين ثابتين، بما هو أبعد من ساحة صيدا والجنوب؟
يقول مصدر أمني متابع إنّ الفتنة التي فشل الشيخ أحمد الأسير بتفجيرها من صيدا بسبب الدور المحوري لكلّ من حمود وسعد ستصير ممكنة بغيابهما كمكابح بوجه الفتنة، وحتى عندما لا يكون الهدف المباشر هو الفتنة فتكون الفتنة هي الهدف الأبعد مدى.