الصين… والحلم الكبير
د. لوكاس بيطار
شاءت الظروف أن أُنتدب إلى دورة أقامتها الحكومة الصينية بهدف التعرّف إلى سياستها الخارجية ونظرتها إلى الدبلوماسية متعدّدة الأطراف، ومفهومها للعلاقات الدولية وارتباطها بالعولمة ودور الثقافة القومية في تحديد الأطر العامة لعمل الحكومة عند المستويين الداخلي والخارجي والترابط الديناميكي بينهما.
قبل سفري، لم أكن أتوقع أن أرى في الصين إلا شعباً مبعثراً كثير العدد، ودولة مستبدة يُسخّر أناسها للإنتاج الذي تحوّله إلى سلع تجارية تغزو بها أسواق العالم! وعلى رغم ما يقال عن التقدّم الملحوظ في المجال الاقتصادي، إلا أن في ذاكرتي صوراً للصين تحاكي مساحات شاسعة من الأراضي، ينبت فيها الفقر كالنبات البري بلا مقاييس ولا أنظمة، تزينها صور «ماو» القائد وكتابات الثورة، تثيرها شعارات كتبت عشوائيات على الجدران في مدن وقوى لا تعرف إلا لافتات التمجيد والتخليد للثورة العظيمة!
صور قاتمة انطبعت في ذاكرتي كما ذاكرة أكثر القادمين من أرض تقدّس سياسييها وتعظّم بطولاتهم حتى بات التقديس والتعظيم من السمات التي جذّرتها في نفوسنا عهود من التخلف المقيت والجهل المخيف.
لدى وصولي، سرعان ما اختفت الصور السوداء، وعملت ذاكرتي على إعادة حساباتها. الصين كانت المفاجأة: العمران والازدهار في كل مكان، الطرقات تصطف على جانبيها الأبراج الشاهقة، الجسور تحلّق فوقها كأذرع ممدودة ترحّب بالقادمين. الحدائق المزينة بأنواع الورود والأزهار تجعل الضياء ضياء. الأشجار في كل مكان تملأ المساحات الشاسعة من العاصمة بكين وكأنها ترفض أن يسيطر على المدينة التاريخية، الاصطناع الإنساني، فأبت إلا أن تخلّد الطبيعة بكثافتها وغزارتها، النظام المدني يسيّر ملايين الناس باحترام وتقدير حضاريين.
حاولت البحث عن الشعارات والكتابات التمجيدية ولكني لم أجدها. عبثاً حاولت سؤال الناس ولكن عائق اللغة حال دون ذلك. ولكن لماذا التساؤل؟ لم أجد شيئاً يذكّرني بسياسيينا المؤلهين.
لم أجد حتى تمثالاً حجرياً يعيدني إلى مستنقع نظامنا البالي.
في أثناء محاضرة من المحاضرات القيّمة دفعني الفضول، فسألت المحاضر، الأكاديمي الموصوف والدبلوماسي الصديق: «أين هو ماو تسي تونغ والثورة الثقافية في الصين اليوم»؟
ابتسم، مغتنماً فرصة السؤال ليبدأ شرحه عن تاريخ الصين الحديث من الثورة الوطنية الكبرى التي قادها ماو تسي تونغ عام 1949، وصولاً إلى مرحلة الإصلاح والانفتاح التي بدأت عام 1978 مروراً بالثورة الثقافية.
الثورة الوطنية الكبرى اعتبرها مرحلة بناء الوطن الصيني الكبير والمحافظة على وحدة نسيج المجتمع الصيني. أما مرحلة الثورة الثقافية، فاعتبرها مرحلة سوداوية في تاريخ الصين الحديث. إذ، بدأت فيها تصفية الحسابات بين قادة الحزب الواحد، لا سيما في السنوات العشر الممتدة من عام 1966 إلى عام 1976 والتي ازدادت دموية في السنوات الثلاث الممتدة من عام 1973 إلى عام 1976. سنوات أصبح فيها ماو تسي تونغ مريضاً وبعيداً كلياً عن مجريات الأحداث في بلاده.
أما مرحلة الإصلاح والانفتاح، فاعتبرها مرحلة جديدة أتت بالازدهار والخير. بها تغيرت الأساليب الأولية للعمل وفق المبادئ الأساسية النظرية، بعبارة أخرى أسلوب العمل تغيّر، أما المضمون الفكري الثقافي القومي فبقي المقياس الأساس.
الإيديولوجية الضيّقة وُضعت جانباً، الدعاية الحزبية المملة حذفت من برنامج عمل الحكومة التي اتخذت شعاراً جديداً بعيداً عن الدوغمائية وقريب من رؤيتها الجديدة: «التنمية المستدامة لتحقيق حلم الصين الكبير».
البرامج العشوائية القائمة على المنفعة الشخصية والمحسوبيات السياسية منعت، النظرية باتت تنطلق من الواقع أي من التجربة المباشرة إلى البناء.
اتبعت الحكومة في سياستها التنموية «خطة المراحل»، أي أنها طبقت رؤيتها التنموية في مدينة واحدة من المدن الساحلية، ولما نجحت التجربة انتقلت بها إلى مدن أخرى بانتظام مسؤول. بعد مرور الفترة الزمنية اللازمة بدأت التجربة الناجحة تعمّ المدن الصينية كافة.
اليوم، بعد مرور أكثر من أربعين سنة على عملية الانفتاح الإصلاح، تغيّرت الصين جذرياً، فالبلد الفقير المعدم الذي لم يكن بمقدوره إرسال فريق رياضي واحد للمشاركة في الألعاب الأولمبية، تمكّن من استضافة إحدى الدورات الأولمبية، وبعد أن كان الاقتصاد ضعيفاً أصبح ثاني اقتصاد في العالم، وأكبر مُديّن للولايات المتحدة الأميركية. البلد الذي كان يحتاج إلى المساعدة أنقذ المجتمع الأميركي ومعه مجتمعات العالم الصناعي المتقدم من كارثة اقتصادية مدمرة.
ما هو الدرس الأول الذي تُعلّمنا إياه التجربة الصينية؟
لست في صدد إلقاء المواعظ التي ملّ منها إنسان وطننا، ولكن لا بد من الاعتراف الصريح والواضح أن التجربة الصينية تعلم كل المجتمعات، أن الدولة المؤمنة بشعبها وبقدراته وتاريخه الوطني ونظراته القومية إلى العالم تستطيع أن تحقق تقدماً عظيماً وأن تشارك بفعالية في صناعة القرارات الدولية وفي صوغ إنسانية مبنية على التناغم والانسجام.
هل الصين دولة عظمى؟ سؤال آخر كان منطلقاً لإخراج ما في جعبة المحاضرين من أفكار ورؤى مستقبلية. وهنا المفارقة: لو كان المحاضر من إحدى الدول الكاريكاتورية لقال إن دولته دولة عظمى. إلا أن المحاضر الصيني بكل تواضع وثقة، أكّد أن الصين ليست دولة عظمى، وأنها لا تزال تعاني من الفقر والتفاوت الاجتماعي. وإن كانت ثاني أكبر اقتصاد في العالم إلا أنها لا تزال تحتاج إلى وقت أطول حتى يخرج «التنين الصيني من تحت الماء».
ما دور الثقافة والتراث الصينيين في كل ما لحق ويلحق الصين من تقدم؟
في كل مكان من الصين ترى أثر الكونفوشيوسية ممتزجة بالمدنية إلى حد أنها تحيط بها جاعلة منها مدينة قومية بفخر واعتزاز.
الصينيون يتكلمون عن التجربة الخاصة لأنهم يرون أن لكل مجتمع خصائصه ومميزاته، وكل ما هو فكري عام ونظري شامل يجب أن يخضع للمجتمع.
بعد المحاضرات، وعندما كنت أعود إلى غرفتي في الأكاديمية السياسية، وأقارن بين ما يفعله الإنسان الصيني اليوم وما نفعله نحن، كنت أجد الفرق كبيراً وكبيراً جداً.
هم يريدون أن يبنوا الذات للمساهمة في بناء عالم جديد، ونحن نبحث عن مدّعي زعامة أو بطل ميليشياوي علّه يطعمنا من بعض ما جناه من خيرات من حساب الوطن لحسابه الخاص.
هم يريدون التاريخ والتراث في المستقبل ونحن لا نريد لا التاريخ ولا التراث ولا المستقبل.
الفرق كبير: هناك حكومة تفكر لشعبها وهنا حكومة تُيئس شعبها!
كم وجدت الصين اليوم قريبة جداً مما كان يسعى سعاده إلى تحقيقه في وطنه الكبير. ولعلّني أشطح عندما أقول إن تعاليم الزعيم أنطون سعاده تحققت في الصين بعد أن استقال شعبه من ممارسة دوره في التاريخ.
باختصار حيث لا يمكن الاختصار، الصين تسعى إلى حلمها الكبير حيث العالم أكثر أمناً واستقراراً وسلاماً، لا تسلط من دولة على دولة، بل مشاركة في كتابة المستقبل بحروف الأمل والتفاؤل.
إنه «الحلم الكبير»، وكم يختلف عن «الحلم الأسود» حيث الدول الفقيرة والضعيفة لا قيمة لها إلا القيمة الوسائلية. إنها وقود البؤس والشر. تستخدم لتحقيق هذا الحلم الأسود، حلم الجشِع والمرابي والدنيء.
الفرق شاسع بين الحلمين، ولا مجال للمقارنة بينهما. ولكن أيهما سنختار؟ أليس لدينا، نحن، حلمنا الخاص؟ ولكن أين «النحن» لكي نختار؟
متى نحقق حلمنا الكبير؟
في ثقافتنا وتاريخنا وتراثنا معالم التقارب بل والتكافل مع تعاليم كونفوشيوس الاجتماعية ـ الكونية. أليس الخير والحق قيم إنسانية تعم أمم الخير والحق؟
إذا نظرنا إلى عالمنا اليوم نراه يقترب من بعضه بعضاً أكثر من الأمس، المسافات ضُيّقت والزمان قُصّر والخير كل الخير في الكثرة والتنوع. هكذا ترى الصين العولمة وهكذا لا يراها قسم كبير من العالم!
أخيراً، عدت إلى الوطن وأنا أكثر اقتناعاً بأن المجتمع المؤمن بتاريخه وتراثه ومبادئه الفكرية والأخلاقية، يمكنه أن يضع حداً للتخلف الاقتصادي وللتعصب الفكري والانحطاط الأخلاقي لينطلق بإيمانه العميق بذاته نحو فضاء العالم الواسع وهو كله ثقة بأن العمل المنظم وحده يصنع المستقبل ويزوّد أضواء الحلم الكبير بالطاقة الدائمة لتبقى أنواره ساطعة بكل كبر واحترام.
بالأمس ماو تسي تونغ كان الصين، أما اليوم أصبح في قلب الصين ولكنه ليس الصين!
هذا ما قاله لنا المحاضر….