الإنتاج والاستهلاك الوطنيان سلاح في المواجهة
في هذا العدد يتطرّق الدكتور عادل سمارة إلى موضوع أساسي هو الإنتاج الوطني الفلسطيني في المجالات كافّة وضرورة دعمه وحمايته عبر تأمين التمويل الكافي والإقبال المطلق على شراء منتجاته بعيداً من استهلاك أي منتج صهيوني آخر وفق فلسفة استهلاكية تنسجم مع ضرورات الصراع.
يقدّم د. سمارة اقتراحات عدّة في هذه الدراسة تدعم وجهة نظره في كيفية دعم المقاومة عبر ترشيد الاستهلاك وتعزيز المقاطعة للسلع الصهيونية. كل ذلك عبر خلق ثقافة استهلاك ثورية على سوية مخاطر الصراع ونتائجه. كما يشير إلى ضرورة تعزيز الإنتاج القروي الفردي وحمايته وذلك بإنشاء التعاونيات الاستهلاكية والإنتاجية.
وكانت عُقدت ندوة يوم الثلاثاء 27 تشرين الأول الحالي في منتدى نبض الشبابي في رام الله مخصصة للانتفاضة الجارية وتحديداً آليات استمرار الانتفاضة في مختلف المستويات. ركزت الندوة على الاستفادة من بردايم التنمية بالحماية الشعبية وخاصة في اللحظة في مسألة الاستهلاك الواعي أو وعي الاستهلاك. وقد تم توزيع الكراسة المرفقة .
وتحدث د. عادل سمارة حيث قارن بين البردايم البديل الذي ابتكرته كوبا حينما تفكك الاتحاد السوفياتي حيث أصبحت في أزمتين معاً: الحصار وفقدان العلاقة والدعم السوفياتي، وبين الأرض المحتلة 1967 حين تم اغتيال الانتفاضة الأولى والتورط في أزمة أوسلو التي اقتلعت بردايم التنمية بالحماية الشعبية.
أهم دروس الانتفاضة الحالية أنها تؤكد حقيقتين مترابطتين: حقيقة أن الوطن لنا، وحقيقة أن الانتفاضة لا تنتهي بل هي باقية بقاء الوطن. لذا، اطمئنوا جميعاً، فهذا الصراع المديد والشديد جوهره قدرة شعبنا على إبداع أشكال نضالية غير معهودة وبطولات أقرب إلى الخيال، ذلك لأن التحدي يولد عوامل التصدي والصد والرد المناسبين وأعلى.
نتحدث جميعاً عن تعدد أشكال النضال، وهذا صحيح وطبيعي طالما كله في النطاق الوطني، أليس الأصل أن تكون وطنياً؟ فكل فريق أو فرد أو جماعة أو طبقة تناضل بقدر طاقتها وبحسب رؤيتها، فلندع «مئة زهرة تتفتح-ماوتسي تونغ» في مناخها وبحسب طاقتها.
هذه الصفحات القليلة مكرسة لجانب مهم في النضال الوطني الثوري وهي بالتحديد كيف نغذي النضال المشتد بتجنيد القوة الشعبية الكامنة التي تختزن قوة هائلة لا تظهر على السطح ولكنها قوة حقيقية.
نقصد هنا النضال الممتد الذي يُشغِّل كل المجتمع وطنياً. وهو عمل باهر وسحري جداً، لأنه نضال لا يُكلف وله مردوده الهائل وطنياً واقتصادياً بل وحتى على كل فرد هو/هي وعلى المجتمع طبعاً. سحره بأنه يبدو هادئاً وربما سلبياً ولكن مفعوله تاريخي.
إنه النضال الإنتاجي ونضال وعي الاستهلاك أو الاستهلاك الواعي، وهما عنصران أساسيان في:
مناهضة التطبيع.
تعميق أشكال كافة المقاطعة.
نرجو أن يفهم كل مواطن بأن مناهضة التطبيع وتعميق المقاطعة يرتكزان إلى حاملين أساسيين موجودين فينا:
القناعة الذاتية الداخلية بأن من يستهلك منتجات العدو هو أكثر من يعلم بأنه يمارس معصية وطنية وقومية، هو يرى نفسه قبل أن يراه غيره، وهذا لا يُحل إلا بضبط النفس. استهلاك منتجات العدو هو تبرع مجاني بالثروة الوطنية لعدو الوطن. وسواء قصد الشخص هذا أم لم يقصد، فإن التأثير السلبي والقاتل لا يتغير ولا يُنفى. إنها إذن رقابة الذات وهي الأقوى والأكثر مصداقية وأصالة، هي حالة تعليمية ذاتية تقوي الثقة بالنفس وتخلق الاعتداد بالنفس.
نشر ثقافة مناهضة التطبيع وضرورة المقاطعة كعامل توعية وتعميم أهمية ذلك. وهذا يغذي العامل الأول ويعمِّقه.
هذا النضال يجب ويمكن أن يتم تبنيه من المجتمع أفقياً وعمودياً، لأنه يشمل ويجند كل المجتمع من حيث المكان والأعمار والوضع الاقتصادي والثقافي…الخ. وهو ممتد زمنياً كذلك لأن الصراع مديد والمطلوب منا أن يكون لدينا مشروع نضال وطني ممتد يومياً وتاريخياً.
في هذه اللحظات الملتهبة، قد يكون التوجيه التثقيفي غريباً برأي البعض. ولكن علينا الانتباه إلى أن قوة الإنسان ليست فقط في اندفاعة الصدر العاطفية، فلا بد من وجود العقل لأجل الضبط والتخطيط وهنا تتجسد مسألة أساسية وهي قوة الأفكار بما هي العمود الأساسي لصمود المواقف.
قال القائد العربي قتيبة بن مسلم الباهلي الذي فتح الهند:
«العبرة ليست في السيف، وإنما في الساعد الذي يحمله وفي الغاية التي شُهر من أجلها». الساعد مهم والعقل مهم أيضاً وهما متكاملان.
في اللحظات المشتعلة، لا مجال للحديث عن تخطيط اقتصادي يعود بنا للكتابة المفصلة عن طبيعة وجوهر ومحتوى وأهمية واسبقية العمل والإنتاج لأن الإنتاج هو اساس كل حلقات الاقتصاد التي هي: الإنتاج، التوزيع، الاستهلاك والادخار الاستثماري.
في هذه اللحظة، فإن الممكن والعاجل أن نتحدث في الاستهلاك لأننا نحتاجه ونمارسه فوراً ويومياً.
إن القاعدة المناسبة في حالتنا هذه مكونة من ثلاثة جوانب:
الأول: علينا التوجه لشراء حاجاتنا الاستهلاكية من الإنتاج المحلي المتوفر.
والثاني: أن نستهلك ما هو ضروري وغير متوفر محلياً، من منتجات الدول الصديقة صداقة حقيقية.
والثالث: أن نقوم بتغيير مذاقنا الاستهلاكي بحيث نستغني عن المنتجات غير المحلية والتي تعودنا أن نراها ضرورية وهي في الحقيقة ليست كذلك.
أهمية البند الثالث في أنه يثير نقاشاً/حواراً/تحدِّياً نفسي داخل نفس الشخص بمعنى؟
هل يمكنني التوقف عن شراء هذا المنتج الصهيوني أو ذاك؟ كيف؟ فقد تعودت عليه! إنه لذيد الطعم، أو جميل كلباس أو يستديم كمادة تجميل… الخ.
ربما، ولكن علي أن أتذكر بأن ما أنفقه عليه يتحول حينما يصل موازنة حكومة العدو إلى الرصاصة التي قتلت الشهيد الحلبي أو أبو جمل أو غيرهما.
إن المسألة بهذا الوضوح، واضحة كحد السيف. ولذلك حينما أتناول منتجاً غذائياً كهذا أشعر بأنني آكل لحم الشهيد! فهل هناك أسوأ من موقف كهذا؟ «أيحب أحدكم أن ياكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه-قرآن كريم» فكيف يقوم أحدكم بقتل أخيه أو أخته شهيدا/ة؟
ومع ذلك، هناك سؤال آخر: لماذا لا أفكر إن كان ذلك المنتَج ضرورياً أم لا، كي أكتفي شر الوقوع في خدمة العدو. بتفكير هادئ قد أجد ان كل ذلك، أو معظمه، ليس ضرورياً.
وهذا يفتح على النزعة الاستهلاكية. فالاستهلاك هو في جانب ضرورة حياتية إنسانية، وهو في جانب آخر نتاج تاثير الوسط المحيط بالمرء. وإذا كان الوسط المحيط فقير وطنياً، فإن المرء يتورط في أشكال من الاستهلاك خارج الحاجة والضرورة ومنها:
الاستهلاك المظهري، وهو أن يشتري المرء منتجات العدو وخاصة التي لا يحتاجها، لا لسبب إلا لأنه يعشق المظاهر ويشعر بأن قيمته في ما يستهلك اعتقاداً منه أن المظهر لباس، بيت، سيارة وحتى حذاء يرفع من قيمته في نظر من حوله، وخاصة إذا كانت السلع أجنبية وصهيونية. هنا يصبح الإنسان أسير المظهر ويفقد القيمة الأساسية وهي أنه أولاً إنسان وثانياً في وطن تحت الاحتلال.
واستهلاك التقليد، وهو قريب من الاستهلاك المظهري. وهو وقوع المرء في تقليد غيره ممن يؤمنون بالمظاهر. وفي هذا السياق هناك من يقلدون الأجنبي سواء في مظهره أو نمط حياته. وهذه ظاهرة موجودة في العالم الثالث أي قيام فئات منه بتقليد الغربيين. وهذا بالطبع يُغري بشراء منتجات العدو.
والاستهلاك الشره، وهو الاستهلاك بأكثر مما يحتاج المرء لأن الاستهلاك يصبح لديه عادة لا يقوى على عدم ممارستها. وبالطبع، اللافت هنا أن عادة الاستهلاك تحل محل مبدأ العمل والإنتاج. وخطورة هذا الاستهلاك الشره دون إنتاج في أنه يورط المرء في علاقات ولعب ادوار توفر له مداخيل مالية كي يُشبع جوعه الاستهلاكي والمظهري وكثيراً ما تكون مصادر هذه المداخيل مشبوهة وغير شرعية.
لا بد أن نتذكر أن كل هذا السلوك المنفلت هو على حساب المنتجات المحلية الخالية من المكونات الصهيونية، وكذلك المنتجات الصناعية المحلية التي يمكن ان تكون خالية أيضاً من المكونات الصهيونية.
لا نريد العودة لموضوع الإنتاج على أهميته، وذلك مرة أخرى لضيق المجال، ولكن ما نستخلصه من ورطة أنواع مرض الاستهلاكية، هو أن المنتجين غالباً ما يكونون أقل إصابة بمرض الاستهلاكية لأنهم يُقدِّرون قيمة الجهد والعمل. ولذا، فإن المنتجين هم أشد مقاومة للاحتلال من المستهلكين. ولعل هذا هو أساس الفارق بين المنتِج وبين الطفيلي. ولهذا، فإذا لم نكن منتجين، فعلى الأقل أن يكون استهلاكنا واعياً، أي وعي الاستهلاك.
ثقافة الاستهلاك
ثقافة الاستهلاك أو الاستهلاكية، هي نقيض الاستهلاك الواعي أو وعي الاستهلاك كمكون أساسي في التنمية بالحماية الشعبية. فرغم أهمية وأساسية الإنتاج، إلا أنه إذا لم يترافق مع ثقافة ترفض مرض الاستهلاك، فإن ذلك يقود إلى تقويض الإنتاج وتعميق الاعتماد على منتجات العدو.
من المهم الانتباه هنا إلى أن كثيرين منا تورطوا في ثقافة الاستهلاك وذلك بسبب ثلاثة عوامل:
الأول: أن مجتمعنا في الأرض المحتلة أُصيب قبيل احتلال 1967 خلال الحكم الأردني بمرض الاستهللاكية نظراً للتبعية التي وسمت ذلك النظام كما هي حال الكثير من مجتمعات العالم الثالث.
والثاني: تبعية اقتصادنا لاقتصاد الاحتلال، وتوفر مداخيل للبعض تغريه بالاستهلاك وتقليد حياة المحتل. هذا من دون أن نتنبه أن اقتصاد الاحتلال هو أساساً اقتصاد مدعوم من الأعداء الغربيين وخاصة الولايات المتحدة، لذا ينفقون بأكثر مما ينتجون لأنهم يرتكزون إلى كثير من المساعدات. ولكن، هذا من دون أن ننسى أنهم يُنتجون.
والثالث: انفتاح مجتمعنا على المغتربين الذين يعيشون ويأتون من الغرب وخاصة من الولايات المتحدة وهم بالطبع مأخوذون بمرض الاستهلاكية لأن الاستهلاكية هي أبرز ما تركز إليه الطبقة الرأسمالية هناك. بل تعتبر الاستهلاك واجباً وطنياً مع أنه في خدمة الطبقة الراسمالية على حساب الطبقات الشعبية!
المقاومة والاستهلاك
إنها مسألة حساسة، بل هي تحدٍّ نفسي للشباب المقاوِم ببسالة وبطولة لا نظير لها. والمسألة هي:
كيف يمكن أن تكون مقاوماً ثورياً حقيقياً وأنت تستهلك منتجات عدوك؟ تقدم دمك فداء للوطن وتقدم لعدوك ثمن الرصاصة التي يطلقها عليك؟
لعله سؤال محرج، ولكنه حقيقي وواقعي.
كيف تقوى ساعداك على حمل الحجر وهي تتغذى بالمنتجات الصهيونية؟
قد لا تكون عاملاً أو موظفاً أو مزارعاً. لا بأس أنت في مرحلة الدراسة مثلاً، وبالتالي، أنت تستهلك. لذا يجب أن يكون لديك وعي الاستهلاك. صحيح أن أخلاق الإنتاج هي الأعلى، ولكن يمكن لاستهلاك منتجات العدو أن تدمر الإنتاج المحلي وأن تخدم قدرات العدو. أليس هذا مفجعاً؟
موقع الأرض في مسألة الاستهلاك
صراعنا مع العدو يتلخص ويتكثف في الصراع على الوطن، على الأرض. والأرض تقتضي الشغل فيها، وهي تعطي أضعاف ما تأخذ. من هنا، فإن أشرفنا بعد الشهداء هم/ن الذين يعملون في الأرض بهدوء وصمت وجهد وبرد وعرق وتعب. وعليه، ألا يكون أقل ما نقدمه لهم هو إعطاء الأولوية لشراء ما ينتجون وما ينتجن؟
ليس هنا مجال مناقشة وجوب العمل التطوعي والتعاوني في الأرض، نترك هذا لظروف أوسع، ولكن على الأقل، أن نقوم اليوم باستهلاك المنتج الزراعي المحلي، لأن ذلك مقاومة.
علينا أن نثمِّن دور الفلاحين في حمايتهم للأرض من خلال استغلالها، ولكن هذا ليس كافياً، بل يجب أن نكمل موقفنا هذا بشراء منتجات هذه الأرض إلى أن نتمكن من العمل معهم. إن شراء منتجات الأرض هي مساهمة من جانبنا جميعاً في حمايتها. هذا ناهيك عن أن هذه حماية للاقتصاد المحلي من خسارة الثروة المحلية في شراء منتجات أجنبية أو حتى منتجات العدو، فتضيع الثروة أو الفائض بالتعبير الاقتصادي الدقيق، تضيع خارج الوطن، وبالتالي لا يتم استثمارها في توسيع القاعدة الإنتاجية المحلية أي قطاعات الإنتاج وخاصة الزراعة والصناعة .
إن حماية الأرض تعني عملياً حماية المنتجات المحلية ليس فقط بإعطائها الأولوية، بل بمقاطعة منتجات العدو والدول المعترفة بالعدو والداعمة للعدو.
إن شراء المنتجات المحلية زراعية وصناعية وحرفية وحتى شراء الخدمات المحلية هي كذلك حماية للمنتجين المحليين في هذه القطاعات.
موقع مناهضة التطبيع والإصرار على المقاطعة في وعي الاستهلاك؟
إن للمقاومة تمظهرات وتجليات متعددة، منها المشتد الكفاح المسلح، ومنها الممتد والأفقي أي مناهضة التطبيع ومقاطعة منتجات الأعداء، وهذان واجبان أساسيان تؤدي ممارستهما والالتزام بهما إلى إنجاز المهام الوطنية الثورية التالية:
إن الحياة مقاومة
وبأن التنمية الحقيقية هي التنمية بالحماية الشعبية.
وهذه تعني بشكل أساسي أن نضالنا مستمر لا يتوقف، وبأنه يأخذ وتائر عالية أو أقل، لكنه لا يتوقف. لا بد أن ندرك بوعي بأن مقاطعة منتجات العدو هو شرف نضالي يومي لكل امرأة ورجل وطالب وعامل وصناعي وفلاح…الخ طالما يضع كل واحد منهم أمام عينيه شراء المنتج المحلي ورفض المنتج الصهيوني.
وعي الاستهلاك يضبط التاجر الوسيط
يوجد التاجر في مختلف مراحل التاريخ كوسيط بين المنتج والمستهلك. وبغض النظر عن كون عمله ليس إنتاجياً أي لا يضيف قيمة للبضاعة إلا أنه يحصل على دخل أو ربح من خلال توسطه هذا. حتى الآن الأمر طبيعي بغض النظر عن مسألة الاستغلال.
ولكن في حالة الأرض المحتلة، فإن كثيراً من التجار يتسابقون على الحصول على وكالات لتسويق منتجات الكيان الصهيوني طمعاً في ربح أعلى.
لكنهم بهذا يقتلون المنتجات المحلية البديلة لمنتجات العدو.
في هذه الحالة، يصبح على الشباب الوطني الثوري أن ينتقل من القيام بالمقاطعة بنفسه وعن نفسه بحيث لا يشتري ما يعرضه الوكلاء تجار الجملة أو ما يعرضه تجار المفرق إلى توعية وتحريض الناس كي لا يستهلكوا هذه المنتجات. وأن يبينوا للتجار الوكلاء الضرر الوطني الذي يتسببون به. وفي درجة أعلى أن ينتقدوا ويكتبوا ضد هؤلاء التجار.
إن منع الوكلاء من تسويق منتجات العدو، أو وضع الاستيراد من العدو بيد هيئة شعبية ليست ذات مصلحة هو عامل مهم لحماية المنتجات المحلية من منافسة شرسة تنتهي لمصلحة منتجات العدو.
ماذا نستهلك؟
تنقسم المنتجات عادة إلى الأساسيات والثانويات، أو الضروريات ومستلزمات الترف والرفاهية. صحيح بالطبع أن كل إنسان يحب حياة الرفاهية، ولكن من المهم أن يجمع ما بين حقه في الرفاهية وواجبه في النضال الوطني والثوري ضد عدوه أو على الأقل عدم إلحاق الأذى بالوطن والمواطنين. لذا، من الخطورة بمكان أن يخضع الإنسان لرغباته أو/و حاجاته غير الأساسية أو الضرورية، ليتحول إلى آلة استهلاك لا يقودها عقله ولا يضبطها انتماؤه الوطني.
يفتح هذا على ما نسميه إدارة الاستهلاك. وهنا تُعطى الأولوية:
أولاً: الأولوية للمنتجات الزراعية المحلية كالخضار والفواكه والحبوب وزيت الزيتون…الخ. هذه المنتجات التي هي أولا حماية للأرض. فالفلاح أو الفلاحة الذين يزرعون الأرض ويعتنون بها وتذوب اجسادهم عبر الشغل فيها، هم أولا يحمونها من المستوطنين، ويوفرون للسوق المحلية منتجات طبيعية عضوية غير ملوثة.
في بعض الأحيان تكون أسعار هذه المنتجات أعلى قليلاً من منتجات العدو، لأن العدو ينتج بكميات كبيرة نظراً لإمكانياته. ومع ذلك علينا شراء المنتجات المحلية بما هي وطنية، ولذا أن ندفع لها السعر الوطني، وليس السعر الذي تضعه آليات المنافسة في السوق. هذا إلى جانب وجوب منع وصول منتجات العدو والمنتجات الأجنبية المشابهة للمنتج المحلي والمنع يأتي إما أن نُجبر السلطة على منع الاستيراد إلى جانب قرار قطعي بأن نقاطع تلك المنتجات.
قد يتساءل البعض، وكيف نوفر السعر الأعلى ونحن ذوي دخل محدود؟
والسؤال هنا طبيعي. ولكن، إذا قام المرء بمراجعة قائمة استهلاكه، سيجد أن هناك الكثير مما يستهلكه ليس ضرورياً، او هو للرفاه، أو حتى غير صحي كالتدخين مثلًا ، وعليه، فإن إدارة الاستهلاك تسمح لنا بأن نقتطع من الاستهلاك الترفي أو المظهري أو الشره أو استهلاك التقليد ما يعوض السعر المحلي الأعلى للمنتجات الريفية بل وأكثر بكثير.
ينقلنا هذا إلى ثقافة الاستهلاك وضبطها وصدها عبر وعي الاستهلاك.
المرأة ووعي الاستهلاك
تشارك المرأة الفلسطينية الرجل في كل مجال. ولا يحد من مشاركتها سوى ما تُمنع منه. فهي التي تعيد إنتاج المجتمع، وهي المربية وهي العاملة وهي الفلاحة والمعلمة والمثقفة وهي مُسوقة الإنتاج. بل هي في الإنتاج الزراعي تحل محل الرجل الذي تأخذه مسارب الحياة بعيداً عن الإرض! وهذا خلل مجتمعي خطير.
لكن في معرض المقاطعة ومناهضة التطبيع يكون للمرأة دور آخر مهم وحساس وطليعي.
فالمرأة هي التي، غالباً، تُمسك ميزانية الأسرة، أي عملية الإنفاق، وبالتالي هي التي بوسعها ترجمة مقاطعة منتجات الاحتلال إلى ثقافة وقرار عملي وفعال.
وبما أنها المربية، فهي التي تحمل مسؤولية تربية بناتها وأبنائها كي يقاطعوا منتجات العدو. عليها تقع هذه المسؤولية العظمى.
لقد قامت بهذا الدور في الانتفاضتين الأولى والثانية، ومطلوب اليوم مواصلة هذا الدور وتعظيمه.
منتجات الفلاحة… بقعة صغيرة في السوق وحديقة المنزل
إضافة إلى دور المرأة في كل ما ذكر أعلاه ومنها الزراعة على نطاق أوسع، أي الإنتاج من أجل السوق، فإن بوسع المرأة استغلال حديقة المنزل لإنتاج ما تحتاجه الأسرة من الخضار والفواكه.
تظهر أهمية هذا الأمر حين نلاحظ أن معظم الخضار والفواكه التي توجد في أسواق المدن في الضفة الغربية المحتلة هي من منتجات العدو أي من الأرض المحتلة عام 1948 يعود ربحها للعدو.
من يذهب إلى سوق مدينة رام الله مثلاً، يجد الفلاحات يعرضن إنتاجهن في بقعة صغيرة من السوق بينما كامل السوق مُغرق بالمنتجات الصهيونية. ومع ذلك يُطارد رجال البلديات والشرطة هاتيك النسوة لمنعهن من البيع تذرُّعاً بمنظر المدينة. اذهبوا إلى هناك لتشروا وتروا بأعينكم/ن.
إنهن يعانين برد الشتاء وحر الصيف وتعب التنقل في المواصلات العامة كي يصلن بقعة السوق الصغيرة، هناك يخضعن للطرد والإهانات وحتى الابتزاز.
ما معنى نظافة المدينة، وأي منظر للمدينة وهي تتسخ بالاحتلال!
المرأة والإنتاج المنزلي
يمكن للمرأة أن تحول فائض الإنتاج من حديقة المنزل إلى الإنتاج المنزلي لتجعل منهما حلقتين مترابطتين. كان هذا المستوى من العمل المنزلي المنتج من أهم إبداعات التنمية بالحماية الشعبية في الانتفاضة الأولى. فقد تكونت في الأحياء لجان تصنيع المنتجات الزراعية كالتعليب والمربيات، ما حافظ على ذلك الفائض وضمن للفلاحات طريق تصريف الإنتاج، وحافظ على الزراعة المحلية بل وسعها كذلك وأغنى المستهلك عن الكثير من منتجات الاحتلال وساهم في تثبيت المقاطعة.
إن التصنيع المنزلي البسيط هذا مثابة حلقة وسطى بين تلبية حاجة الاستهلاك المباشر وبين الإنتاج الذي يتطلب وقتاً.
لجان حماية، إنتاج وتعاونيات
صار من متطلبات الصراع في طوره الحالي وجوب الانتظام الشعبي من أجل الحماية الأمنية الشعبية للذات طالما لم تقم الأجهزة الأمنية الفلسطينية بدورها. وذلك بغض النظر إن كان عدم حمايتها للناس ناجم عن تفاوت الإمكانات التسليحية مع جيش الأعداء. لأن العدو ليس الكيان الصهيوني وحده بل جميع دول الغرب الراسمالي التي تسلحه وتموله وتدربه . أو إذا كانت مقيدة باتفاقات أمنية علاوة على اتفاق اوسلو وخاصة التنسيق الأمني.
في هكذا مناخ، تصبح الحماية الأمنية الشعبية مبلورة في اللجان الشعبية للحماية هي البديل العملي والمشروع.
وليس شرطاً أن تكون هذه اللجان هرمية البنية وبقيادة على مستوى اللواء أو كل البلد، بل بمبادرات محلية مهامها معروفة وقابلة للتنفيذ.
قد تتطور هذه اللجان إلى حركة حماية شعبية شاملة، وهذا متروك للظروف.
ولكي تتواصل هذه اللجان وتستمر لا بد من خلق أطر تشغيل جماعي لها من جهة ولكي تستقطب الشباب الفتى من جهة ثانية لتصبح المبادرات والحماية والتنمية والصمود الشعبية سلوكاً جمعياً وحالة جمعية عامة ومستدامة، فلا بد أن تبتكر مشاريع عملية.
صحيح أن ما طُرح في هذه الكراسة المتواضعة ينطلق من ضرورة اللحظة والتعاطي السريع معها. ولكن وعي الاستهلاك لا يكفي وحده إذا لم يقترن بمستوى معين من الإنتاج. فلا بد من تأصيل أخلاق العمل والإنتاج في الشباب والشابات كي يكتمل دورهم وعطائهم.
لا يمكن أن يقتصر دور لجان حماية القرى والمخيمات والأحياء على مسألة الحماية. فلكي تستمر هذه اللجان، لا بد أن تنخرط في مشروع عملي يدمجها بالأرض لتنتج شيئاً جميلاً ما، أي لا بد من دور إنتاجي. وهذا ضروري لسببين:
الأول: أن تتذوق طعم العمل والإنتاج الجماعيين ارتباطاً بالأرض.
والثاني: أن تنتج ما تحتاجه من تكاليف بنقسها كي لا تضطر لتغطية نفقاتها بأن يتم احتواؤها من شباك التمويل وخاصة الأجنبية، كما حصل مع الانتفاضة الأولى، حيث كان للتمويل الأجنبي دور أساسي في خرابها وتحول كوادرها إلى موظفين برواتب مغرية ما أبعدهم عن العمل التعاوني ففشلت تلك التجربة.
بل إن أي تمويل اياً كان مصدره لا بد أن يحول الجهد الجمعي التعاوني إلى تابع ومُوالٍ للمموِّل. وحتى لو كان المموِّل حسن النية، فإن التبعية له تقضي على الإبداع الذاتي والمبادرات الحرة والديمقراطية الذاتية وخاصة حينما تُقيم اللجان مشاريع التسيير الذاتي.
ولأن هذه اللجان لا بد أن تتركز في القرى أكثر من غيرها، فإن هيكلية من تقسيم العمل لا بد أن يتخذه نشاطها.
أولاً: في القرى، تقوم اللجان بتشكيل جمعيات تعاونية استهلاكية وإنتاجية زراعية بشكل خاص مستفيدة من عمل أعضائها التبرعي والطوعي حسب وقتهم. يكون أعضاء الجَماعيات بضم أو فتح الجيم عاملين طوعاً ومنتجين ومستهلكين ومستفيدين من العوائد بعد خصم التكاليف وتوفير جزء منها لصندوق التوفير.
ثانياً: في المدن والمخيمات، تقام جمعيات تعاونية استهلاكية ترتبط بتعاونيات جُماعيات القرى لتسويق المنتجات الآتية، والمتفق على تسويقها، من تعاونيات القرى. ويكون أعضاؤها مثابة سوق خاصة أي مستهلكين بقصد ووعي انحصارية أو محصورة لشراء محتويات التعاونية وتكون طبعاً مفتوحة للمستهلك العادي.
من أهم ما يمكن أن تقوم به هذه الجَماعيات استغلال مساحات واسعة من الأرض المهملة سواء المشجَّرة أو الملساء.
بهذا المخطط البسيط يمكننا القول بأن لجان الحماية الشعبية تصبح أيضاً لجان تنمية بالحماية الشعبية تكون مثالاً للبلد ككل.