كنوز غزة الأثرية… تحتضر

ماجدة البلبيسي

على مقربة من الساحل الجنوبي لـ«بحر النصيرات»، وعلى تلة «أمّ عامر» في ركن بعيد هادئ، تغازل تلك التلة أمواج البحر بزرقتها وتداعب رياحه الشمالية الغربية دير القديس الغزّي «هيلاريون»، في موطنه الأصلي وصومعته التي أقامها عام 329 ميلادياً، أي قبل عهد الإسلام بنحو ربع قرن تقريباً.

تجوّلت مجلة «آفاق البيئة والتنمية» برفقة الاختصاصي الدكتور ناصر اليافاوي لمدة ساعتين في أجزاء الدير كافة، حيث كانت أعمال ترميم تُجرى لحظتها لإعادة ولو جزء من قيمة هذا المكان، وتاريخه الذي يضرب في الجذور، إذ عاصر حقباً تاريخية مختلفة، تركت بصماتها على هذا الدير، ليكون أول المواقع الأثرية التي تنبهت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية لترميمه بتمويل من القنصلية الفرنسية، قبل أن يرحل إلى في طيّ النسيان.

تجوّلنا في جنبات أشباه مدينة كانت في زمن قديم تحفة فنية بالغة الدقة في تصميم جدرانها وغرفها وفندقها ومسبحها وأعمدتها وصالات فسيفسائها، تلك البقعة واضحة المعالم التي لم يتجرأ الزمن أن يطمس آثارها وزخرفها ونقشها ورسومات الحيوانات التي زيّنت سطحها، وكتابة رومانية لم تفكّ طلاسمها بشكل نهائي بعد.

لم تفِ الجولة هذا المعلم حقه في التأمل ومشاهدة اللوحات الفنية المتنوعة وبقايا أغلفة توابيت، أعمدة من البازلت وبقايا كنيسة، حوض يستخدم لغسل المسيحيين وتعميدهم، عدا عن حمّام آخر للسباحة ينتهي ببركة للأسماك، محاطة بأعمدة شديدة الصلابة أسطوانية الشكل، وفندق كان قبلة جنسيات مختلفة أقامت فيه.

لهذا الدير قصة عريقة عراقة التاريخ القديم، لخّصها الدكتور اليافاوي بأن هيلاريوس بنى هذا الدير على مساحة كانت تقدّر بخمسة دونمات اختزلت لعوامل مختلفة. وهي مبنية بحجارة غزّية، قابلة للتآكل بفعل عوامل التعرية، لذا كنت أخشى من اندثار هذا المعلم إذا لم يتم ترميمه.

يقول اليافاوي: هيلاريون ناسك غزّي جاء من مصر بعدما هُدّد من قبل الرومان الذين كانوا يدينون بالوثنية المعادية حينذاك للمسيحية، إذ كان أول من أسس وجودها في غزة وأقام له هذه الصومعة بغرض التنسّك. وكان قد هرب من ظلم الرومان إلى قبرص حيث توفّاه الأجل هناك، ونقل قبره أحد تلامذته ودفنه مقابل الكنيسة الأرثوذكسية في الدير. وهناك من يعتقد من المؤرخين أنه تم نقل رفاته إلى الخارج مع عدد من القبور.

سرقة

يجزم اليافاوي أن نحو 70 في المئة من آثار غزة سُرق عبر وسطاء وعصابات الآثار، ووضعت في متحف «روكفلر» التابع للكيان الصهيوني المحتل. عدد من الزوّار سجّلوا شهادتهم في هذا الشأن، ويقول المؤرخ فلندرز: «لو حفرت كل شبر في غزّة لوجدت فيه آثاراً، كونها كانت جسراً وقنطرة يمر عليها كل القادمين من الشرق والغرب.

مواقع مهدّدة

في ما يتعلق بالمواقع المهدّدة بالاندثار، حصر الدكتور اليافاوي عدداً منها على سبيل المثال، تكايا ومساجد في غزة القديمة، قبر المغازاة وسط قرية المصدر، مقبرة الشوباني الأثرية على ساحل النصيرات، مجموعة من الصوامع كان البدو يطلقون عليها «هرابات» جرى طمسها ومنها رومانية وكنعانية ومقام الولية الصالحة خضرة الطنطاوي في قرية المصدر في مدينة دير البلح.

215 معلماً أثرياً من بينها 140 بيتاً أثرياً في قطاع غزة، بحسب ما صرّح به مدير عام الإدارة العامة للآثار والتراث الثقافي الدكتور جمال أبو ريدة، إذ قال: «الوزارة تقوم حالياً بترميم موقع هيلاريون وتسييجه لأنه أكثر المواقع الأثرية المهدّدة بفعل عوامل التعرية، بتمويل قيمته 20 ألف دولار من اليونسكو لتنظيف المكان من العشب الزائد وترميم قطع الفسيفساء وتسييجه لحمايته، وفتحه أمام الزائرين».

إمكانيات متواضعة جدّاً

وقال أبو ريدة: «تعمل الوزارة على قدر إمكانياتها المالية المحدودة لحماية المواقع الأثرية عبر توظيف عدد من الشباب لهذا الغرض، ولكنها لم تستطع توظيف المزيد، وتستعيض عن ذلك بالقيام بجولات ميدانية بين الفينة والأخرى لمراقبة تلك المواقع وهي ليست غافلة وغائبة عنها».

ونفى احتمالية سرقة ونهب وتهريب جزء من الآثار في عهد حكومة غزّة، مؤكداً أن الوزارة معنية بالحفاظ على الإرث الحضاري والإنساني، لا بل تقوم بمقاضاة من يتعدّى على هذه الأماكن مهما كان شأنه.

ونبّه إلى أن هناك مجموعة من المواقع الأثرية مهددة بالاندثار من جرّاء عدم قدرة الوزارة على تحمل تكاليف عمليات ترميمها وحمايتها، وأن أكثرها على سبيل المثال لا الحصر منقطة «البلاخية» على حدود مخيم الشاطئ في غزة، «تل السكن» في منقطة الزهراء وسط القطاع، و«تل القيش» وغيرها.

لم يقلل أبو ريدة من أثر الانقسام على عمل الوزارة وتقصيرها في عمليات التنقيب عن المواقع الأثرية الجديدة، وذلك في ظل أزمة الرواتب، وعدم تخصيص موازنات لهذا الغرض، فبالكاد الوزارة تدير عملية سير العمل اليومي في المواقع الأثرية.

تقاعس

تنتقد الكاتبة والباحثة دنيا الأمل إسماعيل تقاعس دور المجتمع المدني حيال حماية الإرث الحضاري المادي والآثار، معتبرة أنه لا يشكل أولوية للمجتمع المدني كونه من الموضوعات غير الجاذبة للتمويل.

وتشير إلى أن الجهود المتناثرة التي بذلت على مدار سنوات متفرقة لم ترق إلى نهج وممارسة دائمة لإعادة الاعتبار لهذا الإرث الحضاري بالتزامن مع ضعف اهتمام الجهات الرسمية والمؤسسات الأهلية.

الاختصاصية في التاريخ القديم والآثار هيام البيطار عبّرت وبحسرة بالغة عن استيائها إزاء ما حلّ بآثار غزة وتاريخها القديم من محاولات الطمس والتذويب والسرقات على مرّ الحقب التاريخية الماضية. موضحة أن مدينة غزة تمثّل كنزاً مدفوناً يحتاج إلى من يمدّ له يد التنقيب ليرى النور، لا سيما أن عملية التنقيب تحتاج إلى موازنات مالية كبيرة وقرار وطني واحد، إذ تبلغ كلفة التنقيب عن كل موقع أثرى 60.000 دولار.

آثار تصارع الموت

وأضافت البيطار أن هناك مواقع أثرية عدّة تصارع الموت، منها منطقة «البلاخية» التي تعدّ من أشهر المواقع على مستوى الشرق الأوسط، إذ عايشت عدداً من العصور بدءاً بالحديدي ومروراً باليوناني والروماني والبيزنطي وانتهاء بالعصر الإسلامي، وكانت تعرف بـ«ميناء انثيدون». معبّرة عن أسفها أن يتم التعدّي على هذه المنطقة التاريخية وتحويلها إلى منطقة عسكرية مغلقة حتى أمام من يرغب من المهتمين والزائرين.

وتتابع البيطار في السياق ذاته، أن «تل قريش» في المنطقة الوسطى سيصبح شارعاً بعدما نُهبت رماله من قبل المواطنين وجُرفت تلاله الرملية. و«تل السكن» الذي جرى التعدي عليه وإقامة جامعتَي فلسطين وغزة على ترابه، وهو أقدم معلم ويعاصر مدينة أريحا التاريخية، ومنها أيضاً منطقة «تل العجول»، و«المغراقة» التي غابت معالمها وأصبحت منطقة سكنية.

فراغ أمني

واعتبرت المختصة البيطار أن فترة الفلتان أو الفراغ الأمني عامَي 2006 و2007، غيّبت الرقابة عن تلك المواقع بحكم حالة الفوضى، والتي ساهمت في التعدّي على المواقع الأثرية بالزحف العمراني من دون حسيب ورقيب. لافتة إلى أنّ وزارة السياحة لا إمكانيات ضبط ورقابة لديها على مدار الساعة لعدم توفر موازنات توظيف لحراسة تلك المواقع، كما أن عين الوزارة إذا غابت لمدة يومين عن المواقع، نجد الأخيرة قد تعرّضت للتعدّي والنهب والسرقة.

واتّهمت وزارة السياحة السابقة بالتقصير إذ كانت تقوم بأعمال التنقيب ولم تتابعها، تاركة تلك المواقع والأراضي لتمتد إليها يد البلديات وبيعها كما حصل في المقبرة الرومانية في جباليا. عدا عن أن السلطة الفلسطينية ورثت تركة ثقيلة خلّفها الاحتلالان البريطاني والصهيوني، ما ساهم في تضييع الكثير من تراثنا الوطني الذي أصبح يتواجد في المتاحف الصهيونية.

غياب التوثيق

ولفتت أن لا كتب وثقت مدينة غزة القديمة سوى كتاب واحد للمؤرّخ والكاتب فلندرز بتري، ولم توجد أيّ نسخة منه في فلسطين، وهو مكوّن من أربعة أجزاء تحدّثت عن كنوز مدينة غزة القديمة عبر عصور متنوعة، وهذا الكتاب يقدّر ثمنه بـ800 يورو.

يتفق أستاذ علم الآثار القديمة في قسم التاريخ والآثار في الجامعة الإسلامية الدكتور أيمن حسونة برأيه عمّن سبقه، أن هناك مهددات طبيعية وبشرية لمعظم المواقع الأثرية، خاصاً بالذكر «البلاخية» التي تتعرض لعوامل تعرية بفعل مياه البحر وتآكل الساحل الشاطئي من جرّاء إقامة رصيف ميناء الصيادين. إذ تحجز الرمال والأحافير البحرية المتحللة القادمة مع التيار المائي المتّجه بشكل طبيعي من الجنوب إلى الشمال، ويترسب بشكل طبيعي على الساحل، ما يساهم في الحفاظ على التوازن البيئي لرمال شاطئ البحر لا سيما أن الجزء الذي يقع شمال الميناء مباشرة يستمر تأثيره إلى منطقة موقع الآثار الواقع شمال غرب مخيم الشاطئ للاجئين.

ويتابع أن مياه الصرف الصحي تندفع بقوة إلى الشاطئ مسبّبة تآكلاً في الطبقات أو الأطلال الأثرية المتبقية.

تعدّيات بشرية

كما عرّج حسونة على التعدّيات البشرية المتمثلة في المدّ الحضري والمعماري الذي يقام على أجزاء مختلفة من الموقع، إما بشكل عشوائي كغرف الصيادين ومعرّشاتهم، أو بشكل منظّم من قبل مؤسسات ووزارات مختلفة.

وهناك مواقع أثرية أخرى تواجه خطر الاندثار من جرّاء استخدامها كمقلع مثل «تل السكن» الذي يعود إلى العصر البرونزي القديم 3200 قبل الميلاد وقد تم فرزه لمؤسسات وجمعيات متعدّدة، وموقع «تل قريش» في دير البلح ويعود إلى العصر الحديدي القرن الثامن قبل الميلاد ، حيث استخدم كمقلع رمل ونبش عشوائي، ما سبب بتعرّي جدران أسواره الخارجية وهي من اللِّبن وتحتاج إلى حماية وإلى مشاريع تطويرية أيضاً.

توصيات ومعالجات

فيما يرى اليافاوي أن المطلوب لإعادة الاعتبار إلى تراثنا الحضاري، أن تضع وزارة السياحة والآثار يدها بإحكام على بعض المعالم التراثية في قطاع غزة. معرّفة المخطوطات الموجودة عند عددٍ من العائلات وتعميم المعرفة للجمهور، وتنظيم دورات تدريبية للشباب المتخصّصين في دائرة السياحة والآثار في الخارج، وإعادة دراسة تاريخ غزّة الأثرية ومعرفة الآثار التي سُرقت وهُرّبت عبر ما عصابات الآثار، والمحافظة على ما تبقى من إرث حضاري، خصوصاً في بعض البيوت في المحافظة الوسطى، مثل عائلة «أبو سليم» وغيرها.

كما طالب كذلك بتخصيص رحلات موسمية لطلبة المدارس للتعرّف إلى الآثار وتوفير مجلّدات وصور للمواقع الأثرية وتعليقها على جدران فصول المدارس والجامعات، «لأن أمة بلا تراث هي أمة بلا تاريخ، وأن صراعنا مع العدو الصهيوني، هو صراع ليس عقائدياً فحسب، إنما هو صراع حضاري تراثي تاريخي».

ووفق البيطار، المطلوب الوعي أنّ غزة كنز أثري يجب أن يشكل أولوية، وليس موضوعاً ترفياً، فهو يمثل تاريخنا الذي يجب أن ينقل للأجيال القادمة، عبر التعريف بالتراث. وهو ليس دور فرد أو مؤسسة أو وزارة أو وسيلة إعلامية، إنما هو مسؤولية متكاملة من قبل الجميع.

وتؤكد أن المدخل إلى أيّ نهضة وتنمية أثرية، يبدأ من إنهاء الانقسام وإعادة اللُحمة إلى الوطن والقرار الفلسطيني. ومخاطِبة الدول المانحة لدعم هذا القطاع الهام كثروة بشرية واقتصادية وكقضية وجود قبل كل شيء.

وتؤكد إسماعيل على ضرورة ربط التراث والآثار في حماية الهوية الوطنية باعتبار الآثار من دلالات الهوية الوطنية، كما شدّدت على ضرورة وجود استراتيجية وطنية لحماية الآثار.

وأهاب حسونة بالمؤسسات المعنية المختلفة بحماية المواقع الأثرية وتوفير الدعم اللازم لها، خصوصاً أنها مواقع مرشّحة لأن تدرج على لائحة اليونسكو للتراث العالمي، عدا عن كونها تمثل حقباً حضارية متنوعة من تاريخ شعبنا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى