هل يجوز أن يصبح الميثاق أهمّ من الوطن؟
وجدي المصري
فقدان الميثاقية عبارة اعتدنا أن نسمعها عند كلّ خلافٍ سياسي بين الطوائف المتحكّمة بالسياسة اللبنانية منذ اختلاق الكيان اللبناني. وغالباً ما ينام هذا المصطلح على وقع المصالح المتبادّلة، وما يفتأ أن يستيقظ عند تضارب هذه المصالح. فما معنى كلمة «ميثاق»؟ ولماذا تُحاط بهذه الهالة القدسيّة؟
لغةً، الميثاق هو العهد حسبما جاء في «لسان العرب» لإبن منظور و»محيط المحيط» للبستاني. والعهد هو التوافق على شيء معيّن مما يستدعي من المتوافقين احترام هذا التوافق أو الاتفاق والحرص على الالتزام به. ومن الناحية العملية الفعلية المنسحبة على واقع ما نعيشه في لبنان، فإنّ الميثاق الوطني هو الاتفاق الذي تمّ بين بشارة الخوري الماروني ورياض الصلح السُّني على أن ينسلخ لبنان عن «الأمّ الحنون» فرنسا من جهة، وأن لا يغرق في بحر العروبة الهادر من جهةٍ ثانية. وبهذا، يطمئنّ المسلمون إلى عدم الاستمرار بـ»فرنسة لبنان»، ويطمئنّ المسيحيون إلى عدم «عوربة لبنان».
إذن، الميثاق هو مجرّد إتفاق أريدَ منه النأي بلبنان عن التبعيّة لأية جهة، وهذا الاتفاق كان مرهوناً بظرفٍ معيّن. أما الدستور فهو الموادّ التي تنتظم فيها القوانين التي ترسم خطوط النظام السياسي لبلدٍ معيّن. وكلّ دول العالم، تقوم بتعديل دساتيرها لكي تكون متوافقةً مع مصلحة الشعب وتطلّعاته المستقبلية، إذ لا يمكن أن يبقى دستور أية دولة صالحاً على مرّ الزمن بالرغم من كلّ ما نشهده من تطوّرٍ على كافة الصعد. وهذا يعني، أنّ الشعوب والأوطان أهمّ من الدساتير، لأنّ الوطن كبيئةٍ جغرافية موجودٌ قبل الشعب وقبل الدستور. وبعد أن تُوفَّر لهذه البيئة الجغرافية جماعةٌ من الناس تعيش فيها متفاعلةً على خطين: الأول عمودي أي تفاعل الإنسان مع الأرض، والثاني أفقي أيّ التفاعل المشترك بين القاطنين في هذه البيئة المحدّدة، يبدأ التطور باتّجاه التفاهم والتوافق على تنظيم طريقة الحياة، وعادةً ما ينتج عن هذه العملية بعض المواد الناظمة للحياة المشتركة للجماعة، حيث باتت تُعرَف بعامل التطور والاستقرار الاجتماعي بـ»دستور الجماعة». ولم يذكر التاريخ مرةً واحدة أنّ جماعةً معيّنة، أو ما أصبح يُعرف حديثاً بـ»الدولة» التي تُعتبر المظهر السياسي للجماعة، قد قدّست دستورها لدرجةٍ أنها حرَّمت المساس به تعديلاً أو إلغاءً لبعض موادّه، لأنّ الدساتير وُجِدت لخدمة الشعوب والعكس ليس صحيحاً، وهذا يعني أنّ الدساتير، على أهميتها، يجب أن تخضع للتغيير عندما يدرك شعبٌ ما أنّ دستوره بات غير قادرٍ على تلبية تطوّره، هل نحن بهذا المفهوم نجعل من الدستور لعبةً يمكن تغييرها كلما عنّ على بال أحدهم ذلك؟ بالطبع لا، إذ يجب أن يبقى للدستور حرمة ولكن ليس على حساب مصلحة الشعب، وهذا يعني أنّ الشعب، لا الأفراد، هو صاحب القرار. يقول جان جاك روسّو في «العقد الجماعي»، ما يلي: «كلّ قانون لا يوافق عليه الشعب باطلٌ وفارغ. في الواقع، هو ليس بقانونٍ مطلقاً».
وجاء في مقدّمة الدستور اللبناني، أنّ «الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة، يمارسها عبر المؤسسات الدستورية». فإذا كان الشعب هو مصدر السلطات، فهذا يعني أنه الوحيد المخوّل بإجراء التعديلات اللازمة التي يتوخّى منها تحقيق مصلحته. أما الوسلة المعتمَدة عند كافة الشعوب المتحضّرة عند الحاجة لإجراء هذه التعديلات فهي الاستفتاء والذي لم تلجأ إليه أية حكومة في لبنان بالرغم من كثرة المحطات التي كان على الشعب وحده أن يقول كلمته فيها، والذي لا يزال يُحرم من هذا الحق نتيجة تسلّط الطبقة الحاكمة وسعيها الدائم إلى تحقيق مصالحها على حساب مصالحه. فإذا كان الميثاق يقتضي دوام التوافق بين الطوائف، فإنّ الفقرة ح من مقدّمة الدستور نصّت على أنّ «إلغاء الطائفية السياسية هدفٌ وطني». كما جاء في المادة 24 من الدستور بأنه على المجلس النيابي وضع قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، وحدّدت توزيع المقاعد في المجلس النيابي طائفياً، والذي تمّ تعديلها لتصبح أخيراً مناصفةً بين المسيحيين والمسلمين، بانتظار وضع مثل هذا القانون. وجاءت وثيقة الطائف لتؤكد على ذلك من خلال دعوتها إلى تشكيل الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية. ولكي لا تكون هذه النقلة دعسةً ناقصةً نتيجة تجذّر الفكر الطائفي لدى الإنسان في لبنان بشكلٍ عام، لحظت الوثيقة أيضاً إنشاء مجلس شيوخ على أساسٍ طائفي.
وها لبنان اليوم يمرّ بأزمةٍ سياسية أوصلته إلى شللٍ تامّ على كافة المستويات من شأنها أن تقود البلد إلى هاويةٍ سحيقة لن يكون له قيامٌ منها. كلّ التقارير تفيد بأنّ الوضع المالي سيتردّى كثيراً وسيؤدّي ذلك إلى زعزعة الثقة بمصداقية لبنان على الصعيد الاقتصادي العالمي إذا لم يقم المجلس النيابي بالتشريع والبتّ بالقروض الجاهزة للتسليم، وهذا ما دفع برئيسه نبيه بري للدعوة إلى عقد جلستين علّنا ننقذ السفينة من الغرق، فكيف يمكن أن نترك هذه الفرصة تتلاشى بحجّة غياب قسمٍ من النواب يمثلون جزءاً من طائفةٍ معينة استناداً إلى مفهوم الميثاقية؟ الميثاقية وُجِدت في حينه للمحافظة على الكيان، فهل يجوز أن تصبح سبباً لهدمه؟ إنّ قانون الانتخاب دون شكّ له أهمية لا تضاهيها أية أهميةٍ أخرى، لكننا لم نسمع أياً من الفرقاء يشدّد على ضرورة تطبيق الدستور لجهة إقرار قانونٍ انتخابي خارج القيد الطائفي. فكلّ ما يطالب به البعض هو قانونٌ على أساس النسبية، بغضّ النظر عن عدد الدوائر، ولكن من دون أية إشارة إلى إلغاء الطائفية السياسية. كلّ الذين ينادون بالمحافظة على اتفاق الطائف الذي ينصّ على إلغاء الطائفية السياسية، يبرّرون عدم التوصّل إلى إلغائها لأنّ نظام الوصاية السوري كان يمنع ذلك، وفاتهم أنّ هذا النظام قد ولّى منذ عشر سنوات، فماذا فعلوا لكي يصحّحوا أخطاء هذا النظام؟
لقد بات واضحاً أنّ الطبقة السياسية الحاكمة هي التي لا تريد تطبيق بنود وثيقة الطائف إلا ما توافق منها مع مصالحها. جميعُ مَن في السلطة وافق نظرياً على تخفيض سنّ الاقتراع إلى 18 سنة، وعندما بات الموضوع على المحكّ، تراجعوا ولأسبابٍ طائفية. كلهم ينظّرون بأنهم غير طائفيين، وبأنهم يريدون دولةً مدنية علمانية تلبّي طموحات الجيل الجديد، لكنهم سرعان ما يتظلّلون طوائفهم لحماية مصالحهم باسم المطالبة بحقوق الطائفة والدفاع عن مصالحها. ألم يحن الوقت لكي ندرك فعلاً لا قولاً بأنّ الطائفية وحدها تشكل أكبر عائقٍ أمام تقدّم لبنان وتطوّره، وهي التي أغرقته بأكثر من فتنةٍ وحرب، وأنّ كل هذه الفتن والحروب كانت نتيجة تخطيطٍ خارجي لمنع اللبنانيين من الانصهار التام والتوافق على المصلحة العامة التي تتخطى الطوائف والزعامات لأنها تتركّز على مفهوم المواطنية الحقيقية؟
عندما حاول اليهود إحراج يسوع لكي يحدّد موقفه من العمل يوم السبت، أجابهم بأنّ السبت خُلِق للإنسان وليس الإنسان للسبت. وهذا يعني أنّ الإنسان بقيَمه هو محور هذه الحياة. فهل يمكن لأيّ ميثاقٍ أو دستور أن يستعبد الإنسان؟ وهل يمكن الوقوف دون مبالاة متمسّكين بما يروق لنا من الميثاق ونحن نرى الوطن ينهار؟ وهل التمسّك بما هو مهمّ في حياتنا السياسية، قانون الانتخابات، أهمّ من المحافظة على وحدة المؤسسات الدستورية وسير عملها وانتظام دورها لكي تقوم بما عليها خدمةً لمصلحة المواطنين؟ وهل هي المرة الأولى التي يُنتهَك فيها الدستور والميثاق؟ وإذا توافق التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية على هذا المطلب الميثاقي، فماذا يمنع توافقهما على كلّ المطالب الأخرى وفي طليعتها انتخاب رئيسٍ للجمهورية، إنهاءً لهذه المهزلة التي كلما طالت كلما كثُرَت المسامير التي تُدقُّ في نعش الوطن؟
يقول الرئيس حسين الحسيني، عرّاب الطائف، بأنّ ما يتمّ تداوله حول الميثاقية هو مجرّد بدعة، لأنّ الطائف تتطرّق إلى المناصفة بعدد النواب بين المسلمين والمسيحيين، لكنه لم يأتِ على ذكر فقدان الميثاقية إذا قرّر فريقٌ طائفي الاعتكاف نيابياً أو وزارياً لسببٍ من الأسباب. النائب سامي الجميّل تحدّث بشكلٍ منطقيّ وموضوعيّ لجهة أنّ الدستور واضحٌ من خلال تحديد عمل المجلس النيابي بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بانتخاب رئيسٍ جديد، وهذا يعني أنّ التشريع قبل الانتخاب يُعدُّ مخالفةً دستورية واضحة. ولكن من حقنا التساؤل: هل التشريع في ظلّ غياب الرئيس هو المخالفة الدستورية الوحيدة؟ وماذا إذاً عن استمرار الإنفاق، على سبيل المثال، على القاعدة الإثني عشرية، لسنواتٍ وسنوات، ورفض البعض الخضوع لأحكام الدستور خوفاً من اكتشاف المنهوبات التي قام بها؟ ونتساءل أيضاً: ألا يبرّر تشريع الضرورة مسألة الخطر الذي يتهدّد الوطن إنْ لم يبادر المجلس النيابي إلى البتّ ببعض ما هو مصيري؟ أليسَ من واجبنا أولاً المحافظة على الوطن، ومن ثم السعي لوضع كافة الأمور في نصابها القانوني والدستوري؟
الدساتير تتغيّر، والمواثيق تتجدّد، الأوطان وحدها تبقى وتتطوّر، ولا يمكن أن يكون تطوّرها في سبيل الأفضل إلا إذا أقدمت على تعديل دساتيرها بما يتوافق مع تطلعات شعوبها. فعلى الحراك الشعبي أن يتجاوز مسألة النفايات ليركّز على ماهيّة النظام السياسي بأكمله. فلو كان هذا النظام متطوّراً بما يتناسب مع تطلعات الشعب من جهة، ومع تطوّر البلدان المتقدّمة من جهةٍ ثانية، لما وصلت بنا الحال إلى ما نشاهده اليوم من انهيارٍ لكلّ مؤسساتنا.
إنّ هذا الانهيار مُتوقّع لأننا نسير عكس الجدليّة التاريخية، فلبنان الذي قام على أسس طائفية محكومة بظرفٍ معيّن، كان من المقدّر له، لو توفّرت له طبقةٍ سياسية وطنية مترفّعة عن المصالح الخاصة، أن يطوّر نظامه ويخرج من شرنقة الطائفية إلى رحاب الانتماء الوطني الذي يؤمّن العدل الاجتماعي لجميع أبناء الوطن بغضّ النظر عن أي انتماءٍ طائفي، لأنّ الوطن إنْ لم يكن لجميع أبنائه، أصبح أقرب إلى المزرعة. فهل مَن يعيد تثبيت البوصلة لتوصلنا إلى برّ الأمان؟