فك الحصار عن كويرس: إبداع عسكري… يسرّع الحسم والحلّ
العميد د. أمين محمد حطيط
ستدخل معركة فك الحصار عن مطار كويرس شرق حلب التاريخ العسكري من بابه العريض لسببين أولهما طبيعة هذه المعركة وما استلزمته من عمل بعد الصمود حتى آلت إلى النتائج التي تحققت لمصلحة الجيش العربي السوري وحلفائه، والثاني لجهة تداعيات هذا الإنجاز العسكري على مجمل الصراع الكوني القائم على الأرض السورية وما يُحيط بها.
أ ـ ففي العنوان العسكري نسجّل ما يلي:
1 ـ في الدفاع والصمود، يُسجّل لحامية المطار إبداعها في تنظيم دفاعها، وإبداعها في تنظيم الحياة على مركز محاصر، ونجاحها في حفظ معنويات أفرادها في مستوى عالٍ مكّنها من حفظ إرادة القتال والمواجهة الدفاعية في ظروف قاسية. ويعلم العسكريون بشكل خاص أنّ المعنويات عادة تهبط إلى حدّها الأدنى عندما يحاصَر المركز، ومع تراجعها تتراجع إرادة القتال عند نسبة عالية من القوى، وهنا تتجه القوى عادة إلى الانهيار الإدراكي والتسليم أو الاستسلام. لكن ذلك كله لم يحصل في مطار كويرس المحاصَر بل استمرّت القوى المدافعة عنه مالكة زمام الأمور ومسيطرة على معنوياتها ومحتفظة بإرادة القتال طيلة السنوات الثلاث من الحصار وبهذه المعنويات وإرادة القتال الفولاذية تلك تمكّنت حامية المطار المحاصَر أن تتصدّى وتردّ موجات متلاحقة من هجوم متكرّر قامت به الجماعات الإرهابية حتى أنّ عدد ما شُنّ من هجمات أو محاولات اقتحام بات يُحسَب بالمئات.
2 ـ أما في الهجوم، وهنا نذكر بأنّ فك الطوق عن قوى محاصَرة يُعتَبر عسكرياً من العمليات المعقدة والخطرة في آن واحد، لأنه يفرض في الآن ذاته التقدّم في جهاز العدو لاختراقه وإحداث الثغرة المناسبة فيه لتقدّم الوحدات التي ستكون مستهدَفة من مجنباتها، مع قيود على الدعم الناري الذي تتلقاه، والالتزام بنمط عمل منسّق بين قوى الحركة والنار. وأنّ هذا الأمر لا تقوم به إلا وحدات تمتلك لياقة عسكرية عالية واحترافاً في عمل الأسلحة المنسقة والمتكاملة في الميدان، ثم ثقة بالنفس وثقة بالوحدات الصديقة العاملة في الجوار. لكلّ ذلك قلنا إنّ كسر الطوق وفك الحصار هو عملية مركّبة ومعقّدة فيها المادي والمعنوي وفيها الاحتراف والتدريب وفيها الخبرة بتقليب السلاح واستعماله والتحرك به.
ب ـ أما في التداعيات، ولأنّ للصمود في مطار كويرس ولمعركة فك الحصار عنه لها هذه الأهمية والخطورة، فإننا نرى أنّ تداعيات نجاح سورية وحلفائها في هذه المعركة ستتجاوز الشأن العسكري المباشر لتتمدّد على مروحة واسعة ممّا له علاقة بالشأن الاستراتيجي والسياسي على حدّ سواء أيضاً، وهنا يمكن ذكر شيء من ذلك وعلى وجوه عدة:
1 ـ فعلى الصعيد العسكري ستكون آثار المعركة فاعلة في اتجاهين في الآن معاً:
ــــ في اتجاه الجيش العربي السوري ستدفع إلى مزيد من الثقة بالنفس وبالقدرات وبالحلفاء، وطمأنينة إلى أهلية هذه القوى لخوض المعارك الكبرى والمعقدة والمركّبة وربحها. وهذا ما سيدفعه وعملاً بمبدأ الإسراع في «استثمار النصر وتطويره»، إلى الاندفاع في الميدان لتحقيق إنجازات جديدة وتطهير مناطق إضافية، ما قد يترجم تحركاً في الميدان لملاحقة فلول المسلحين وتحصين المطار بأحزمة أمان إضافية وتوسيع رقعة المناطق المطهَّرة حوله.
ــــ وفي اتجاه الجماعات الإرهابية ومشغّليها، فإنّ المعركة وجهت لهم رسالة بليغة حول القدرات السورية والحليفة التي تستعمل الآن في الميدان ومدى الطاقات العسكرية المتشكلة في مواجهتهم، ما سيدفع بهم إلى مزيد من الانهيار الإدراكي الذي يدفعهم إلى الخروج من الميدان من غير قتال، كما حصل في قريتين في جوار مطار كويرس، ثم أنّ الانهيار المعنوي هذا يقود إلى تفسّخ وشقاق بين فصائل الإرهابيين يحول دون صمودهم ما يسهّل المعارك المقبلة ويسرّع إنهاءها لمصلحة الجيش العربي السوري وحلفائه.
2 ـ أما استراتيجياً ورغم الكثير الذي يمكن قوله هنا إلا أننا نكتفي بذكر أمر أسلس يتصل بالجبهة الشمالية لسورية، وأهمية إغلاقها على مسار الحرب وموقع المطار من هذا الشأن. فالمطار ومحيطه سيكونان الخطوة الأولى لإغلاق هذه الجبهة في نهاية المطاف. وأننا نرى أنّ انهيار المسلحين في منطقة كويرس ثم اندفاع الجيش شمالاً مستفيداً من زخم الانتصار سيؤدّي بشكل متلاحق إلى عزل منطقة شرق حلب عن الرقة، ثم يؤدّي إلى قطع طريق إمداد الإرهابيين من بلدة الباب إلى حلب، ثم أنه يتخذ قاعدة تحشُّد وانطلاق آمنة للسير قدماً بمعركة حلب الكبرى، المعركة التي قالت قوى الدفاع عن سورية بأنها جاهزة لتقديم مئة ألف شهيد من أجل إنجازها وتطهير حلب ومنطقتها من الإرهاب فيها فإذا تمّ ذلك، وهو أمر لم يعد مستبعَداً، فإن انقلابا استراتيجياً كبيراً سيحصل في المشهد، حيث إنه سيؤدّي إلى تعطيل جبهة الشمال التركية ومنع استعمالها ضدّ سورية، فإذا تذكّرنا أنّ الجبهة من لبنان باتت شبه مقفلة، والجبهة من الأردن مجمّدة، وجبهة العراق مقيّدة، فإننا نقول إنّ إنجاز هذا الأمر على جبهة الشمال سيقود إلى رسم العلامة الأولى على درب إسقاط الإرهاب واستعادة الاستقرار إلى سورية.
3 ـ أما سياسياً، فإننا نتوجّه هنا إلى ما سيكون بعد الغد في فيينا، ونذكر بأنّ المحاور أو المفاوض سياسياً لا يختلق على طاولة المفاوضات شيئاً لا يوجد في الميدان، فطاولة التفاوض هي مكانُ صرفِ ما في الميدان. وإذا كان الإقرار الأميركي قبل فيينا 1 بأنّ الميزان العسكري في الميدان السوري راجح لمصلحة الحكومة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد قاد إلى بيان فيينا الذي نسخ أو ألغى طموحات من يريد إسقاط سورية، وتجاوز جنيف 1، وعطّل ما فيه من أفخاخ، فإن انتصار سورية في معركة كسر الحصار عن كويرس ستلزم الخصم بالإقرار بأنّ في سورية رجالاً وقوى تمتلك المؤهلات العسكرية والميدانية التي تمكّنها، ليس منع حرب الاستنزاف التي شاءتها أميركا فحسب، بل تمكّنها من اجتثاث الإرهاب واستعادة الاستقرار من دون أن يكون لقوى العدوان في الأمر رأي أو قرار، وهذا ما سيسهّل العملية السياسية، لأنّ الخصم سيدرك أنّ من مصلحته القبول اليوم بحلّ يحقق له بعض المكاسب قبل أن يأتي يوم لا يكون له في الميدان ما يفاوض عليه.
هي معركة كويرس إذن، المعركة الهامة التي تشكل حلقة من سلسلة المعارك التغييرية التي طبعت الحرب الدفاعية في سورية، معركة تنضمّ إلى مثيلاتها كمعركة القصَيْر 2013 وسواها من المعارك الكبرى ذات المفاعيل المركبة، والتي شكلت في ذاتها رسائل لمن شنّ العدوان على سورية ومحور المقاومة أنّ هذا المحور لن ينكسِر وليس في قاموسه إلا عناوين الانتصارات.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية