نظرية بريجنسكي تجيب على مرحلة كارتر الانتقالية…

د. محمد بكر

ما قاله وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر في منتدى الدفاع بولاية كاليفورنيا لم يكن مجرد كلام تمكن قراءته في سياق «التسعير» للمواجهة مع خصمه الروسي، وإذكاءً للنار التي تأكل المنطقة فحسب، بل ما يمكن أن يشكله هذا الكلام من استراتيجية محكمة تعمل الولايات المتحدة على صياغتها ورسم دقائقها وتفصيلاتها باقتدار وأبلسة فريدين على قاعدة «الضمان» الأميركي بأنه هو وشركاؤه في وضع يسمح لهم بهزيمة تهديدات الخصوم وسط مجموعة معقدة من الظروف بحسب تعبير كارتر.

حديث كارتر عن مرحلة انتقالية استراتيجية للردّ على ما سمّاها تحديات أمنية للمستقبل الأميركي، وتوصيفه لدور روسيا في المنطقة بدور «المخرّب» لجهة خرق المبادئ التي يقوم عليها النظام الدولي بحسب معيار كارتر، إضافة إلى إعلانه أنّ واشنطن تتبع خططاً طارئة لردع روسيا عن ارتكاب ما سماه أيّ عدوان، وكذلك مساهمتها في تقليص هشاشة حلفائها، لا يشي مطلقاً بأنّ المرحلة المقبلة للصراع الذي تشهده المنطقة سيحمل عناوين التوافقات والتسويات المستند إلى مبدأ رابح ـ رابح بل ثمة جهود حثيثة على ما يبدو من جانب كلّ طرف لكسر هذه المعادلة وتالياً القدرة على فرض مقاسات الحلّ وأبعاد التسوية على قاعدة رابح مرتاح رابح مجبر .

فكيف تمكن لنا قراءة وتحليل المرحلة الانتقالية التي تحدث عنها كارتر، وهل نحن على أعتاب مواجهة مباشرة روسية أميركية؟ وعلام يعوّل الأميركي في تلك المرحلة؟ وما هي الأوراق التي من الممكن صياغتها، ولا سيما بعد التدخل الروسي العسكري في سورية؟

في ثمانينيات القرن الماضي وفي وقت كانت الحرب العراقية الإيرانية حرب الخليج الأولى في ذروة احتدامها، لم يجد بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي في ذلك الوقت أي حرج في القول: المعضلة التي ستعاني منها أميركا من الآن فصاعداً، هي العمل على تنشيط حرب خليجية ثانية على هامش ونتيجة حرب الخليج الأولى تتمكن الولايات المتحدة من خلالها تصحيح حدود سايكس ـ بيكو بما يخدم الصالح الصهيو- أميركي ، حينها بادر مستشار وزير الدفاع الأميركي برنارد لويس لتحضير الوصفة، وتطبيب المعضلة فكان مخطط تقسيم العالم العربي والإسلامي إلى دويلات وكانتونات طائفية في كلّ من مصر والعراق وسورية وإيران والخليج وباكستان والمغرب العربي حاضراً وفي متناول أعضاء الكونغرس الذي وافق على المخطط وأقرّه في عام 1983.

برنارد لويس نفسه كان قد صرّح لوكالة الإعلام الأميركية في أيار من عام 2005 أنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية إلى وحدات طائفية وعشائرية ولا مانع عند حدوث ذلك أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية، وهو الذي كتب في صحيفة «وول ستريت» أثناء انعقاد مؤتمر أنابوليس للسلام الذي دعت إليه أميركا عام 2007 قائلاً: «يجب أن ننظر إلى هذا المؤتمر ونتائجه باعتباره مجرد تكتيك موقوت غايته تعزيز التحالف ضدّ الخطر الإيراني وتسهيل تفكيك الدول العربية والإسلامية ودفع الأتراك والأكراد والعرب والإيرانيين ليقاتل بعضهم بعضاً كما فعلت أميركا مع الهنود الحمر من قبل».

وهذا ما تسعى الولايات المتحدة إلى صياغته وإعادة هيكلته اليوم من تكتيكات موقوتة ، ولا سيما بعد المآلات غير المرجوّة من الحرب الأولى التي شنّتها الولايات المتحدة الأميركية على المنطقة بعد تسويغ وتصدير «الحياة الديمقراطية» للشارع العربي، وتحت عنوان الربيع، إذ لا يزال طرفا الهدف الأساسي جراء تلك الحملة، وهما السوري والإيراني موجودين على الأرض وكذلك حليفهما الاستراتيجي حزب الله، والإمكانيات العسكرية لهم وإنْ لم تبادر تلك الأطراف بتصعيد مشهد المواجهة مع «الإسرائيلي» لا تزال بمستوى «التهديد المقلق»، على الرغم من جبال الدمار والخراب والكوارث الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية التي راكمتها التكتيكات الأميركية في الجغرافية السورية، لكن بقاء الدولة السورية ونجاح إيران في معركتها السياسية في المفاوضات النووية، وبقاء حزب الله في موضع القوة على الرغم من انشغاله واستنزافه في الساحة السورية، إضافة لما زاد الطين بلة من وجهة النظر الأميركية بدخول السوخوي أجواء المواجهة، وما يمكن أن يترتب على ذلك من إطاحة بجملة الأوراق التي يستثمر فيها الأميركي في الداخل السوري من مجاميع مسلحة بالجملة، تأتي المرحلة الانتقالية الاستراتيجية التي تحدّث عنها كارتر في ظروف معقدة بالفعل، هذه المرحلة التي ستكون بمنزلة صياغة وتشكيل حرب جديدة تختلف هذه المرة بشكل المواجهة وطبيعة إدارة الصراع، ستعمل فيها الولايات المتحدة على «كسر» العنفوان والإقدام الروسي ومعاقبته على «العقوق» التي صاغها في المحافل الدولية، ولن تستثمر فقط في وسائل فائقة التطور مثل الطائرات بدون طيار والقاذفات بعيدة المدى والليزر والحرب الالكترونية كما قال كارتر، بل بتعزيز «صمود» وتسليح ما تصر واشنطن على تسميته «معارضة معتدلة»، ومن هذه الزواية تحديداًً نقرأ مدلولات إعلان تدريب «قوات سورية الجديدة»، وكما تحوّلت المعركة أميركياً في مرحلة من المراحل من «الإخوان المسلمين» إلى «داعش»، يتحوّل اليوم الخيار الأميركي من مرحلة «داعش» إلى مرحلة «تعميم الحريق» عبر «داعش»، لن تجد فيه الولايات المتحدة في اعتقادنا أيّ حرج في مرحلة معينة في أن تصادق على معروضٍ كانت قد قدّمته بعض الدول للانخراط المباشر في الحرب السورية، وذلك انتصاراً لرؤية برنارد لويس، ولتصحيح حدود وشكل المشاهد المتبدّلة في الميدان السوري، ليس لردع روسيا وحسب إنما لتكريس الهشاشة لتكون في أعلى معدلاتها بل وتصفية أيّ عوامل «للعزم» والقوة في بنية حلفاء موسكو، ومن هنا نقرأ ونفهم ما أدلى به كارتر نفسه في لقاء مع مطبوعة «أتلانتيك» لجهة دعوة العرب للكفّ عن شراء العتاد العسكري باهظ الثمن والعمل على تكريس إرادتهم لمواجهة إيران داعياً دول مجلس التعاون الخليجي لما سمّاه تعزيز قدراتهم البرية لمواجهة إيران و»داعش» على حدّ تعبيره، وفي السياق ذاته، نستقي مدلولات ما صرّح به العميل السابق في وكالة الأمن القومي إدوارد سنودن لصحيفة «دينجيس» السويدية لجهة أنّ استخدام أميركا لطائرات من دون طيار يساهم في إنتاج أعداد كبيرة جداً من المجموعات المسلحة مقارنة بالذين يتمّ قتلهم.

الثابت أنّ «الهدير السياسي» الأميركي لمراحله الانتقالية الاستراتيجية لن يتوقف وستزداد وتائره تباعاً، في محاولة «لخفت» هدير السوخوي الذي لن يعرف هو الآخر طريقه إلى الهدوء.

كاتب فلسطيني مقيم في سورية

mbkr83 hotmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى