فتحٌ يتيمٌ لبرلمان الضرورة واستغلال الفرصة لتمرير تشريعات معيّنة بإرادة دولية
هتاف دهام
حكمت الجلسة التشريعية التي عُقدت أمس، مجموعة من التطورات برزت أهميتها في التسوية السياسية الموضوعية التي منعت حافة الهاوية التي وصل إليها كلّ اللاعبين السياسيين، وأعادت لملمة الوضع الداخلي، وسمحت لرئيس تيار المستقبل سعد الحريري بأن يكون في قلب التسوية التي جرت عبر صدفة الرياض ، التي لعب فيها الحريري نفسه دور الحاضنة، وهو بأمسّ الحاجة إلى أن يظهر بمظهر القادر والفاعل سياسياً بعد غياب طويل وتشرذم لتياره السياسي، وإنْ حاول أن يظهر بمظهر الحريص على إقرار قانون الانتخاب برفض المشاركة في أيّ جلسة مقبلة لا يُدرَج على جدول أعمالها، محاولاً بذلك صدّ أبواب المجلس النيابي إلى أجل غير مسمّى، وقد يكون ما قاله النائب في كتلة لبنان أولاً سيرج طورسركيسيان الذي برغم الأجواء الكوميدية التي يشيعها في الجلسة وتبعث الحياة ولو للحظات: هذه جلسة تاريخية، وقد لا تُعاد، وهي تعبّر عن الواقع»، فرئيس مجلس النواب نبيه بري لاقاه بالقول: «ليجتمع مجلس النواب بدّك الجن، وليجتمع مجلس الوزراء بدك الإنس والجن!». لـ»يطلع دين» الوزير بطرس حرب من الجمود المسيطر في البلاد ومن شلل الحكومة وصعوبة الوضع، وهذا خير دليل على أنّ هذه الجلسات الثلاث التي دعا إليها بري أمس واليوم ستبقى يتيمة إلا إذا حصلت معجزة الاتفاق على قانون الانتخاب.
أعطت هذه الجلسة فرصة الحدّ الأدنى للحفاظ على الاستقرار الداخلي وتحصين الوضع الأمني بهذا الحدّ الأدنى من الاستقرار السياسي. وأتى تفجيرا برج البراجنة في الضاحية الجنوبية مساء أمس كتأكيد على الحاجة الماسّة لمثل هذا الالتئام الداخلي الذي عبّرت عنه الجلسة، لا بل إنّ التفجيرين سيشكلان حافزاً للمزيد من البناء على ما جرى في المجلس، بخاصة أنّ الجلسة استبقت عشية انعقادها بدعوة من الأمين العام لحزب الله السيد نصرالله، وبتوقيت مهم ومدروس جداً، إلى تسوية سياسية والتركيز على الشراكة.
وأمام الجريمة الكبرى التي حصلت مساء أمس، والتي خطفت الأضواء عن الجلسة التي رفعها بري إلى اليوم، مؤكداً «مواجهة الإرهاب الذي لن يخيفَنا»، بعد أن وقف النواب دقيقة صمت على أرواح شهداء برج البراجنة، وما أفرزته من معطيات، يبقى من الواضح أنّ المبرّر المالي وبعض التشريعات المرتبطة بانعقاد الجلسة هي كلمة السرّ الحقيقية وقوة الدفع التي أدّت إلى الفتح اليتيم لبرلمان الضرورة واستغلال الفرصة لتمرير تشريعات معيّنة بإرادة دولية استفادت من الظلال اللبنانية ومبرّراتها لتمرّر ما تريد من دون أن ينتبه إليها كثيرون.
أما الصخب الذي حصل داخل الجلسة ليس إلا تأكيد كلّ طرف على حضوره السياسي ومحاولة الحفاظ على شخصه وبالمجمل، كان الجدل البيزنطي المملّ ليس الأساس في المشهد، بل الأساس ما يُراد تمريره من مشاريع واقتراحات قوانين، أبرزها مشاريع القوانين المتعلقة بالتصريح عن نقل الأموال عبر الحدود وبتبادل المعلومات الضريبية وبمكافحة تبييض الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب التي تحظى باهتمام أميركي تبلّغه الحريري شخصياً ورئيس حزب القوات سمير جعجع عبر موفد أميركي. وهذا ما دفع جعجع إلى التفتيش والحريري أول من أمس، للساعات القليلة الفاصلة عن موعد الجلسة، عن مخرج لحضور الجلسة التي لا يكترث الأميركي، بحسب مصادر نيابية لميثاقيتها أو للحضور المسيحي فيها.
وبانتظار جلسة الخامسة من عصر اليوم التي ستقرّ فيها هذه المشاريع، فإنّ حزب الله سيفتح نقاشاً حولها وسوف يُدخل تعديلات عليها، ويطالب بأخذ تعريف جامعة الدول العربية بدلاً من التعريف الغربي، في مشروع مكافحة تمويل الإرهاب، ويؤكد ضرورة تعزيز دور القضاء في مكافحة تبييض الأموال والحؤول دون مصادرة صلاحيته من قبل هيئة التحقيق الخاصة، ويسعى في نقل الأموال عبر الحدود إلى التفتيش عن آلية تحفظ سرية البيانات على قاعدة المعلومات التي يبنيها الجمرك على أموال المغتربين الذين يدخلون أموالاً إلى البلاد.
سيطر الملل على الجلسة التشريعية الأولى بعد التمديد لمجلس النواب في العام 2014. وبدت الخطابات السياسية في الأوراق الواردة لا معنى لها إلى حدّ كبير. لم يستمع أحد من النواب إلى الآخر، فأتى الكلام السياسي أمام حجم الأزمات والتطورات قاصراً. هذا الملل حمل نواب 8 و14 آذار وما بينهما من نواب وسطيين إلى الخروج من القاعة لشرب القهوة سواء في الصالونات والمكاتب المجاورة للقاعة العامة أو في المقاهي المجاورة للمبنى، أو عقد اللقاءات الجانبية على الواقف في loby المجلس والاستمتاع برفقة الصحافيين في الأماكن المخصصة لهم، فلا أحد من أصحاب السعادة قدّم جديداً جديراً بالاستماع والإصغاء.
أقرّت الجلسة اقتراح القانون المعجّل المكرّر الرامي إلى استعادة الجنسية وتمّ التوافق على تشكيل لجنة تؤلف من قاضٍ عدلي من الدرجة العاشرة على الأقلّ أو قاضٍ إداري من الدرجة التي تماثلها على الأقلّ يسمّيه وزير العدل بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى أو مكتب مجلس شورى الدولة رئيساً، ومدير عام الأحوال الشخصية عضواً وموظف من مديرية المغتربين من الفئة الثانية على الأقل يسمّيه وزير الخارجية عضواً، وتمّ الاتفاق مع حزب الله وحركة أمل على تعيين مدير عام المغتربين هيثم جمعة عضواً في اللجنة.
كذلك أقرّت جلسة الضرورة اقتراح القانون المعجل المكرّر الرامي إلى فتح اعتماد إضافي في الموازنة العامة 4500 مليار ليرة، بعد التصويت عليه بالمناداة بالأسماء بدل 5417 ملياراً. كذلك صدق اقتراح القانون المعجل المكرّر الرامي إلى فتح اعتماد إضافي في الموازنة العامة قدره ثمانمئة وواحد وستون ملياراً وتسعمئة واثنان وثلاثون مليوناً وسبعمئة وستة وعشرون ألف ليرة لتغطية العجز في الرواتب والأجور وملحقاتها.
أقرّت هذه الاقتراحات المالية بعد جدل عقيم بدأ في نهاية الجلسة الصباحية واستؤنف في الساعة الأولى من جلسة بعد الظهر، يعني ذلك سياسياً أنّ الاشتباك السياسي لا يزال قائماً، فرئيس كتلة المستقبل النيابية فؤاد السنيورة اعترض بشكل واضح على المشاريع التي لها علاقة بنفقات العام 2014 التي تبلغ 2400 مليار وعلى تسوية العام 2012 ومن ثم مشروع 5800 مليار الذي له علاقة بفروق نفقات العام 2016 بالاستناد إلى حسابات موازنة 2005 مضافة إليها الاعتمادات الإضافية التي أقرّت العام الماضي مما يعني أنّ الكتلة الزرقاء تريد أن يبقى الاشتباك المالي والحسابات المالية من العام 2005 عالقاً وترفض أيّ تفسير جزئي لهذه الحسابات وتصرّ على تسوية شاملة تتضمّن تسوية الـ 11 ملياراً التي جرى إنفاقها منذ العام 2006 إلى العام 2009.
كذلك أدخل تعديل طفيف على الاقتراح المتعلق بتخصيص اعتماد عقد إجمالي لتحقيق عتاد وتجهيزات وبنى تحتية لمصلحة الجيش بخفض المبلغ الذي أصبح 1348 من أصل 2400 مليار ليرة، تمّ التوصل إليه في الاجتماع الذي عقده وزير الدفاع الوطني سمير مقبل ووزير المال علي حسن خليل والنائب إبراهيم كنعان في فترة الاستراحة، فطرح التعديل على التصويت في جلسة بعد الظهر وصدّق بالإجماع، بعد أن أرجأ بري البت به في الجلسة الصباحية التي شهدت أخذاً ورداً حول مصير الهبة السعودية افتتحه النائب علي فياض بالسؤال عن مصيرها، مشيراً إلى «أنّ هذا المشروع أقرّ في العام 2012 من قبل مجلس الوزراء، قبل أن تبرز الهبة السعودية وإذا أمعنا النظر بقانون البرنامج الذي تقدّم به مجلس الوزراء يتبيّن أنّ القسم الأكبر من المبلغ مخصص للتجهيزات الفنية، فهل إقرار الهبة السعودية 3 مليارات دولار + مليار دولار يغيّر في طبيعة البرنامج بخاصة أنهما يتقاطعان عند موضوع التجهيزات الفنية؟ وأوضح أنّ هذا ليس اعتراضاً إنما إيضاحات، ليوضح وزير الدفاع سمير مقبل أنّ لبنان تسلّم حتى الآن 597 مليون دولار من أصل 3 مليارات دولار المبلغ الأساسيّ للهبة.
كذلك تحدّث النائب نواف الموسوي الذي على كثرة تصريحات 14 آذار التي تربط السلاح بحزب الله، قال ثمة جهات تتحكّم بنوعية السلاح المعطى لحزب الله»، بدلاً من أن يقول: «المعطى للجيش اللبناني». فتفاجأ هو وضحك ومعه نواب من 14 آذار، مضيفاً على ما يبدو أنّ الهبة خاصّة، فهل لا زالت السعودية على قرارها بتقديم الثلاثة مليارات دولار؟»، وأضاف: «الجهات التي تزوّد الجيش وتقدّم له المساعدات تفرض سقفاً للأسلحة ونوعيتها ما يحتّم علينا البحث عن مصادر تسليح وفق حاجات المؤسسة العسكرية»، ما استدعى دفاعاً حكومياً من الرئيس تمام سلام عن السعودية وهباتها، شارحاً «أن الأمور لا تحصل بكبسة زر».
وإذا كانت هذه الاقتراحات أقرّت إلى جانب 21 مشروع واقتراح قانون آخرين تتعلق بسلامة الغذاء وبقروض وهبات واتفاقيات مالية، فإنّ قانون الانتخاب طرح من قبل النائب كنعان وفق نص تسوية السعودية، ولاقاه فيها عضو هيئة مكتب المجلس النائب القواتي انطوان زهرا بطلب التصويت على إلغاء التوصية التي صدرت في جلسة التمديد للمجلس في العام 2014 بأولوية انتخاب الرئيس. فالقوى السياسية المسيحية قد تحرّرت من هذه الأولوية وعادت إلى أولوية النظام الانتخابي كمدخل لانتخاب الرئيس. وإزاء ذلك أعلن الرئيس بري أنه سيطرح على الهيئة العامة سحب هذه التوصية وتشكيل لجنة مصغرة للبحث في قانون الانتخابات خلال شهر. وفي حال لم نصل إلى اللجنة المصغرة فعلى رئاسة المجلس أن تحيل الأمر على اللجان المشتركة وفقاً للأصول التنظيمية التي يسير عليها المجلس النيابي للوصول إلى قانون انتخابي جديد، لكن موقف تيار المستقبل حليف القوات اللبنانية، رفض إزالة التوصية باللجوء إلى التصويت وهذا يعني أنه يريد أن يبقي أولوية انتخاب الرئيس كبند قائم، فتيار المستقبل لا يقبل حتى الساعة بالبحث عن سلة متكاملة على أن يتظهّر موقفه بشكل واضح من قانون الانتخاب في جلسة الحوار الثلاثاء المقبل. وهذا يعزز تأكيد أنّ الاشتباك السياسي سيبقى قائماً من خلال تشكيل لجنة لإعادة البحث في النظام الانتخابي النسبي التي يتوقع لها أن تكون تكراراً للنقاشات السابقة ما لم يصدر قرار سياسي عن القوى السياسية بضرورة الوصول إلى تفاهم ما ولا يبدو أنّ هذا القرار ناجز.
وفي موازاة كلّ ذلك بقي نواب الكتائب منسجمين مع أنفسهم أكثر من نواب القوات والتيار الوطني الذين في قرارة أنفسهم يعلمون أنّ قانون الانتخاب لن يبصر النور، والنائب سامي الجميّل الذي حضر وزملاؤه إلى ساحة النجمة طالباً من الرئيس نبيه بري تحويل الجلسة التشريعية إلى انتخابية وإدخال صندوق الاقتراع لانتخاب الرئيس، انسحب بعد رفض الرئيس بري الذي يعلم أنّ القرار لم يحِن بعد لانتخاب رئيس، وأنّ ما صدر عن النائب حرب والرئيس السنيورة بعد مغادرة الجميّل في ما خصّ تأكيد ضرورة انتخاب الرئيس لا يتعدّى الاستعراض الإعلامي المملّ والمزايدات الرئاسية والكلّ يعلم أنّ الانتخابات الرئاسية تنتظر تطورات الميدان السوري وما سيتبلور عنها من حلول أو تسويات سياسية لم يحِن وقتها بعد.